أحدث الأخبار
الجمعة 03 أيار/مايو 2024
أوجاع رسمي أبوعلي ......!

بقلم : رشاد أبوشاور ... 14.2.07

رسمي أبوعلي: إعلامي، قاص، شاعر، ناقد سينمائي.. فلسطيني، ولد في بلدة (المالحة) قضاء القدس عام 1937، خريج المعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة.
عام 1965، بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، غادر عمله في الإذاعة الأردنية والتحق بإذاعة صوت فلسطين الفتية،ووضع خبراته لتطويرها.
أقام في بيروت حتي العام 82، وغادرها مع (مواطني) الفاكهاني،واختار أن يتوجه إلي العاصمة الأردنية عمان ليقيم فيها منهياً حالة التشرد،وليكون علي مقربة من فلسطين.
رسمي أبوعلي أثار اهتماماً واسعاً لدي النقاد،والقراء، عندما صدرت مجموعته القصصية (قط مقصوص الشاربين اسمه ريس)، ولعلي كنت أحد أوائل الذين رحبوا بها مبكراً، وكتبوا عن هذه المجموعة القصصية المتميزة في صحيفة اللواء البيروتية، وأذكر أن الروائي الأردني غالب هلسا قال لي: مقالتك أعجبتني جداً، وحرمتني من الكتابة عن مجموعة رسمي، لأنها لم تبق لي ما أقوله. (لا أخفي أنني سررت بثناء غالب علي تلك المقالة ،فلم يكن سهلاً أن يحظي أي كاتب بثناء غالب رحمه الله).
رسمي أبوعلي ـ وهو اسم علم، ولذا لا أكتب كنيته مضافاً إليه ـ مقل أدبياً ولكنه علامة بارزة في الأدب الفلسطيني، قصصياً وشعرياً، وكواحد من ألمع الحكائين شفوياً، ومثيري الدهشة لدي مستمعيهم بخلطه الواقعي بالخيالي بالفنتازي بالجنون بحكمة العقل (وكله تحت السيطرة).
هو مغامر فنياً، ولكن مغامرته محسوبة، فهو يحترم كتابته،وقارئه،واسمه ، ولذا كانت معاركه مع الشاعرعلي فودة ـ استشهد في معركة بيروت عام82 ـ شريكه في تأسيس صحيفة الرصيف ترج ركود وتجهم (الفاكهاني)، وهو ما كان يمتع كثيرين، ويشمتهم في عبث الرصيفيين بوقار (الفاكهاني)، وما كان يمنح رسمي حضوراً، ويجعله (مرجعاً ) لهامشيي الفاكهاني الغاضبين من كل شيء، ومن لا شيء.
كشاعر يكتب رسمي قصيدة النثر، وله قصائد مثيرة للدهشة، غرائبية، ومستفزة، ورشيقة، شديدة الشفافية والحنان الإنساني، وهذا طبيعي فرسمي ليس ذا بعد واحد.
تقاعد رسمي، وكان علي (ملاك) وزارة ثقافة السلطة، وهو ككثيرين بلا راتب منذ أشهر بسبب الحصار اللئيم.
تحمل تكاليف الحياة بمردود متواضع يحصل عليه من كتاباته في الصحافة الأردنية، ولأن حاله من حال غيره، فأنا لم أسمعه يشكو سوي من الأوضاع المزرية التي انحط إليها الحال الفلسطيني.
صبيحة الأحد 4 شباط (فبراير) 2007 ـ لي قصد بتثبيت التاريخ، لعلننا نتذكر أيام الجدب الفلسطينية ـ اتصل بي رسمي فجاءني صوته متعجلاً أن أبادر إلي الاتصال به في حال انقطع الاتصال، لأن هاتفه الخليوي بلا رصيد تقريباً، وهذا ما حصل.
بادرت للاتصال به، فإذا بصوته يختنق بالشكوي، ورسمي ليس شكاءً، فهو معتد بكرامته،ومع صراحته، وميله للدعابة والسخرية، فإنه يترك مسافة مع الآخرين، مع الحفاظ علي الود والحميمية في العلاقة.
صوته رمادي كطقس هذا اليوم المتشائم، مبلل بالحزن والغضب، هو صوت رسمي:
ـ أنا لم أحصل علي راتبي أسوة بمن وصلهم راتب شهر من مستحقاتهم. استفسرت فأجبت بأن رواتب (المتقاعدين) لن تصرف لسبب عجيب، وهو أن أموال التقاعد والتوفير المتراكمة علي مدي عقود من السنين.. بددت!
