أحدث الأخبار
السبت 20 نيسان/أبريل 2024
سيرة حياةالبروفسور عبد الستار قاسم!![الجزءالاول]

بقلم : وئام بني عوده ... 08.05.2011

تقديم...هذا تحرير لاثنان وستون عاما من حياة المحلل السياسي الفلسطيني
أ.د عبد الستار توفيق قاسم يتضمن هذا العمل سيرته الذاتية كما رواها بنفسهفصولُ من معاناة لا تنتهي.
إهداء:
لمن يستحق منا كل الشكر والتقدير
إلى شمعة مازالت تحترق لتضيءظلام العقول
إلى الدكتور الفاضل عبد الستار قاسم واليك عزيزي القارئ
عبد الستار قاسم:بدا لي رجلا اعتلى قبة من العزة بسمرة العربي الفلسطيني، لمحت في ثباته واتزانه نفسية لا تقهر، ستيني العمر لاعب القضايا على أوتار توقعاته، عزم ساد اثنان وستون عاما من حياته، وكما اعتز بالوطن الذي انتمى له، افتخر بالأصل الفلاحي الذي لازالت معظم ملامحه ترتسم على وجهه.
في ذكرى مولده الثانية والستون كانت أولى لقاءاتي به والتي كانت في الواحد والعشرون من أيلول لعام 2010. علما أن مولده في ذات التاريخ من عام 1948. هذا التاريخ الذي شهد قدوم شخصية جديدة إلى حاضر فلسطين، وثقت بلدة دير الغصون قضاء طولكرم مولده، وعلى الوجه الأخص حارة "الخليلية"، عبد الستار توفيق قاسم نشأ في عائلة ميسورة أو كانت بأحسن حال يتوقع أن تكون في ذلك الوقت، غير أن نكبة عام 1948 أفقدت هذه العائلة جزء ليس بالقليل من أراضيها وما بقي لها فقط بضع دونمات وبيدر شرقي خط وقف اطلاق النار، لكنها قطعا لم تفقد مكانة أو نفوذا تمتعت به يوما ما.
طفولة صنعته...
قدر لعبد الستار أن يفقد أمه في سنته الثالثة، لم يتذكرها لكنها لم تبارح ذاكرته وهي الأم التي لم يعرفها، كانوا أربعة أخوة وبنت واحدة، فجاءت زوجة الأب وأضافت للعائلة مثلهم،عبد الستار كان أصغر الفوج الأول.
الوالد رجل، علمه المرجله والشهامة، كيف يكون شجاعا معطاءا، فالرجل يموت مرة واحدة والجبان يموت كل يوم، قاعدة استقاها من والده واستعصم بها إلى حاضره، أخذها منذ الصغر فكانت أولى الدروس في محاضر الرجال، كريم هو ذاك الوالد حتى أن أغلب زوار القرية آنذاك كانت مائدتهم عنده وحتى منامهم إذا تتطلب الأمر، لذلك صنع طاولة بطول 3م. وغرفة لاستضافة الزائرين بمساحة 10م2. مات أبيا ومقدام، ومات واقفا...
لم تؤثر فيه قسوة الحال السائدة في ذلك الوقت بل كانت دافعا للأفضل، فطفولته كما عايشها أبناء جيله لم تكن بالمثالية، برد في ظل عدم كفاية الألبسة، وأحيانا يقضي الشتاء منتعلا قدميه، أما لوجبة تغذي المرء فالعدس خير الأغذية وفي مواسم تفي الخبيزة بالغرض، وفي المقابل لم تكن هناك خيارات أفضل من هكذا حال.
ألعابه و أخلائه كانت تقضي وقتها برفقتهم على البيادر، وبتجميعهم لعدد من الأقمشة ولفها حول بعضها كانت تتشكل بين أيديهم الصغيرة كرة يلعبون بها معظم أيامهم، تارة يضربونها بالقدم وتارة أخرى يداعبونها باليد، وما هي إلا كرة الشرائط. ولا ننسى اللعبة السياسية المتوارثة "جيش وعرب " فكان مقدرا للعرب دائما أن ينتصروا، ولليهود الانهزام. ألعاب مسلية اخترعها الصغار للضحك على الوقت منها أيضا لعبة "الحاح" وهي أشبه ما تكون بالتنس الأرضي الآن، وكذلك لعبة "الرضف" وهي سباق مع الزمن، ألعاب لا عد لها نظمها الأطفال على البيادر فكانت ميعادهم من الصباح وكذلك مغيب شمسهم.
دراسته...
منذ أن صعد عبد الستار إلى سلم الحياة كانت أولى الدرجات في مدرسة دير الغصون حيث انتهل منها علما حتى أنهى المرحلة الأساسية. منذ نشأته كان لا يصبر على ضيم ولا يتنازل عن حق، في الثالث الابتدائي لم ترهبه تهديدات المدرس عندما حذر الطلاب من عدم الخروج من الصف وقت استراحتهم، وكان في فترة الظهيرة يغدوا الطلاب إلى منازلهم لفترة وجيزة فيها غدائهم وقسطا بسيطا من الراحة، وفي ذاك اليوم أراد المدرس محمد فيصل تجبرا بالطلبة أن يحرمهم هذا الحق وهدد كل من يخالف الأمر بالضرب، غدا إلى منزله دون قلق، تناول غدائه، ارتاح قليلا ثم عاد سعيدا إلى المدرسة، وفي غفلة الأمر لم تكتمل ملامح السعادة بعد على وجهه حتى سمع صوت المدرس يسأله عن حقيقة ما جرى، اكتشف حينها عبد الستار أن أحدا من الطلاب قد وشى به، لم ينكر عبد الستار ما فعل وأجاب معللا عمله :" ليس لديك الحق لكي تحرمني من حقي" ويبدوا أن الإجابة لم ترق للمدرس فلاحقه على طول الصف وظفر به أحد الطلاب وسلمه للمدرس فضربه بشدة لكن عبد الستار لم يصرخ ولم تنزل له دمعه.
