أحدث الأخبار
الخميس 25 نيسان/أبريل 2024
نحن وامريكا: عودة التاريخ ام نهايته؟!

بقلم : د.عامر الهزَّيل ... 11.3.06

يحتدم النقاش اليوم حول وجهة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية الاسلامية بعد غوصها أكثر واكثر في المستنقع العراقي وبعد فوز حماس ومعه نهج المقاومه مع كل تداعياته الاقليمية والعالمية. في هذا المقال سنحاول تشخيص المرحلة وطرح البدائل من خلال ربط الحلقات بين أهم المحطات، لعلنا نساهم مع اخرين في استكشاف درب طال تيهه.
مع ان الخطر الشيوعي كان عنصراً اساسياً في بلورة استراتيجية الاحتواء والرد الشامل الامريكية وتطبيقها العملي بالتدخل العسكري وفق الحاجة بعد اعلان ترومان عام 1947،غير ان نظرية المنطقة الرمادية (راملاند) للخبير العسكري نيكولاوس سبيكمان كانت حاضره وبقوة في الرؤية الاستراتيجية الامريكية. وفقاً لهذه النظرية فان مصدر الخطر الداهم على الحضارة الغربية برمتها يكمن في مناطق نشأت فيها حضارات ودول عظمى مؤكدا ان احد هذه المناطق هي المنطقة العربية الاسلامية التي هددت الغرب واحتلت جزءً منه اكثر من مرة. انطلاقاً من ذلك حذر سبيكمان الغرب من عودة التاريخ لأن لهذه المنطقة كل مقومات الوحدة الاجتماعية، السياسية والاقتصادية.
بعد اخر يضاف لابعاد الجغرافيا، التاريخ والعسكرية وهو بعد الاقتصاد ممثلاً في الذهب الأسود وما تعنيه هذه الخيرات للحضارة الغربية، حيث يجمع المختصون على ان اي وقف لضخ النفط يعني بالضرورة كارثة اقتصادية ستؤدي الى انهيار الحضارة الغربية.
عن هذه الحقيقة عبر الرئيس الامريكي الاسبق ايزنهاور في رساله الى الكنغرس بتاريخ 1957/1/15، ذكر فيها ان اي انتصار لأي قوة معادية للانظمة الحليفة في الخليج يعني بالنسبة "للامم الحرة" مصيبة ستهدم اقتصادها، الأمر الذي سينعكس انعكاساً خطيراً على النظام السياسي الأمريكي على حد تعبير ايزنهاور نفسه. لذلك سعت الولايات المتحدة بشكل محموم لحماية امن الخليج وابار النفط عبر اقامة الاحلاف مثل "قيادة الشرق اوسط", "مبدأ ايزنهاور", "حلف بغداد", "السنتو", "قوات التدخل السريع" وتوزيعها وفق الهرمية العسكرية لقيادة "السينتكوم", "الباكوم" و"اليوكوم" والتي كلفت بحماية امن حدود الخليج على خطين دفاعيين حددتهم ادارة ريغن. الخط الأول يحيط بحدود وشواطئ الخليج ويمتد من تركيا الى سلطنة عمان ماراً باسرائيل ، مصر ،السودان ،الصومال وكينيا ويتداخل بالخط الدفاعي الثاني الذي يمر عبر المحيط الهندي والباكستان متصلاً بالقاعدة العسكرية الامريكية الضخمة ديغوغارسيا.
اسرائيل كانت وبقيت قاعدة الاسناد والانطلاق الاثبت في اطار هذه الاستراتيجية حيث وصف دورها بامانة احد رجال حكومة ريغان جوزف شوربا بقوله:
"اسرائيل وحدها هي الصديق الاستراتيجي الثابت في المنطقة، ففي حين قد تهدد الانظمة الحليفة تهديداً مباشراً او غير مباشر من القوى المعادية في كلتا الحالتين تبقى اسرائيل القوة الرادعة الرئيسية في وجه هذه السياسة، فالدول المعادية كانت وما تزال عاجزة من ان تؤثر على الدول المحافظة والحليفة. هذا لأن اسرائيل عملت ومنذ تأسيسها على صرف انظار وتحويل طاقات الراديكاليين العرب عن هذا الهدف."
