أحدث الأخبار
الخميس 02 أيار/مايو 2024
سحقاً للديكتاتورية، ولكن!!

بقلم : د. فيصل القاسم ... 24.12.06

أثار مقالي الموسوم "ما أحوج لبنان والعراق إلى ديكتاتور" احتجاجات وردوداً قاسية، واتهمني البعض بأنني أروج "لبقـــــــاء الديكتاتوريات وأنظمــــــة الاستبـــداد بطريقة سهلة وغير مكشوفة"، على اعتبار أنني،حسب رأيهم، عشت "كثيراً في ديار هؤلاء الأســياد الـــــــذين نهبوا الوطن والمواطن". ووصف الكاتب والمعارض السوري ياسين صالح الذي أمضى ردحاً طويلاً من حياته خلف القضبان بسبب اتجاهاته السياسية، وصف المقال بأنه "حنين إلى الوطنية القبلية في حمى الديكتاتور". وتساءل: "لماذا يميل بعضنا إلى افتراض أن الديكتاتورية هي الحل فيما لا تزال معظم بلداننا تحت وطأة ديكتاتوريات عاتية يصعب أن يجد المرء كلمة طيبة بحقها؟ وكيف حصل أن الديكتاتور «وَحَشَنا وهو قُصادُ عيننا"، كما تقول أغنية أم كلثوم عن الحبيب؟" ويضيف صالح بأن "الحنين إلى نظام ديكتاتوري هو نكوص نفسي ورجعية سياسية بكل معنى الكلمة. أجدر بنا أن نتحمل أعباء ابتكار نظام جديد من حلم العودة إلى نظام قديم هو عملياً حرب أهلية ممأسسة ومن طرف واحد".
ليس هناك أدنى شك بأن ما قاله السيد صالح هو عين المنطق، ولايمكن لعاقل أن يختلف معه، إلا إذا كان قد استمتع بملذات الديكتاتورية ومارسها لردح من الزمان، وهو أمر لم ولن يحدث لي. ومع الاحترام للذين هاجموا المقال أقول إن بعضهم اقتبس منه ما يحلو له على مبدأ "ولا تقربوا الصلاة"، وقام البعض الآخر بالرد على شيء لم أذكره، أو اكتفى بعنوان المقال.
السيد صالح مثلاً كتب الشيء وضده في رده على مقالي. لقد قال بالحرف الواحد: "كان يمكن (لنقاشي) أن يكون أكثر إقناعاً لوأنني اكتفيت "بالدعوة إلى إجراءات ديكتاتورية وقتية لضبط أوضاع العراق، أي لو لم أجعل الديكتاتورية حلاً". هل يمكن أن تدلني على العبارة التي اعتبرت فيها الديكتاتورية بلسماً شافياً لمجتمعاتنا؟
صحيح أنني قلت بأن لبنان والعراق قد يكونان بحاجة لنظام ديكتاتوري، لكن ليس بالمطلق أبداً. ومعاذ الله أن تكون الديكتاتورية هي الحل الدائم حتى لزرائب الحيوانات وحظائر الخنازير. لقد أكدت بوضوح على كلمة "مؤقتاً" عندما تحدثت عن ضرورة الديكتاتورية في العراق ولبنان "الجديدين". وهذا ما تجاهله الهاجمون على مقالي، أو لم ينتبهوا إليه. وعندما قلت إن عبد الرحمن الكواكبي صاحب الكتاب الرائع "طبائع الاستبداد" قد يوصي بالديكتاتورية للبلدين المذكورين أرفقت العبارة بجملة "على مضض"، فمعاذ الله أيضاً أن يكون ذلك العظيم الذي أبدع في فضح الطغاة والمستبدين وتعريتهم مباركاً لأي شكل من أشكال الديكتاتورية، إلا ربما من باب "الضرورات تبيح المحظورات". وقد بينت ذلك بجلاء في ختام المقال حينما قلت: "عندما يكون الاختيار المتاح أمامنا بين الرمد (الديكتاتورية) والعمى (الطائفية والعصابات)، فلا شك أننا سنختار الرمد، على أمل الشفاء منه يوماً ما، واسترجاع أبصارنا". لقد اعتبرت الديكتاتورية "الرمد" مرضاً خطيراً قد يصيب العيون بالعمى، ولا بد من معالجته حتى نتمكن من استرجاع نعمة البصر.