صقلت بيئته جوانب محددة من شخصيته واعتمدت على القدوة في جوانب أخرى، فكان لوالده –رحمه الله- تأثيرا على فكره أخذ منه الرجولة والشهامة والكرم، وزرع أخاه عز الدين –رحمه الله- في نفسه قيم الالتزام والإخلاص وعلمه وجوب أن يقوم بعمله على أتم وجه، أما مدرسه موسى سنجق من قرية عنبتا فقد ضخ بدمه روح الانتماء والعزة والكرامة وكان المدرس الذي يشحذ همم الطلاب حاثهم على ضرورة العمل من أجل الوطن، صادفه عبد الستار في مرحلة الدراسة الإعدادية التي قضاها في مدرسة الفاضلية بطولكرم.
انتقل عبد الستار إلى مدينة طولكرم والى مدرسة الفاضلية كي يتابع مشواره التعليمي كون أن بلدته دير الغصون لم يتواجد بها مدارس بالمراحل الإعدادية والثانوية. ربما بحثه عن الذات وانغماسه في هموم صنفت بأكبر من مستوى إدراكه ووعيه هو الذي شغله قليلا عن دروسه، فأدت إلى تراجع تحصيله العلمي قليلا دون التأثير بالمستوى العام له، أو ربما هي ظروف الانتقال والبيئة الجديدة التي تكفلت برعايته، فظل عبد الستار من أوائل جيله ومن المتفوقين والمنافسين الأشداء.
لا تخلو المنافسة من بعض الطرائف، ففي ظل احتدامها كان هناك جو خاص في الصف يتلاعب به مجموعة أخرى من الطلبة هم في الكفة الأخرى من العالم، كانوا يتمتعون بنوع آخر من الذكاء وفي إحدى المرات أصر المعلم على أحدهم أن يضع الضمير "أنت" في جملة فوقع الطالب بمأزق لا يحسد عليه وعندما اشتد إصرار المعلم نطق الطالب بالجملة والتي كانت "أنت حيوان"، ورغم الشتيمة ضحك المعلم لحسن صنيعه.
ساعدت المدرسة الجديدة بتفتح ذهن عبد الستار إلى وعي أكبر بضرورة التحرك للعمل من أجل الأمة، لطالما فكر بهم الأمة منذ أن كان صغيرا وحمل على عاتقه عبء التحرير. كان عبد الستار يناجي الوحدة منذ ذلك الوقت ويبغض كل تصرف يخدش جسمها، ففي خضم الأحداث المأساوية على الشعب الفلسطيني ما بعد النكبة، كانت دير الغصون تشهد نزاعات عائلية وكانت إحدى العائلات هي عائلة عبد الستار، ومما كان يثير حنقه تلك المناصرات التي كانت تقوم بين الأقارب بغض النظر كان هذا القريب ظالما أو مظلوما، وأيضا محاولة زرع العدائية بين الأطفال أنفسهم، ويذكر عبد الستار أن كان له صديقا من عائلة بينهم وبينها خصومة فكان أهل هذا الصديق يحاولون إبعاده عنه وذات الأمر عند عائلة عبد الستار.
والمتنبه للأمر يجد أن عبد الستار كان يركز في أساس مهم للوحدة لا تقوم بدونه وهذا ما حاول منذ صغره التنويه إليه ألا وهو أهمية أن نكون جسدا واحدا.
كانت تلك المرحلة مليئة بالأحداث تبعا لديناميكية الوضع آنذاك، شغل بال عبد الستار أفكار كثيرة كان يطرحها على هيئة التساؤلات فيسأل وما من مجيب! طريقته الوحيدة لشفاء الغليل كانت القراءة، فقرأ جمهورية أفلاطون وهو في الإعدادية والحال ينطبق على الفارابي وابن سينا والأوديسا "الملحمة اليونانية"، واشترك أيضا في مجلة العربي. كان يتابع بنهم نشرات الأخبار، يتفاعل حينا مع جمال عبد الناصر وأحيان أخرى تبرد نار الحماسة تجاهه.
" كنت أفكر دائما بأنه يجب أن نصنع شيئا للأمة، فكرت بحزب أو توجه ما ولكن كلها كانت فلتات مراهقين ..." ويعلل عبد الستار أنه ومن يشاركه الرأي من أبناء جيله لم تكن لديهم المقدرات الفكرية اللازمة لتطبيق هذا المقترح.
وبنفسيته المتقدة ظل يراقب الوضع عن قرب حتى بلوغه الثانوية العامة حيث كانت حرب عام 1967على الأبواب. وفي الامتحانات النهائية للثانوية العامة كانت الحرب قد اشتعلت بين الجيوش العربية والكيان الصهيوني، ويذكر عبد الستار عند خروجه من إحدى الامتحانات أنه سمع مذيع صوت العرب يقول:" أسقطنا 23 طائرة للعدو " في ذات الوقت ضربت قنبلة مدينة طولكرم، حصدت أرواح أربعة من طلبة التوجيهي جرائها، وللمفارقة ما إن حل الظلام حتى أعلن مذيع صوت العرب أن الجيش المصري أسقط 86طائرة إلى الآن.
عادت الطائرات الصهيونية وقصفت في اليوم التالي المدينة بكاملها ودمرت عمارات وهدمت بيوتا لكن لم تسقط هنالك ضحايا، وفي بعض القرى الأمامية تحضر الناس للهرب خوفا من بطش قد يلحقه بهم اليهود وذلك نتيجة للإشاعات التي سربها العدو لدفع الناس إلى ترك أراضيهم والهجرة مرة أخرى، وتبين فيما بعد أنها مجرد تسريبات من العدو لكن بعدما صدق البعض هذه الإشاعات وبدأوا بالرحيل فعليا وكان ذلك في مناطق الأغوار والمخيمات كعقبة جبر وغيرها.
كانت الأردن قد وزعت على القرى الأمامية بنادق ورشاشات، ونصيب دير الغصون كان عشرين بندقية ورشاشين. ربما أيقن حينها عبد الستار أن دوره في التحرير قد حان وأن بوسعه أن يفعل شيئا من أجل الوطن، فدفعته الحمية إلى أن يأخذ بندقية أبيه وأن يصطحب مجموعة من شباب البلدة إلى قتال العدو، خرج المقاتلون الشباب يتجولون في الحقول و الطرقات حتى أنهم دخلوا أراض 48 لكن دون أن يجدوا ما يسكن نار قلوبهم، طائرتان تحلقان ذهابا وإيابا دون أي حركة على الأرض، حتى أن بعض الشبان كان يفرغ غيضه بإطلاق النار على الطائرات المتجولة جوا.