ولكي نفهم اكثر ابعاد استراتيجية الركيزه المركزيه اسرائيل في الرؤيا الامريكيه للمنطقه لا بد من العوده الى الصراع بين تيارين في الخارجية الامريكية في التعامل مع النهوض القومي العربي.واحد مثلته ادارة كندي بتأكيدها على ضرورة التعامل مع حركة التحرر والتيار القومي بشكل ايجابي لابعاده عن التأثير الشيوعي ولأحتوائه وكسب تحالفه لأنه اضمن لمستقبل مصالح امريكا من دعم الانظمه الدكتاتورية. تطبيقاً لذلك حاولت ادارة كندي التقرب من عبد الناصر والتعامل بشكل ايجابي مع الثورة اليمنية. غير ان أغتيال كندي دفن معه هذا التوجه ليكرس جونسون ومن تلاه النهج الأخر وهو فرض الشرعيه الامريكية بالقوة.
كسنجر كان احد ابرز منظري هذا التوجه بقوله: ان الحصول على الأمن والسلام العالمي والأقليمي لا يتم عبر السعي وراء اتفاقيات سلام وانما بفرض قبول شرعية توجه امريكا. هذه الشرعية لا يمكن أن تبنى على مثاليات العداله وأنما على ارضية أهداف النظام الدولي الذي تريده الدولة العظمى، مبيناً ان فرض هذا التوجه في العالم الثالث والمنطقة العربية بشكل خاص هو المفتاح لأستتباب النظام العالمي. من هنا سلكت امريكا درب هذا المنطق وفرضت شرعية هذا النظام العالمي بشرعنة القمع وحكم الانظمه الدكتاتورية في انحاء مختلفه من العالم.
في هذا السياق اوعزت امريكا للأنظمة العربية الحليفه باحتضان وتشجيع بعض التيارات الاسلاميه في وجه المد القومي واليساري، مع حرصها الكامل على أن لا يتعدى طرح هذه الحركات حدود تطوير اللا تطور في الموروث الاسلامي كشكال لأي نهضة تكشف مكمون الأسلام الثوري والديمقراطي. في هذا الاطار تفهم ظاهرة الأفغان العرب من المجاهدين الذين نظموا وسلحوا ودربوا بواسطة الأنظمة العربية وجهاز المخابرات الأمريكيه. تكتيك حاولت اسرائيل اتباعه بغض طرفها وفهمه الشهيد احمد ياسين مستغلاً هامشه بأعلى قدره تخطيطيه ليفجر تيار المقاومه الأسلامي ممثلةً في كتائب عز الدين القسام عام 1987، لتكّون مع حزب الله الأرهاصات المحفزة والنموذج المحتذى به لبناء نهج المعارضه والمقاومه الأسلامي خارج النص الأمريكي بعد هزيمة الشيوعيه في افغانستان وانهيار الاتحاد السوفيتي مع بقاء الفوارق التنظيميه، العقائدية والتكتيكيه.
في بداية التسعينات وتحديداً بعد مؤتمر مدريد اجتاحت امريكا والغرب نشوة الانتصار على الشيوعيه الى درجة اعلن فيها فرنسيس فوكوياما، أحد أبرز أدمغة اليمين الأمريكي المعاصر "المحافظين الجدد" في حينه, نهاية التاريخ بمفهوم سيادة الديمقراطية اللييراليه كتجلي للمسيحية المتطوره وتوسيع علماني لمفهوم المسيح لكرامة الإنسان. وفقاً لذلك طرح بوش الأب مشروع اقليم الشرق اوسط الذي طوره شمعون بيرس ليغدو مشروع "الشرق اوسط الجديد". وبدأ التخطيط للقرن الامريكي القادم. في هذا السياق طور بول وولفوفيتر، الذي شغل منصب نائب وزير الدفاع رامسفيلد وهو يشغل اليوم منصب رئيس البنك الدولي، مبدأ الضربة الوقائية بمفهوم ان على امريكا ان تكون في جميع انحاء العالم لتدافع عن مصالحها وعن حلفائها. وهذا الموقف تبناه بوش الأبن وعرف فيما بعد "بمبدأ بوش" بعد الحادي عشر من سبتمبر.