رسمي أبوعلي الذي دخل في السبعين من عمره ، الإعلامي، القاص ـ له رواية صغيرة جميلة بعنوان: الطريق إلي بيت لحم ـ الشاعر، الناقد السينمائي، الإنسان الذي وظف ثقافته وخبراته الإعلامية للارتقاء بالأداء الإعلامي لمنظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن تستولي عليها (الفصائل) والمنظمات، ويستوزر فيها بعضهم، ويستسفربعضهم ـ يصير سفيراً يثري من سفارته ـ بات يشكو موجوعاً، فالأسرة التي بناها وحرص علي كرامتها تختنق بضغوط متطلبات الحياة ، بالحاجة للخبز، والملابس، وكتب المدرسة والجامعة، وفواتير الماء والكهرباء والهاتف و...
من بدد أموال التقاعد والمتقاعدين؟ من هي اليد التي امتدت لهذا المال الذي مستحقوه أفنوا حياتهم في خدمة وطنهم فكراً، وفعلاً ميدانياً، وخرجوا بجراح بدنية، ونفسية و.. في الختام: بدون رغيف الخبز بكرامة؟!
الحكومة الحالية تقول: لا علاقة لنا بالأمر، فنحن لم نتصرف بهذه الأموال،والسلطويون السابقون يتحملون المسؤولية، ومن جهتنا سنعيد النظر في نظام التقاعد!
بعض كتابنا، مبدعينا.. يعيشون حياة ضنك، وثمة لصوص يكنزون الملايين، وبعض مثقفينا باعوا أنفسهم للمنظمات غير الحكومية، ورسمي أبو علي وأمثاله من المبدعين الشرفاء كرام النفوس يغمغمون بالشكوي بحرج، فهم يخجلون في زمن تحكم فيه عديمو الحياء بمصائرنا: مادياً، وسياسياً، ووطنياً، وأفشوا الفساد والخراب في كل جوانب حياتنا، ولطخوا سمعتنا بالعار.
عندما يشكو رسمي أبو علي وأمثاله فهذا يعني أن هناك خللاًً مخيفاً في حياتنا الفلسطينية، ولذا اكتب عنه وعن زملائه، لأنه مترفع لا يكتب عن أوجاعه ومعاناة أسرته، فهو مشغول بالحصار المضروب علي شعبه، بالكارثة التي تحيق بقضيته، أكتب وحالي ليس أفضل كثيراً سوي أنني أحصل علي راتب بين فترة وأخري!
رسمي أبوعلي، وكما أعرف عن قرب، واجهته مصائب عاتية، ولكنه كبر عليها، وخرج من وطئها مرفوع الرأس...
رسمي أبوعلي الذي رأيته علي شرفة شقته في بيروت يسقي الأزهار غير مبال بالطائرات المغيرة علي أحياء بيروت، والذي كتب بشجاعة وبدون ادعاء ،يستحق التكريم من شعبه، ولكن ما العمل ومنظمة التحرير التي أسهم في بناء إعلامها دمرت، واللصوص نهبوا ممتلكاتها، وأتلفوا منجزاتها؟!
لا بد من فضح من نهبوا أموال المتقاعدين، وكشفهم، فهم أنفسهم من سرقوا كل شيء، وهم أنفسهم من يلحقون بسمعة شعبنا (كل) هذا الأذي..
قبل سنوات دعوت لتشكيل لجنة ثقافية، مهمتها العمل علي إنشاء صندوق مالي بدعم الأثرياء الفلسطينيين يعني بالثقافة الوطنية ، ويقدم المساعدات للمحتاجين من مبدعينا، ولكن الدعوة ضاعت، والكتاب تحديداً هم من أهمل الاستجابة لها، لكسلهم وفرديتهم وبعدهم عن العمل الجماعي الذي يمنحهم (قوة) حضور، وهيبة ، ودوراً تخلوا عنه لأسباب مهما كانت تبقي غير مبررة.
هذه مناسبة للتواصل،والتكاتف، فكتابنا يموتون غرباء، لا ينعيهم أحد،ولا يسأل عن أسرهم أحد، ولا يعني بنشر نتاجهم عصارة عقولهم وتجاربهم أحد،يعانون وحيدين في البلاد البعيدة والقريبة،أو داخل الوطن في ظروف قاهرة مقيتة.
ما كتبته ليس عن رسمي أبوعلي وحده، فرسمي لا يقبل أن تحل مشكلته وحده، فحياته ككل المبدعين الفلسطينيين الشرفاء الأوفياء يجسدها هذا البيت لشاعرعربي نبيل:
فلا نزلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
كان بمقدور رسمي، وأمثاله من الموهوبين اللامعين، أن يثروا بالشطارة، والفهلوة، والنفاق، وتغييب الضمير،وخفة اليد، من مناصب تيسر للمتسيدين عليها الإثراء غير المشروع.. من دم الشهداء، ودموع اليتامي، وجراح أبطال المعارك، ولكن هذا ما كان ليحصل مع من لا يفكر بغير البلاد، بغير سحائب تعم كل فلسطين وشعبها الأبي...