أحدث الأخبار
الخميس 02 أيار/مايو 2024
أكذوبة الخّط الأحمر ..

بقلم : رشاد أبوشاور ... 24.1.07

ملّ الشعب الفلسطيني من اسطوانة :الخّط الأحمر، وتحريم الدّم الفلسطيني، ومن الوجوه التي تتزاحم علي الفضائيّات للتباري في إطلاق التصريحات التافهة، والتي توتّر الفلسطينيين، وتقلقهم، وتبدد الطمأنينة من نفوسهم.
الدم الفلسطيني لم يكن خطّاً أحمر ومنذ سنوات بعيدة، فقد أريق هذا الّدم في معارك، وصراعات، ومحاولات ترويض وهيمنة، وبّث رعب، وابتزاز، وأحياناً خدمة لجهات خارجيّة..
حدث في سنوات لبنان أن تفجّرت صراعات، بعضها داخل الفصيل الواحد، وتحديداً فتح، وخّاصةً بعد حرب تشرين عام 73، وبدء طرح إقامة دولة فلسطينيّة علي أي شبر تنسحب منه (إسرائيل).
الانشقاق الأكبر آنذاك كان بقيادة (أبونضال البنّا) الذي كان سفيراً لفلسطين في العراق، والذي حقق امتداداًً داخل فتح، واستقطب كوادر بارزة فلسطينيّاً، ومنهم كتّاب وصحافيّون، ومناضلون معروفون، جمعهم الموقف ضّد فكر التسوية و(الاستسلام).
هذا التيّار لم يتوقّف عند حركة فتح بل امتّدّ إلي الفصائل، بحيث بدا وكأنّ الساحة الفلسطينيّة تنقسم بين تيّارين : تيّار يتساوق مع طروحات التسوية، وتيّار رافض.
في مطلع السبعينات وقعت اشتباكات دامية بين الجبهة الشعبيّة ـ القيادة العّامة وحركة فتح، ودوهم مقّر مجلّة (إلي الأمام) وعاث المهاجمون فيه خراباً، وهو يقع في شارع المزرعة، وفوق مقّرمنظمة التحرير الفلسطينيّة!
ووقعت اشتباكات بين القيادة العّامة والجبهة الديمقراطيّة، وسال الدم الأحمر الفلسطيني الفدائي برصاص أخوة ورفاق السلاح.
وحدثت اصطفافات بين عدّة فصائل وهو ما أدّي إلي استنفارات في قلب بيروت، وقتال مواقع، ونزف دّم، ثمّ، بوس لحي علي الطريقة العشائريّة.
في تلك الفترة الفوضويّة اقترفت جرائم مروّعة تمّت لفلفتها، وكان أخطرها نسف بناية في الفاكهاني أثناء اجتماعات قيادة جبهة التحرير الفلسطينيّة، حيث بلغ عدد القتلي 178 ضحيّةً، جلّهم من المدنيين ،وسجّلت الجريمة الشنعاء ضّد مجهول، وروّج أن العدوالصهيوني يقف وراء الجريمة!
كان أخطر تجاوز لحرمة الدّم الفلسطيني، والدوس علي الخّط الأحمر، هوما جري إثر انشقاق حركة فتح في العام 83.
وقع الانشقاق داخل حركة فتح، وكان في قيادته: أبوصالح عضو اللجنة المركزيّة للحركة، وسميح أبوكويك عضواللجنة المركزيّة وهو من جيل الشباب آنذاك، وألعقيد أبوموسي، وألرائد أبوخالد العملة، وكثير من الكوادر الفتحاوية التي اجتذبتها شعارات التصحيح والتغيير، إضافة ً للمنشقين عن فصائلهم والملتحقين بالتحرّك (الثوري) الانقلابي العنيف الذي وعد بالفّك والتركيب، وإنهاء زمن الهيمنة الفرديّة، والعودة للمنطلقات الثوريّة.
وقع القتال الضاري في البقاع، وامتّد حتّي عاصمة الشمال اللبناني: طرابلس، وانهمر الدّم الفلسطيني شلاّلاً بقذائف المدفعيّة الثقيلة، وصورايخ الغراد والكاتيوشا، ورشاشات الدوشكا الثقيلة، والهجمات الاقتحاميّة للمواقع والهجمات المعاكسة، وبمشاركة فصائل منها القيادة العّامة، وجبهة النضال، ووحدات من جيش التحرير الفلسطيني...