لقد كانت تداعيات زلزال الحادي عشر من سبتمبر اشبه بحرب عالمية ثالثه اعادت لواجهة التخطيط الأستراتيجي الأمريكي مسألة عودة التاريخ وطرح نيكولاوس سبيكمان في نظرية "الرام لاند". هنا بلورت الاداره الامريكيه وفقاً لمبدأ بوش استراتيجية "البؤره والركيزتين". بمعنى بؤرة الحرب على "الارهاب" (على الاسلام المقاوم) مع ركيزتين الأولى ضمان استتباب الأمن في الشرق اوسط من كشمير الى المغرب ومن المحيط الى القفقاز، والثانيه منع انتشار الاسلحه النوويه خصوصاً مع دول اسلامية في مقدمتها العراق وايران.
جنباً الى جنب طورت امريكا مفهوم تعميم الديمقراطية الغربية وفقاً لايقاع خاص يتحكم فيه الوجود العسكري المباشر في العراق لفرض نموذج الاحتلال الديمقراطي كبؤرة يتم توسيعها تحت الحراب في كل المنطقة. توجه قد يعتبر عودة لرؤية كندي بعد ما استنفذت استراتيجية فرض السيطره والشرعيه بالقوة اهدافها ومنها سحق التيار القومي. تم هذا بتطور تصاعدي للبديل الاسلامي في وقت انهار فيه المشروع القومي تدريجيا ابتداءً بهزيمة حزيران مروراً بموت عبد الناصر وانتهاءً بترويض "فتح" وأغتيال عرفات بعد استدراجه لسجن رام الله.
في توجهها هذا ارتكزت ادارة بوش على ابحاث ميدانية بينت ان جذور العداء لامريكا ليس في الاقتصاد وانما في السياسه وبشكل خاص في سياسة الانظمه الحليفه حيث هنالك 22 نظام عربي غير ديمقراطي. بكلمات اخرى مصدر جذور العداء ليس بالضرورة الطبقات الفقيره بل شرائح الوسط التي تبحث عن موقعها التاريخي وفرضت عليها سياسة الانظمه ثقافه سياسيه مفادها ان التغيير لا يأتي الا من فوهة البندقية.
وعليه انطلق هذا التوجه من وجوب بلورة شريحة الوسط واستقطابها كألية حراك اجتماعي وسياسي من خلال الحياة الديمقراطيه، والمهمه الاساسيه ترويض الاسلاميين على مراحل مع العمل على اضعافهم ببلورة التيار القومي العربي الليبرالي. بكلمات اخرى امريكا التي ضربت المد القومي المقاوم بدعم بعض التيارات الاسلاميه تريد اليوم تحجيم الدور الاسلامي ببلورة التيار القومي الليبرالي الذي يرى في الديمقراطية الليبرالية الغربية نموذج للحل مع وجوب استيعاب خصوصيات الهوية الاجتماعيه. اذاً التكتيك "بط الحبن" الاسلامي واحتوائه خطوه خطوه اولها ديمقراطية محجمه وفقاً للنموذج التركي، وان شئتم اردوغانية الديمقراطيه. لقد فاز حزب العدالة والتنمية الاسلامي التركي ب 80% من الاصوات في الانتخابات التشريعية، الا ان التجربة اثبتت بالملموس أن هذه الشعبية وتعبيرها الديمقراطي مخصية التأثير على ثوابت السياسه التركيه كان ذلك داخلياً او خارجياً. فالحكومة التركية المشرعنه ديمقراطياً يرسم لها مجلس الأمن القومي والعسكر سياستها الداخلية والخارجية بشكل يحافظ على ثوابت النظام ويمنع من الحكومة ان تصبح ذات توجهات عربية اسلامية على حساب توجهاتها التغريبيه التي زرعها اتاتورك.
اسرائيل وتجربة "اوسلو" هي المفتاح لفهم استراتيجية الأحتلال الديمقراطي الذي يعطي القيادة السياسية شرعية جماهيرية والمطلوب منها اعطاء الأجنبي شرعية التواجد والنفوذ وفقاً لنظرية الفصل بين الأمن والسيادة الديمقراطية.