بعد يوم من المواجهة السلبية تنبأ عبد الستار بأحد يحمل له خبرا من والده بأن ارجع إلى البيت أنت ومن معك وكانت الصعقة في تعليل الأمر وهو "البلاد سقطت روّح ..." وعندها كانت الفاجعة، وبصوت أخنقت فيه الكلمات :" نعم ! سقطت البلاد... تلك أكثر مرحلة كانت صعبة ومحزنة في حياتي وأكثر أيامي يأسا وقنوتا..." لا زال يذكر تلك الأيام وكأنها عاودته لحظة سؤالي عنها، تلك أيام قاسية رافقته فيها مشاعر الألم والحسرة على الوطن، لم يعد يؤتمن على كبير أو صغير ولا امرأة أو طفل، وطن سلب من أيدي أصحابه، خالجته مشاعر الحمية ثانية فثار على الذاكرة وصار يسرد لي الأحداث بتفاصيلها :" بقينا داخل الصدمة عدة أيام حتى أذكر تماما أن حذائي بقي في قدماي لمدة إحدى عشر يوما وكنا متأهبين للهروب في أي وقت، وكانت النساء تلبس أكثر من ثلاثة غيارات، والرجال كانوا يحملون نقودهم في جيوبهم تحسبا أيضا للهرب، وأذكر أن الجنود الأردنيين ألقوا أسلحتهم وبعضهم لبس لباس النساء وهرب إلى شرقي الأردن، كان الوضع مذهل، ولم تصمد الدموع في عيون الرجال..."
بالفعل كانت أياما صعبة احتلت فيها قوات العدو الضفة الغربية بأسلوب "الكماشة" أطرافها منطقة القدس وجنين، فطوقتها من جهة الأغوار ومن ثم دخلت إلى وسط البلاد، ومنعت حظر التجوال.
" خرج علينا الملك حسين وقال قاتلوهم بأظافركم وأسنانكم !" وفي نفس الوقت أخرج الجيش الأردني بيانا صرح فيه أن الجيش انسحب إلى خط الدفاع الثاني. يعلق باستغراب أعاده إلى الوراء :"نحنا فكرنا خط الدفاع الثاني عند عنبتا وإذا بعدت بكون عند رامين ... طلع خط الدفاع الثاني شرقي الأردن ..." وضاربا كفا بكف وبصوت اختفت منه حدة كانت تزينه :" يعني خلص انتهت ..." لكن لم تزل وقتها خطابات جمال عبد الناصر تصدح لجماهير الأمة وتشيد بالانتصارات التي حققتها الجيوش العربية، وبلهجته الساخرة يقول عبد الستار: " كان الجيش المصري قد دمر من أول ساعتين... ومازال احمد سعيد مذيع صوت العرب بقولنا: تجوع يا سمك ..."
منع التجوال بعد ذلك على كل المدن الفلسطينية وصارت دوريات الاحتلال تجول في شوارعها، عانى الناس في دير الغصون من آثار منع التجوال وما يتبعه من قلة في التموين ولوازم الحياة الأخرى، في هذا الوقت كان لعائلة عبد الستار بيدر من القمح، فقام عبد الستار وأخوته بحصده ودرسه وطحنه وأصبح بذلك غذاءا للعائلة وساعد به والده عائلات أخرى .
في زمن مواز، كانت نتائج الثانوية العامة في طور الإعلان، وما هي إلا أيام قليلات حتى سمع عبد الستار اسمه في الإذاعة وقد نجح بمعدل75 للفرع العلمي، فرحته شاركته بها جدته بطريقتها الخاصة.
"الولد راح ..."
بين رهبته من وضع جديد حكمت فيه إسرائيل البلاد، وبين حتمية غربة ولده عنه لغرض الدراسة، قرر والد عبد الستار أن يغامر بولده ويرسله إلى الخارج لاستكمال دراسته، فكانت فكرة إمكانية سماح إسرائيل بعودة عبد الستار بعد إنهاء تعليمة من الخارج موضع شك لدى عبد الستار ووالده، أما فكرة الدراسة بحد ذاتها مسلم بها. ولحظة وداع والد عبد الستار له على جسر الأردن قال: "أنا وضعت في ذهني أن الولد راح وخلص مش رح يرجع على البلاد..."
لم يوفر عبد الستار وقتا بدأ بتقديم الطلبات للجامعات الأردنية وقبل في كليتين الهندسة والزراعة، لكن لم يجد في نفسه رغبة بهذين التخصصين، وما استحوذ على ذهنه هو تخصص العلوم السياسية فلهذا الغرض ذهب إلى القاهرة وقدم طلب التحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ولم يقبل من الأردن إلا طالبين، فقدم طلب للالتحاق بالجامعة على أمل القبول.
صدفة غيرت مجرى حياته، كان ينتظر في محطة الباصات قدوم باص ليقله من ميدان التحرر إلى مكان سكنه في مصر الجديدة، تأخر الباص بضع دقائق، فلمعت فكرة في ذهنه وقال:" لماذا لا أذهب وأتقدم للجامعة الأمريكية لعل القبول وارد؟ " وصل عبد الستار إلى مكتب التسجيل الساعة الواحدة والنصف وكان ذلك اليوم هو الموعد النهائي للتسجيل، لم يكن عبد الستار يحمل معه الأوراق الثبوتية اللازمة، ولبسامة الحظ تعاطفت معه المسؤولة وقامت بتسجيله في الجامعة شرط أن يحضر في اليوم التالي أوراقه الخاصة، وفجأة أصبح طالبا في الجامعة الأمريكية وذلك في شباط 1968.
بعدما انتهى من دراسة اللغة الإنجليزية لمدة عام كامل، بدأ يدرس عبد الستار العلوم السياسية وحصل على البكالوريوس فيها بعد ثلاث سنوات ونصف وكان ذلك عام 1972. تعلم اللغة الإنجليزية وهذا ما أهله بعد ذلك للسفر إلى الخارج لمتابعة الدراسة، كذلك فإن نظام التعليم في الجامعة الأمريكية كان يختلف عن الجامعات العربية في الأسلوب غير التلقيني وذات الطابع الجدي، بالإضافة إلى ذلك دخل إلى مجتمع جديد وتعرف إلى عاداته وثقافته وقيمه الخاصة .