لقد تركت الجثث علي سطح الأرض، ولشراسة القتال، وسرعة تغيير المواقع، اضطّر المتقاتلون إلي دفن أخوتهم علي عجل، فكان أن استيقظ أهالي منطقة (تربل) قرب تلّة تربل علي نباح وحشي للكلاب، فأشعلوا المشاعل، وتقدّموا وبنادقهم في أيديهم، ليفاجأوا بأن قطعان الكلاب الشرسة تنبش الأرض لتفترس الجثث، جثث الفدائيين أخوة ورفاق السلاح، من قبورهم التي لحدوا فيها علي عجل، ودارت بين الأهالي وبين الكلاب الهائجة معركة ضارية، انهمكوا في أعقابها في جمع الأشلاء، ودفنها دون تمييز بين فخذ ورأس وقدم لهذا القتيل أو لذاك!
لقد كتبت عن تلك الحادثة المخيفة قصّة بعنوان (الكلاب) ضمّتها مجموعتي القصصيّة (الضحك في آخر الليل)، وعندي أنّ الكلاب هم كّل من حرّض علي إطلاق الرصاص، ومن أطلق الرصاص وقتل، ومن أسهم في تنفيذ تلك المؤامرة التي ذبحت أخوة السلاح...
لا، لم يكن الدّم الفلسطيني محرّماً، ودائماً نزف في الاقتتال بغرض السيطرة والإمساك بالقرار السياسي.
آنذاك كان لي شرف التصدّي لهذا الخراب، كتبت بيانات باسمي الشخصي وبالاشتراك مع آخرين، وصرّحت للصحافة العربيّة ضّد ما يجري وأدنته وفضحت مراميه، وشاركت في ندوات أقمناها باسم اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، و..تشرّدت بعد ضغوط، ثمّ ها أنا ذا أتّأمّل نهاية ما سمّي ب( الانتفاضة) التي مزّقت الساحة الفلسطينيّة، فإذا بها بعد23 سنة خلّب، وإعادة إنتاج للفرديّة، ونهب المال العّام، وإضاعة الوقت، وتبديد حياة ألوف طيبي النوايا الذين أخذتهم الشعارات، وطمست الأوهام علي عقولهم وقلوبهم، فساروا منومين، وقاتلوا أخوتهم، وألحقوا أفدح الأذي بثورتهم، وقضيتهم، وسمعة شعبهم.
ما ينتظرنا هذه الأيّام أفدح وأشّد خطراً إذا لم نتمكّن من إيقاف المتربصين ببعضهم عند حدهم...
الدّم الفلسطيني بات ممتهناً رخيصاً، لأن هناك من ينشغل فقط بخّط وصوله إلي سدّة الحكم، والقيادة، والإمساك بالقرار السياسي.
الدّم الفلسطيني لا يعني شيئاً لمن يري أن بينه وبين (الرئاسة ) خطوة واحدة، ما دام يحظي بالرعاية الأمريكيّة، والصداقة (الإسرائيليّة)، والعناية العربيّة الرسميّة.
الدم الفلسطيني ليس محرّماً بالنسبة لمن خسروا مقاعدهم في الانتخابات التشريعيّة، ففقدوا رشدهم ،وحقدوا علي الشعب الذي يصفونه (بالجاهل) لأنه برأيهم تنكّر لهم، والذي يستحّق الحصار والتجويع.
الدم الفلسطيني بات رخيصاً ما دام الصراع بين فريقين يتصارعان علي سلطة وهميّة ليس لها وجود حقيقي علي الأرض.
قبل أيّام دعيت إلي الجزائر للمشاركة في الاحتفال بالجزائر عاصمة للثقافة العربيّة، فكان السؤال الذي يتردد من رئيس الوزراء السيّد عبد العزيزبالخادم إلي أساتذة جامعة الجزائر الذين التقيت بهم، إلي السائق المرافق معنا، إلي رجال الشرطة في المطار الذين ما أن يعرف واحدهم أنني فلسطيني حتّي يكون السؤال الاستنكاري الإداني :علاش تتحاربوا وتقاتلوا بعظكم ؟!
في الجزائر وقع اقتتال بعد عقود من انتصار الثورة علي فرنسا، وعندنا في فلسطين نري بوادر الحرب الأهليّة ونحن لم نحرّر شبراً تحريراً سياديّاً حقيقيّاً!
العقلاء والحرصاء وأهل القضيّة، والشرفاء والصادقون..كّل هؤلاء مدعوون لتشخيص ما يحدث، بخلفياته، ومخاطره، لوضع الأمور في نصابها، وقول كلمة الحّق الفصل لشعبنا...
لم يعد الفلسطينيون يصدّقون تحريم الدّم، والخّط الأحمر، وادعّاء بعضهم الحكمة والدعوة للحوار، لأن الدم ينزف يوميّاً، والقضيّة تخسر، والشعب حزين جائع مقهور متقزّز من كّل ما يحدث، ولأن من يعتبر نفسه صادقاً يفترض فيه أن يقدّم البرهان، ويسهم جديّاً في جعل الدم الفلسطيني حراماً، وخطّاً أحمر فعلاً لا قولاً...