ولأن القضية الفلسطينية هي المفتاح لفشل او انتصار هذه الاستراتيجية، عملت امريكا على جر حماس الى لعبة الديمقراطية بعد أن دست لها لغم الفصل بين المجلس التشريعي عن المجلس الوطني لتقطع عليها وعلى الشعب الفلسطيني الطريق قانونياً لترميم منظمة التحرير التي استهدفت تصفيتها الاستراتيجية الامريكية.
حدث ذلك بعد اغتيال عرفات حينما انقض تيار اوسلو على قانون الانتخابات رقم 13 لعام 1995 عند وضع قانون الإنتخابات الجديد9/2005. هذه الحقيقة المذهله يكشفها لنا السيد سليم الزعنون رئيس المجلس الوطني الفلسطيني في نص مذكرة بعث بها الى محمود عباس بتاريخ 2.2.2006:
" تحية فلسطين..
اتصل بنا مراسل اسرائيلي من "الجيروزالم بوست" عرفنا من خلال حديثه بأن اعضاء المجلس التشريعي الجديد (132 عضوا), لم يعودوا اعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني, وذلك لأن المجلس التشريعي عندما وضع قانون الإنتخابات الجديد رقم 9/2005 الصادر في شهر حزيران/يونيو 2005, أسقط المواد التي تتحدث عن ذلك في القانون السيادي الصادر عن الرئيس الشهيد ياسر عرفات … وإذا اجريتم المقارنة بين القانون القديم السيادي والقانون الجديد, تجدون أن اليد الآثمة اسقطت الفقرة (1) من المادة الثالثة والتي جاء نصها كالتالي:يكون اعضاء المجلس الفلسطيني (التشريعي) فور انتخابهم اعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني وفقا للمادتين (5) و(6) من النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية."
وهذا يتناقض تماماً مع روح اتفاق حوار القاهرة (آذار 2005) حيث تم التوافق الفلسطيني على أمرين, اقرار مبدأ تقاسم المجلس الوطني الفلسطيني بين الداخل (132 مقعدا هم اعضاء المجلس التشريعي) والخارج (168 عضوا), مقابل اقرار تهدئة مع اسرائيل. اتفاق وافقت بموجبه حماس على خوض الانتخابات مع رؤيه واضحه لاستبطان منظمة التحرير ببرنامجها الشئ الذي اكدته بقولها:
"إنّ حركة حماس ترى مشاركتها في الانتخابات تطوراً طبيعياً في سلوكها السياسي يتوافق مع دورها في إعادة تشكيل الحياة السياسية الفلسطينية بما يكفل الحفاظ على الثوابت الوطنية وحقوق شعبنا غير القابلة للتصرف بها ... إنّ مشاركة حماس ففي الانتخابات تأتي في سياق حماية برنامج المقاومة في وجه من يحاول العبث بحقوق الشعب الفلسطيني ومكتسباته. ولقد قفزت انتفاضة الأقصى عن أوسلو، وأجمعت الغالبية العظمي من الشعب الفلسطيني على ذلك."
وعليه رأت امريكا في مشاركة حماس في الانتخابات وفقاً لسقف اوسلوالخطوة الاولى على درب الترويض والاحتواء قد توازيها خطوة اقرار البرنامج المرحلي الفلسطيني عام 1974 التي فهمته واشنطن ومعها باقي الاطراف الحليفه في حينه الخطوه الأولى لقيادة المنظمه الى مرحلة التيه ومذبحة القضية، بغياب رؤية استراتيجية توجه هذا الموقف.غير أن المفاجئه لوشنطن وحلفائها تمثلت في العرس الديمقراطي الفلسطيني الذي اتاح للشعب الفلسطيني التعبير عن نفسه دون قمع الجزائر او بلطجة نظام مبارك. بهذا اعترفت وزيرة الخارجيه كوندوليزا رايس بقولها ان الحكومة الامريكية اخذت على حين غره، وانها طلبت من العاملين في مكتبها تحليلا لسبب فشل الاداره في قراءة الواقع الفلسطيني.