مرحلة الجامعة الأمريكية كانت أكثر من مجرد مرحلة دراسية بالنسبة لعبد الستار يستقي من كتبها العلم ويتابع فيها المحاضرات وما شابه ذلك، كانت مرحلة تبلور فكر واتساع أفق، استغلها في التعرف على العالم من حوله فكان يستقي العادات والقيم والأفكار وحتى أنماط التفكير والتعامل مع الناس. لكن ليست كل الأفكار كانت تروق لعبد الستار ومن تلك ما كان يسمعه من الطلبة المصريين فيقول: " كنت أتفاجئ عندما اسمع أحد الطلبة المصريين ينادي بالمصالحة مع إسرائيل، وكنت أستغرب كيف يكون ذلك وهو من المحرمات لدينا...". أثرت هذه الأفكار في نفسه كثير وبدون مبالغة بدت أنها تثير صوت قصف الطائرات في مخيلته وتستحضر دموع الأطفال والنساء والرجال عند سقوط البلاد، فكان يخوض النقاشات مع هؤلاء الطلبة عبثا دون الوصول إلى نتيجة معهم تشفي الغليل. عدا عن تلك النقاشات أو حضور بعض الندوات السياسية لم تكن لعبد الستار أي نشاطات أخرى داخل الجامعة الأمريكية فهو كما يقول:" كنت في طور التعرف على العالم ...".
سؤالا لم يبارح ذهنه يوما وهو :" ماذا يمكن أن نفعل من أجل الأمة العربية؟ "، طموحة حمله إلى بيروت مرات عديدة، وكان هدفه الأساسي أن يدخل تنظيما وطنيا هناك عله يستطيع تقديم شيئا لأرض الوطن، لكن خيبة أمل لازمته كل مرة في طريق عودته من بيروت إلى القاهرة لما كان يشاهد في بيروت :" كنت أرى سلوكيات للقادة في بيروت تقنعني بأن مثل هذه الثورة لا يمكن أن تنتصر، وهذه الفصائل لا يمكن أن توصلنا إلى نتيجة ..." وكان يعود من بيروت حاملا قرارا لا عودة فيه " لا أريد أن أنظم في أي فصيل كان ...".
من هنا جاءت براعته في تحليل الأوضاع على الساحة الفلسطينية، ويضيف :"كل توقعاتي من السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات حتى الآن كانت صحيحة لأنني بنيت تحليلي وجدلي على حقيقة رأيتها في بيروت، وهذه الحقيقة تقول أن القيادات الفلسطينية ليست صادقة وفي النهاية سوف توصلنا إلى الهلاك..." . قرر عبد الستار أن ينهي ما جاء لأجله في القاهرة ويعود للوطن، وخطط بعدها للسفر إلى أمريكا راكضا وراء طموحه اللامحدود.
عودته إلى أرض الوطن...
في أرض الوطن كانت العائلة تنتظر عودة عبد الستار بعد حصوله على البكالوريوس في العلوم السياسية، الوضع السياسي مازال متوترا هناك، غير أن الطمأنينة نزلت في قلوب الناس فلم يطردوا، ولم يقتلوا، وما زالوا يسكنون بيوتهم ويفلحون أرضهم، أما سير الحياة فقد كان بطيئا نظرا لمعاناة الشعب الدائمة.
لم يضع عبد الستار الكثير من الوقت، تخلص سريعا من خوف كان يخالجه لفكرة لاحت في افقه وهو في القاهرة ألا وهي استكمال دراسته في أمريكا، تخوف عبد الستار من رد فعل والده عند سماعه ذلك، علما أنه كان قد راسل جامعة في ولاية كنساس في أمريكا وقبل فيها. الوالد خالف كل توقعات عبد الستار ومباشرة أجابه: كم تريد من المال؟ تلك هي إذن لفرحة كبرى أدخلها الوالد إلى قلب ولده، ولم تمض إلا بضعة أيام حتى أعد عبد الستار نفسه للسفر حاملا مبلغ 750دينار ليهبط في نيويورك بمبلغ ألف دولار فقط لا غير.
وصل عبد الستار في وقت متأخر من النهار إلى المكتب العالمي لاستقبال الطلبة الأجانب في جامعة ولاية كنساس، ولم يكن يدري أين يذهب بعدها فهو الآن بلا مأوى وما من صديق أو حتى أحد المعارف لكي يذهب ويبيت الليل عنده، فأشار احدهم عليه بأن في الجوار عمارة بعشرة طوابق اذهب وتدبر أمرك فيها، وبالفعل دخل عبد الستار إلى هذه العمارة فوجدها فارغة من كل ما هو حي يتنفس، فلم يكن بوسعه إلا أن يتوسد حذاءه ويغرق في النوم حتى صباح اليوم التالي، وفيه تعرف على أحد السودانيين الذي ساعده بدوره على إيجاد مسكن له، وجد عبد الستار مسكنه مع أحد الأمريكان وكان في شقة تحت الأرض حالتها مزرية، تفترش الحشرات وهواءها مشبع بالروائح الكريهة. من هذه الحال كانت بداية مشوار الماجستير في العلوم السياسية، سجل عبد الستار في الجامعة ودفع قسط الفصل الأول، وما أن بدأ الفصل الدراسي حتى كانت جيبه تشتكي القلة، كان لا بد من تدبر أمر معيشته وبدون إسراف لأن الحال لم يكن يحتمل فقضى السنة الأولى من دراسته وهو يعتاش من الفاصوليا التي كان يطبخها أو في مرات أخرى ينوع طبقه بالبازيلاء ولم يذكر أنه أكل ساندويتش همبرغر حتى بالحجم الصغير، ويضيف :" لم يكن الهدف هو الأكل ولكنه الدراسة... "
في بداية الفصل الثاني كان يحتاج إلى دفع قسط الدراسة، والمشكلة ذاتها واجهته وهي من أين لي بالمبلغ المطلوب! كان صديقا كويتيا هو الملجأ وفك الضائقة، فاتفق معه عبد الستار على سداد دينه أثناء الفصل، أدرك عبد الستار بأنه لا بد من العمل فالالتزامات أصبحت كثيرة، وبعد بحثه عن عمل يفي به التزاماته وجد شاغرا في مطعم يمسح به الأرضيات، وكذلك عمل في معمل للهمبرغر ومهمته تنظيف الأواني، كانت تأخذ هذه الأعمال أربع ساعات يوميا من وقته وبدولارين وربع لكل ساعة عمل. وبتعابير التحدي يقول :" رغم صعوبة تلك المرحلة إلا أنها كانت ممتعة لأن فيها تحدي كبير وإصرار على النجاح... لا مكان للانهزام في نفسي... " وكانت نتيجة هذا التحدي على قدره، أوفى عبد الستار بدينه للكويتي ولم يحتج أحدا ليعينه بمعيشته فكفى نفسه أيضا.