هل يمكن لشخص مثلي تم وضع اسمه على العديد من القوائم السوداء في معظم المطارات العربية بسبب برامجه التي "لعنت سنسفيل أنظمة الطغيان والاستبداد"، هل يمكن له أن يروج للطواغيت وجنرالات الدم والفساد بهذه الأريحية والسذاجة؟
الأمر ليس بهذه البساطة أبداً. إن أسوأ ديمقراطية في نهاية المطاف أفضل من أحسن ديكتاتورية بالمعنى العام. لكننا لم ننجز في لبنان والعراق أسوأ ديمقراطية كي نفاضل بينها وبين الديكتاتورية. فالمفاضلة حاصلة بين شيطانين واحد أرحم من الآخر قليلاً، لأنه، على الأقل، حافظ على وحدة البلاد الترابية والديموغرافية، بينما ينتقل "النظام الديمقراطي" الجديد بالعراق إلى رحمة الله. وإذا أخذنا بالقول العربي المأثور "ما لا يـُدرك كله لا يـُترك جله"، فإننا بالضرورة سنختار الشيطان الأقل سوءاً.
صحيح أننا لم نفارق الديكتاتورية كي نحنّ إليها، لكن أيهما أفضل "ديمقراطية العراق الجديد"، أم ديكتاتورية البلدان العربية الأخرى؟ بالتأكيد، فإن الأوضاع العربية الأخرى، على كوارثها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، جنة مقارنة بوضع العراق "الديمقراطي". وليس صحيحاً أبداً أن النظام الديكتاتوري السابق هو المسؤول عما حل بالعراق بعد الغزو من تفتت وصراعات وكوارث. لقد عاش العراقيون تحت أنظمة شمولية لعشرات السنين دون أن يسمعوا بكلمة "طائفية أو مذهبية". إن المسؤول عن إعادة العراق إلى عصر ما قبل الدولة وتحويله إلى عصابات ومافيات هو الاحتلال وزبانيته الذين عادوا على ظهر دباباته ونهبوا حتى التماثيل من شوارع بغداد.
صحيح أن النظام القديم كان طاغياً بكل المقاييس، لكنه لم يكن أبداً طائفياً بدليل أن تسعة وثلاثين مسؤولاً من أصل واحد وخمسين من المطلوبين من النظام العراقي السابق كانوا من الشيعة، أي أن نسبة الشيعة كانت أكثر بكثير من نسبة السنة في النظام السابق.
وإذا انتقلنا إلى لبنان نرى، من سخرية القدر، أنه عاش أزهى مراحل استقراره وازدهاره وتماسكه في ظل القبضة الحديدية. ولا أقول هذا الكلام للترويج للنظام الشمولي في لبنان، بل أشد على يد كل لبناني يريد أن يحقق الديمقراطية الحقيقية في بلاده، ويتخلص من الوصاية بكافة أشكالها، لا أن يحول البلاد إلى دكاكين طائفية وحزبية للبيع والشراء، أو ينتقل من يد إلى أخرى، كما حصل مؤخراً، ويسميها "ديمقراطية وتحرير". لا شك أن أي تدخل خارجي في لبنان مرفوض ومدان، لكن بشرط أن يشمل كل المتدخلين.
إلى متى نبقى محكومين بثنائية الديكتاتورية أو ديمقراطية الطوائف القروسطية؟ لماذا لا نحذو حذو إسبانيا التي استطاعت الانتقال من ديكتاتورية فرانكو المقيتة إلى الديمقراطية الحقة؟ ربما كان حكم فرانكو مطلوباً لفترة معينة بشرط رميه في مزبلة التاريخ بعد انتهاء دوره، وهو ما حصل. أما في العراق ولبنان فقد انتقل الشعبان من تحت الدلفة إلى تحت المزراب. ألا تتفقون بأن الدلف يظل أخف وطأة من هدير المزاريب، بشرط أن نرمم أسقف منازلنا لاحقاً، كي نمنع الوابل اللعين من اختراقها؟