أحدث الأخبار
الجمعة 03 أيار/مايو 2024
نهوند أيلول

بقلم : رشا حلوة  ... 9.10.06

أيلول الخريفي، يرقصني هذا المساء، وسينتهي داخلي مثل كل عام. يخترق باب غرفتي بإرادتي، يمسك يديّ الباردتين قليلاً، يجرني مسرعًا إلى الباب، لا يأبه لذهول الحيطان وكل ما يتواجد هنا في البيت. أيلول خريفيّ الشكل أيضًا، وجهه يميل إلى برتقالية الصيف، ورمادية الشتاء. في كل زيارة لي يرتدي ثوبًا أبيض، فهو مزيج من المناسبات.
يُسرع خطواته باتجاه الغرب، تُقسم صخور الشاطئ ذاتها شهريًا وفقًا لعدد أيامه، ثلاثون صخرة منتصبة هنا. قرر أيلول بأنه سوف يرقص معي هذا المساء، هنا على صخوره. سنرقص سويًا على ترتيب الصخور. من الأولى، حتى انتهائه. كان أيلول يجيد كل أنواع الرقص، وعند التقاء اثنين، يُحبذ أي رقصة تُشكل اندماجًا موسيقيًا وجسديًا. بأمرٍ منه سُمعت موسيقى "التانغو"، موسيقى تمنح الراقصين متعة البحث عن الإحساس الملائم، والإرهاق الملازم. لم يكن أيلول غريبًا عني كباقي الأشهر، فأنا وُلدت فيه قبل أكثر من عقدين.
كان برقصته يرميني من صخرةٍ إلى أخرى، لم تكن جميع الصخور متشابهة، كان هنالك صخرتان تعانقان الأسود، أسود الموت الغريب، على الأسود يبدو بقايا أحمر لم يجف بعد، حجم الصخرتين أكبر من حجم الصخور الأخرى، تبدو عليهما الكهولة. للصخرتين انعكاسات على السماء، صورٌ ألوانها قديمة. تقترب رقصتنا باتجاه الصخرة الأولى، يشدني أيلول إليها، فهي متواجدة في بداية الطابور الثالث منه، عمرها أربعة وعشرون عامًا. كان تبدو أكبر من ذلك بكثير. ربما الأسود المزمن، وقلة الألوان على وجهها يعطي شعورًا بالهرم. توقفت الموسيقى، وتركت يده. كانت على الصخرة أشلاء شمع قديم. يحيط الصخرة وردٌ قد جف، وأسماء عديدة ليست غريبة. أسماء تراكمت فوق بعضها البعض، وتراكم بينها ملح الأيام الكثيرة. كنت أعرفها ولا أعرفها، لا مكان للوقوف على هذه الصخرة، فهي ممتلئة بالتفاصيل والأحمر والأسماء. لم أرغب في الرقص بعد، قررت عندها أن "التانغو" موسيقى غامضة، لن أرهق نفسي بالبحث عن مخرج لمتاهة مشاعري بعد اليوم عندما يرقصني أيلول مرة أخرى.
بين صخرة وصخرة يقف برهةً، يتفقد صمتي وتأملي، علني أجد شيئًا يستحق التأمل ولم يخطر على بال أيلول بعد. لكني اكتفيت بالأشياء الواضحة حتى الآن. لم يتحمل البحر فراغ الصمت ونحن نمشي بين الصخور، وبعد أن شعرنا بأن "التانغو" لم يُحتو داخل مزاجنا، فقد قسم البحر صوته إلى نهوند.
مشينا حتى الطابور الأخير، في نهايته صخرة صغيرة، ولدتْ قبل قليل. لكنها كانت تبدو وكأنها تحمل البحر على كتفيها. الأسود كان يبدو جديد الظهور. بجانب الأسود كانت بقعة بيضاء كبيرة نسبيًا، الأحمر يتراوح بين اللونين، يخلطهما في بعض المواضع. ورود، شموع، وأسماء. أسماء تراكمت فوقها طبقات ملحية شفافة، وأسماء تزداد أثناء وقوفنا أمامها.
يقف أيلول بجانبي هادئًا ومصغيًا لموسيقى الموج، يبدو وكأن هذه الصخرة لم تنته من إتعابه، لا يزال يعتني بها يوميًا، يضع عليها باقات الورود التي تصله، يزيل الشمع الذائب، يرتب الأسماء حتى لا تختلط وتمحي بعضها البعض، ويحافظ على البقعة البيضاء.
أثناء صمت أيلول، أدرت وجهي إلى الخلف، إلى صخرة تجاور الصخرة التي لا يزال أيلول يتأملها، لاحظ تحركاتي باتجاه الخلف، ابتسم فجأة، كانت ابتسامته ضرورية. فهو يعلم ما يبعثر داخلي من فوضى. كان النهوند خلفية لاصطدام أقطاب المشاعر ببعضها البعض. هكذا نحن، نولد ونموت في الأيام ذاتها. لا تعني لنا الأيام التي ولدنا فيها، بقدر ما تعني لنا الأيام التي ولدنا منها.
شعر أيلول بأني أغرق في ذاتي، ونهوند الموج يساعد في تهيئة الجو. بإشارة من يده اليسرى للبحر، اعتقدَ بأني لم أرها، أوقف الموسيقى. هدأ الموج قليلاً، كانت صورتنا أنا وهو على الصخرة تحت ستارة السماء السوداء، وخلفنا أوركسترا الأمواج تعزف وقفًا لمزاجنا، أشبه بلوحةٍ سيبحث عن سرها الفنانون بعد ألف عامٍ. حملني أيلول من على الصخرةِ، كانت إشارة منه للموج بأن يعزف موسيقى ترقصنا قليلاً. أصبح خريفيّ الشكل أكثر، ملامحه تكاد تذهب كلما اقترب انتهاؤه، وصلنا الى حافة الصخرة الأخيرة منه والتي ترتبط بالرمل، نزل قبلي عنها، أمسك بيدي ليساعدني على النزول منه، واختفى. أدرت وجهي إلى الخلف أبحث عنه، ازداد عدد الصخور صخرةً واحدةً، ومن بينها كانت أربعة صخور بارزة لتشرين الأول..
* عكا...فلسطين
(عكا 23.9.06)