في هذه السنة 1972 حدث ما يعرف بعملية ميونخ والتي تم فيها احتجاز رياضيين إسرائيليين من قبل عناصر فلسطينية، كان الرؤية الفلسطينية غير واضحة واحتاجت إلى من يزيل الغموض عنها، فتبرع عبد الستار بتفسير وجهة النظر الفلسطينية وألقى محاضرة بذلك، وفي اليوم التالي تلقى عبد الستار تهديدا أوصلته له سيدة عراقية كانت تسكن بالجوار، ويعقب عبد الستار: "ظللت تحت حراسة الأمن لمدة شهرين وأحيانا كانت تقف الشرطة على باب سكني..."
انتهت السنة الدراسية الأولى وانتظر عبد الستار بفارغ الصبر نتيجة تعبه الدراسي المتواصل عله يحظى بتقدير يؤهله الحصول على مساعدة من قبل الجامعة، وبالفعل كان له ما أراد، حصل عبد الستار على منحة مساعد بحث وتدريس، عفي على إثرها من القسط الجامعي وكذلك استلم 280 دولار شهريا كمصروف يمنح للطالب الحاصل على هذه المنحة، وبلهجة المنتصر :" في ذلك اليوم ذهبت إلى مطعم للهمبرغر وطلبت ساندويتش همبرغر بالحجم الكبير..." .
بقي عبد الستار يرتاد أماكن عمله، ولم يتوان لحظة عن الجد في البحث والدراسة وعلى هذا الحال حتى أنهى سنته الدراسية الثانية وبتقدير عال أهله أيضا للحصول على ماجستير في الاقتصاد، وكتب رسالة الماجستير في العلوم السياسية حول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مبادئها، وتطلعاتها نحو المستقبل كان ذلك في عام 1974 كتبها بوقت قياسي وفي غضون يومين فقط .
يصر عبد الستار أن سر الإنجاز في العمل هو الضغط، فطالما أن الوقت ضيق والحاجة ماسة فان النتائج تكون أفضل وإبداعية بدرجة كبيرة.
راسل عبد الستار جامعات أمريكية من أجل الدكتوراه، وقبل في جامعة ميسوري، وقبل بدء رحلة الدكتوراه عمل عبد الستار في مطعم أمريكي، وتعلم مهنه الطبيخ على يد نائب رئيس جمعية الطباخين في الولايات المتحدة الأمريكية، هو الآن طباخ ماهر.
كان يتواصل عبد الستار مع أهله بواسطة الرسائل، فكان يكتب له والده باستمرار ليخبره عن أحوال البلدة والأسرة، ومع بطء سير هذه الرسائل كان عبد الستار يتلهف لسماع أخبار عائلته ويتفاعل مع الأحداث التي كانت تحملها. وعلى صعيد أخبار الوطن فكان أيضا يسارع إلى سماعها في نشرات الأخبار، وبشوق يتلامس صفحات الجرائد التي كانت تصل من لبنان أو مصر.
حافظ عبد الستار على وضعه الاقتصادي بالعمل إلى جانب الدراسة فضلا عن منحة البحث والتدريس التي منحت له أيضا في جامعة ميسوري، أصبح الأفق يتسع له ليمارس بعض النشاطات إلى جانب الدراسة فتحرك على المستوى الثقافي عبر الندوات التعريفية بالتراث العربي، ومسارح الأكلات العربية، بالإضافة إلى النشاطات الفنية من دبكات وأغان شعبية التفت حولها شعبية لا بأس بها.
لم تثنه التهديدات التي كان يتلقاها اثر نقاشاته السياسية المتعمقة والتي تنم عن فكر واع ومتنبه إلى ما يحدث حوله، فكانت شخصيته في جامعة ميسوري قد تبلورت بشكلها الكامل، عدا عن درجاته العالية التي حصل عليها فقد حصل في ثلاث سنوات على ماجستير في الاقتصاد ورسالتها في التنمية الاقتصادية، ودكتوراه في العلوم السياسية و رسالتها حول نظرية الفضيلة في الإسلام.
وللمفارقة فقد كان يلفت انتباه عبد الستار الطلبة العرب الذين قدموا إلى أمريكا لأجل الدراسة ومن بينهم سعودي يفشل للمرة الرابعة عشر في الحصول على الدكتوراه، وآخرون عراقيون جدوا من أجل تحقيق هدفهم المنشود للعودة سريعا إلى موطنهم العراق، وكانوا رقباء على بعضهم البعض إذا زل أحدهم يذكره الأخر، ويستذكر عبد الستار موقف احدهم عندما رأى عراقي أخر يتحدث إلى امرأة، فهدده بقوله: "إذا لمحتك مرة أخرى تتحدث إلى امرأة سأضعك بكيس وأرسلك إلى بغداد... " وكان ذلك من منطلق الحرص على تحقيق الهدف الأساسي.
بعدما أنهى عبد الستار دراسته للدكتوراه، وفي نهاية سنته الخامسة والأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، أراد أن يحتفل وأصدقائه بهذه المناسبة فكانت طبخة المقلوبة المعروفة فلسطينيا ضيافة حفله، فطبخ لأصدقائه المقلوبة وأخذهم الى منتزة المدينة وتناولوا ما طبخت أيدي عبد الستار، وكان نشاطه الأخير في أمريكا.
خوفا من أن يصبح غريبا عن بلاده ويفقد مواطنته الفلسطينية، اضطر عبد الستار أن يغادر أمريكا قبل أن يحضر حفل تخريجه، لأن التصريح الذي كان بحوزته لمدة خمس سنوات تنتهي فعاليته بتاريخ 1/8 /1977 وكانت حفلة تخريجه بتاريخ 5/8/1977. ففصلت تلك الأيام القليلات عبد الستار عن يوم يشهد فيه إنجازه الكبير، وفي الأول من آب كان قد وصل الى أرض الوطن. استقبله والده بذبح ثلاثة خراف فرحا بإنجاز ابنه، وزع لحمها على أهالي البلدة، واجتمع عبد الستار بأهله بعد غياب خمس سنوات .
في معترك الحياة ...
بدأت صراعات عبد الستار قاسم في واقع العمل تبرز الى السطح بعدما أصبح فعليا داخله، أراد أن يخدم وطنه وربما هنا قد يساهم في تحقيق حلمه الذي لم يغب قطعا عن باله، أراد أن يباشر عمله في إحدى الجامعات الفلسطينية، فتقدم بأوراقه لجامعة بيرزيت وانتظر الهاتف ليطلبه لكنه لم يفعل...! الأمر ذاته حصل في جامعة النجاح الوطنية ولم يفهم عبد الستار السبب.
حمل فكره وغادر الضفة الغربية الى الأردن، وتقدم للتدريس في الجامعة الأردنية، قبل طلبه وعين مدرسا في قسم العلوم السياسية، مارس المهنة لمدة ثلاثة فصول دراسية، لكن أمانة حمل على عاتقه أن يوصلها الى طلابه لم تعجب جهاز المخابرات الأردنية، أدرك وقتها عبد الستار أن الوقت لن يطول به في الجامعة الأردنية، ولم تكذب المخابرات الأردنية توقعه ففصل وخمس مدرسين فلسطينيين من الجامعة وكذلك واحد وعشرون طالبا بينهم سبع فلسطينيين والباقي أردنيين وهذا على خلفية الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني فيبدو أنه كان للمفصولين موقفا ضد إسرائيل لم يرض المخابرات الأردنية.
لم يأبه عبد الستار لما حدث وبقيت في نفسه ذات الثوابت ولم تهتز، بل على العكس من ذلك وكما يذكر عبد الستار أن طلبته كانوا يرفعون فيه تقارير للمخابرات الأردنية وكانت المخابرات تستدعيه مرارا وتكرارا، لم يكن ينكر ما قال ولم يكن يتنازل ويعلق :" كانت المخابرات تحذرني قبل أن أغادرهم بعد كل مقابلة أن لا أتكلم بما حدث بيني وبينهم، فكنت ما إن أصل الباب الخارجي لمبنى المخابرات حتى أبدأ بسرد ما حدث معي ..." .
قاعدته الثابتة بهذا الشأن أن لا تخضع ذاتك للمخابرت وإذا فعلت لن تسلم، ستلاحقك المخابرات في كل مكان، وفي إحدى محاضراته والتي كانت عن تجنيد الأنظمة العربية للمخابرات لصالحها وضرب مثالا على ذلك ما كان يفعله الملك حسين آنذاك، وفي اليوم التالي قابله عميد الكلية وقال له: "هل تعلم أين ذهبت محاضرتك بالأمس؟" فأجابه عبد الستار: "عند المخابرات بالتأكيد"، فرد عليه العميد: "لا ذهبت هذه المرة الى الديوان الملكي ..."
بقي عبد الستار في الأردن لفترة وجيزة استغلها بكتابة أول كتبه وكان في الفلسفة وبعنوان الفلسفة السياسية التقليدية عن أرسطو وأفلاطون والفلسفة اليونانية، والكتاب الأخر كان سقوط ملك الملوك وكان أول كتاب عن إيران كتبه عبد الستار تزامنا مع اشتعال الثورة الإسلامية في إيران، لم يجرؤ أحد على نشر هذا الكتاب رغم أن عبد الستار حاول مرارا أن ينشره في بيروت بعد أن نجح بتهريبه الى هناك، وبعد وصول الرد من مطبعة الطليعة في لبنان بأن الكتاب سوف ينشر، إلا أن جبنا سيطر على الموقف فلم ينشر الكتاب، فكر عبد الستار بالسفر الى بيروت كي يسأل بنفسه عنه، لكن المخابرات الأردنية احتجزته وأخذت منه جواز سفره، وطلبت منه المراجعة بعد ثلاثة أيام، ولم يفعل حتى الآن... .
حمل عبد الستار كتابه ملك الملوك وعاد به الى الضفة، وعلى الجسر صادره اليهود وكان مكتوبا بخط اليد، ورغم كل ما اشتمل عليه الكتاب من حقائق حول تعامل شاه إيران مع إسرائيل، وحول منظمة التحرير الفلسطينية، وما كشفه عبد الستار عن السياسة الإسرائيلية، إلا أن الكتاب وصل الى عبد الستار بالبريد بعد شهر ونصف من مصادرته. بعد كل تلك المحاولات نشر عبد الستار الكتاب في الضفة الغربية ونجح نجاحا كبيرا.
مسيرته في النجاح ...
عاود عبد الستار وتقدم بطلب للتدريس في جامعة النجاح الوطنية، وبعد أيام وأثناء مراجعته للطلب أجابه كايد عبد الحق رئيس جامعة النجاح الوطنية بأن لا مكان له في الجامعة، فاستغرب عبد الستار لعلمه أن قسم العلوم السياسية لم يكن فيه إلا مدرسا واحدا، فطلب من رئيس الجامعة أن يكتب ذلك في كتاب رسمي، ولعله هذا الطلب كان سببا في تعيين عبد الستار قاسم مدرسا في جامع النجاح الوطنية، وكان ذلك في تشرين الأول من عام 1980م.
منذ أن باشر عمله في جامعة النجاح وهو يحافظ على مبدأ واضح في التدريس، وعلى بصمة جدية تميز بها، فالسائل عنه لن يتوه في غمرة الأخبار التي يتصدرها.
زواج غريب من نوعه...
كانت لها بصمة في مشاعره منذ لحظة التقاها، كانت إحدى طالباته والتي تعمد أن يتجاهل حتى ذكر اسمها ضمن قائمة الأسماء المدرجة لديه، كان خجلها يمنعها من المطالبة بحقها منه فهي تحضر الدرس ويسجلها المحاضر على أنها غائبة، خوفها من العقاب بالفصل دفعها الى مراجعته وكان هذا ما أراد عبد الستار فتعرف إليها وبعد فترة من الزمن عرض عليها الزواج، وكانت البداية مع شريك.
كانت تلك الفتاة أمل فيصل سليم الأحمد من محافظة جنين، بعدما عرضت الموضوع على والدتها، وكذلك على عمها لأن والدها متوفى، قام الأهل بتداول الأمر فيما بينهم واتفقوا على القبول، رغم أن عبد الستار كان يكبر عروسه باثني عشر عاما وكان الشيب قد غزا باكرا شعره. تمت الخطبة على الميسور كما يقول عبد الستار، وبعدها استعجل الخطبة بالزواج: " كانت والدة أمل محافظة جدا، هذا الأمر دفعني الى استعجال الزواج لأن الأمر كان يتطلب الإذن في كل عمل نقوم به..." هيئ عبد الستار نفسه، وجهز المطالب الأساسية التي تقتضيها الحاجة، والطريف أن عبد الستار يمقت معظم العادات التي يتداولها الناس بالعرف الاجتماعي، تمرد على العادات والتقاليد فهو لم يجلس في كوشة، ولم يقم حفلا راقصا كما يخيل للبعض، يثني عبد الستار: "عملت حفلة صغيرة بالمتنزه ووقفت أنا والعروس على باب المنتزه لنحيي الحضور وبعدها ركبنا بالسيارة وروحنا على الدار..." كان ذلك بتاريخ 14/3/1981م.
هدية زواجه...
بعد زواجه بأسبوعين، طرقت أيدي المخابرات الإسرائيلية الأبواب باحثة عنه، قصد الجيش الإسرائيلي منزل والده في دير الغصون ولم يجدوه، فرافقهم الوالد الى منزل ولده في مدينة نابلس، معصب العينين قادته الأيدي الغادرة الى سجن نابلس بعدما فتشت القوة منزله وعبثت بأغراضه، كان يومها عبد الستار يحتفظ بورقة مهمة، فيقول ساخرا: "فتش الجندي في جرار المكتب وأمسك الورقة بالمقلوب ثم تركها ..." ويستدرك: "وأنا خارج من المنزل وضعت حبة ملبس في فمي..."
وصل عبد الستار الى سجن نابلس وبعد تفتيشه وملابسه نقلته المخابرات الى السرايا والتي كانت تضم مركز التحقيق الرئيسي وما يعرف بالزنازين، وبحرقة لامست قلبه وأعادت ما تبقى من رماد تلك الأيام يصف وضعه: "شبحوني، يعني ربطوا إيدي بعامود ولازم أضل واقف...، بعد ثلاثة ساعات لازمتني السعلة حتى أن الحارس أخبر الضابط وفك الأصفاد عن يدي ووضعوني بغرفة حتى الصباح..."، وفي الصباح قدم إليه ضابط المخابرات طالبا منه أن يخبره بحقيقة أمره، وهذا يعني أن يعترف بما اقترف من ذنب، لم يجب عبد الستار فتم نقله الى زنزانة أخرى كانت من تكريمات الاحتلال أن ضمت هذه الزنزانة حنفية ماء وبطانيتين لم تقياه من برد آذار المعهود، لكن ما حصل عليه يعد تكريما لمعتقل ما زال تحت التحقيق، ربما لأن عبد الستار أستاذ جامعي.
تلك هي المرة الأولى التي يعتقل فيها عبد الستار، وكان أول أستاذ جامعي حامل لشهادة الدكتوراه يعتقل في فلسطين.
استمر التحقيق مع عبد الستار وعلى عدة جلسات وجهت له خلالها تهم عدة من بينها يقول عبد الستار: "وجهت لي تهمة العمل على تدمير دولة إسرائيل، فأجبت نعم هذه صحيحة..." لم يكن يكترث عبد الستار بردة الفعل ولم يكن يأبه لما يحاول الاحتلال تلفيقه له، بل كانت إجاباته تصدق فعله، أما التهمة التي تلتها كانت على خلفية اعترافات أحد الشباب داخل السجن، فقد اعترف احدهم على عبد الستار بأنه قابل أحد صانعي المتفجرات وهو باسم رشماوي من بيت لحم كان قد استشهد أثناء صنعه لإحدى القنابل التي انفجرت سالبة معها روحه.
وضعت المخابرات عبد الستار و الشاب الذي اعترف عليه في غرفة واحدة، وصاحبتهم بجهاز للتنصت، فدار حديث بين الاثنين مفاده أن الشاب يقول أن باسم رشماوي أتى الى نابلس قبل استشهاده وقابل عبد الستار، في المقابل عبد الستار لم يتعرف بالشاب أو بالآخر الذي يصنع المتفجرات، بعد بضع دقائق فتحت المخابرات الباب على المعتقلين وأخذت جهاز التنصت لتكتشف أن عبد الستار لم يكن على علاقة بباسم رشماوي ،إلا أن الأساليب لا تنتهي عند المخابرات الإسرائيلية للكشف عن الحقيقة.
"الليلة النومة عند العصافير..."
بمجرد أن تغيرت عليه الطريق، أدرك عبد الستار الى أن الأسلوب التالي هو غرفة العصافير، والتي يحبس فيها المعتقل لفترة من الزمن بما تقتضيه الحاجة مع عدد من السجناء المعهودين بالتعامل مع إسرائيل، والهدف هو الوصول الى ما لم تصل له المخابرات الإسرائيلية جراء تحقيقها مع هذا المعتقل. كان عبد الستار على علم بكل أساليب التحقيق المتبعة في السجون الإسرائيلية، فلم تجد نفعا لا سيما أنها مكشوفة عليه.
لقي عبد الستار اهتماما واسعا منذ لحظة دخوله الغرفة، فكلمات الترحيب تلعثمت بها الشفاه، وقبلات الدجل تسابقت على وجناته، بعدما جلس عبد الستار قام احد السجناء بتعريفه على شاويش الغرفة وهو أحمد عبد الكريم باسمه الحركي، لم يحلق وجهه عبد الستار بعد منذ أن دخل الى المعتقل قبل تسعة أيام، ولم يأكل إلا بضع لقيمات من فتات ما يجلبه الإسرائيليون للمعتقل تحت التحقيق، طلب أن يحلق وجهه فتراكض الشباب الى إعداد ما طلب، وحضروا له وجبة ملوكية من الطعام، بعد ذلك حاول عبد الستار أن يوصل رسالة الى من يحاول استغفاله، وذلك عندما أعدوا له كأسا من النسكافيه، وبوصف شحنه بحذاقة تفكيره: "ضغطت بباطن كفي على فتحة الكأس لمدة دقيقة أو أكثر وبعدها رفعت يدي واستنشقت ما تراكم عليها من بخار، عندها أدرك احمد عبد الكريم هذا أنني أعلم من هو ولصالح من يعمل..." كانت لدى عبد الستار فكرة كاملة عن احمد عبد الكريم، اسمه الحقيقي هو عبد الحميد الرجوب، والذي قدم بالأساس بدورية من شرق الأردن، وقبض عليه وهو في طريقه الى الضفة الغربية فعلم أن من بعثه هو من أخبر الإسرائيليين، عنه فتحول الى جاسوس لدى الإسرائيليين، ويتعاون معهم منذ ذلك الوقت، وهو ممن كان له الفضل في تأسيس غرفة العصافير.
لم يحاول احمد عبد الكريم أن يناقش أسباب قدوم عبد الستار الى المعتقل قطعا بعدما وصلته الرسالة، إتضح لعبد الستار أن هذا الشخص مثقف جدا فهو خريج جامعة دمشق في الفلسفة، طلب عبد الستار إليه أن يتحدث الى السجناء، وبعد إلحاحه نظرا لأن النظام الثوري في الغرفة لا يسمح للضيف بالحديث الى السجناء إلا بعد ثلاثة أيام، وافق عبد الكريم على طلبه، وأعطى عبد الستار السجناء محاضرة لمدة ساعة ونصف عن حتمية زوال دولة إسرائيل!، والطريف أن عبد الستار مازال في السجن عدا عن ذلك ردة فعل احمد عبد الكريم والذي قال: "إن شامير واع لكل ما يقوله الدكتور وسوف يتلاف كل هذه الأخطاء..."
في صباح اليوم التالي غادر عبد الستار غرفة العصافير، وقطعا لحق به تقرير احمد عبد الكريم، ومباشرة نقلت المخابرات عبد الستار الى الزنازين بناء على خلو التقرير من أي زلة لعبد الستار، كانت الزنزانة تحتوي على فرشة بسماكة 5سم، وتتسع بأقصى حد لشخصين، وكان فيها ثلاثة معتقلين بالإضافة لعبد الستار، ومع ذلك كانت قصرا بالنسبة لزنزانة التحقيق، قضى عبد الستار فيها ما يزيد عن أثنى عشر يوما، أما مدة التحقيق كاملة استمرت 45 يوما استدعي خلالها للتحقيق أكثر من عشر مرات، لم تكن بناءا على معلومات جديدة، وإنما فقط من أجل إرباك المعتقل، ومثل أيضا عبد الستار أمام المحكمة لتمديد توقيفه. لقي عبد الستار زوجته العروس في قاعة المحكمة، بعيونها المحمرة وبملامحها البائسة ناظرته واطمأنت عن حال عريسها المعتقل.
باحثا عن فتات قطعة من السمك أحضرت له في الزنزانة قبل ثلاثة أيام من منع الطعام عنه، سمكة عفنة لم يأكلها وقت أن أحضرت له، لكنه فتش عن فتاتها ليسد لحظة من جوعه، وهذا تحت ضغط البيولوجيا كما يفسر عبد الستار: "الإنسان وهو ضعيف يقبل بأقل حتى ممن كان يرفضه وهو قوى، وهذا ما تمارسه أمريكا على الشعب الفلسطيني من خلال الرواتب...". ومنع الطعام عن المعتقل إحدى أساليب التعذيب التي يتبعها الاحتلال الى جانب البرد، وإجبار المعتقل أن يبقى مستيقظا، وإغراق أرضية الزنزانة بالماء، والزنازين ذات الجدر الخشنة وغيرها، رغم أن الأساليب الأخرى كالضرب والتعذيب الجسدي لم يخضع لها عبد الستار، إلا أن أصوات من كانوا تحت الضرب لفترات ليست بالقليلة كانت تخترق فؤاده قبل السمع.
بعدما فقدت المخابرات الأمل في الحصول على معلومات منه أخضعته لجهاز كشف الكذب والذي أيضا كان يتمتع بخبرة في كيفية عمله والتعامل معه، فكان بلا جدوى، وخرج عبد الستار بعدها بأربعة أيام وفي اليوم الخامس والأربعين من اعتقاله.
أتعبه الانتظار، فغادر منزل ولده الى دير الغصون، كان والد عبد الستار في طريقه الى المنزل عندما وصله خبر خروج ولده من المعتقل فعاد الى نابلس بحرارة شوقه الى ولده، والتقى عبد الستار بعائلته بعد غياب في المعتقل... .
راهن البعض على قدرة عبد الستار في تحمل مثقلات التحقيق الإسرائيلي، فأحد الأقارب كان مقتنعا أن عبد الستار لن يصمد أكثر من مسافة الطريق الى المعتقل، كان هذا جاهلا بقدرة عبد الستار على التحمل فيفتخر عبد الستار: "أنا أواجه الأمور بعقل لا بجسد، والجسد عندما يطوع للعقل يصبح أقوى من ما هو عليه..."، هذه التجربة أكسبت عبد الستار صيتا من البطولة والصمود ذاع بين أروقة جامعة النجاح وفي تهامسات الطلبة بين بعضهم البعض، لا سيما وأن عبد الستار كان في بداية مشواره داخل جامعة النجاح.