بكلمات اخرى أتت الرياح بما لا تشتهي السفن. انتصار حماس ببعده الاسلامي العقائدي المقاوم، اكسبها معنى وقوة القضية الفلسطينية ورصيدها التثويري في العالم العربي والاسلامي، وعليه كان زلزال للاستراتجية الامريكية في المنطقه وهي التي تهيأت لقطف مشروع القضاء نهائياً على رصيد القضية الفلسطينية ببعدها القومي المقاوم كنهاية لبداية استراتيجية القضاء عليها ببعدها الأسلامي.
في ظل هذه الظروف وجه فوكايما،صاحب نظرية "نهاية التاريخ"، في كتابه الأخير "المحافظون الجدد : امريكا علي مفترق طرق"، نقداً لاذعاً للأدارة الأمريكيه ، يقول فيه بصريح العباره ان "المحافظين الجدد" داخل وخارج الادارة الامريكية هم الذين سببوا لغزو العراق وهم الذين اقنعوا بوش باستخدام القوة العسكرية لنشر الديمقراطية في الشرق الاوسط وتغيير الانظمة فيها بعدما اقنعوه ان الارهاب في الشرق الاوسط يرضع من الاصولية الاسلامية التي تشكل التهديد الاكبر لامريكا. في هذا السياق يعلن فوكوياما ان خيار الحل العسكري قد فشل تماماً.
ثم يصل الى بيت القصيد ، النافي لنظريته "نهاية التاريخ"، بتأكيده تحقق تخوفات رؤية سبيكمان "عودة التاريخ" حينما يؤكد ان نشر الديمقراطية والاصلاح لا يعتبر حلاً. "فالراديكالية" الاسلامية مربوطة بفقدان الهويه او نتيجة عنها ومهما حاولت امريكا منع او حد مشاركة الاسلاميين في العملية الديمقراطية سيسيطر الاسلاميون وبهذا "يدخلون سم التطرف الاسلامي جسد المجتمعات الاسلاميه". مشيرا الى ان العصر او الزمن الذي كان بامكان الحاكم الديكتاتوري حكم شعبه المستسلم له قد ولى بلا عوده.
حقيقه تشاركه في فهمها اليوم اجهزة الاستخبارات الامريكية والاسرائيلية، وعليه تحاول امريكا استباق الانفجارات لتتحكم في التطور وفقاً لمصالحها، في وقت تسارع اسرائيل فيه بتنفيذ مشروع "فك الارتباط" لتحصين حدودها بما يتفق والمواجهه المفروضه على حد تعبيرها.
لقد بدأت الادارة الامريكية بالاقتناع أن العراق لن يكون واحة سلام وأمان, ولن يكن بمقدوره ان يمثل نموذجاً لتصدير الديمقراطيه الامريكية. على العكس اصبح العراق تحدي تاريخي قد يضع استراتيجية "القرن الأمريكي الجديد" على كف عفريت. فامريكا تقود حرب عالميه ضد "الارهاب" اضافة الى حروب فرعية في العراق وفي افغانستان وهي بحاجة الى انتصار تبتعد عنه في كل يوم تتأجج المقاومه في العراق وافغانستان ويعود فيه مفهوم وجودية الصراع العربي- الاسرائيلي مع فوز حماس الى نقطة البداية حيث كل المؤشرات تدل على نهوض قوى التغيير من جديد. واقع يدفع امريكا للبحث عن خروج من هذا المأزق مع الحفاظ على هيبتها ويضعها امام خيارين بما يخص تنفيذ مشروع الديمقراطيه.
الخيار الأول: ما اقترحه ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجيه وهو بدلاً من ان تكون الأنتخابات الخطوه الأولى في العملية الديمقراطيه يجب أن تكون الخطوه الأخيره، بعد ارساء المؤسسات الديمقراطية، الاحزاب وحرية الصحافه.
الخيار الثاني: هو ما أكده سكوت مكليلان المتحدث بأسم البيت الأبيض، حيث صرح "ان الانتخابات هي بداية العملية لا نهايتها.
هذه الخيارات بالاضافه لخيار استمرار الوضع القائم، تضع امريكا امام خيارين اخرين بما يخص الموقف من اسرائيل.
الخيار الأول: استمرارها في نهج "اوسلو" و"خارطة الطريق" مع تلويحها بورقة ضغط مخطط "فك الارتباط" كصمام أمان في مراحل التقدم وضبط الايقاع. اسرائيل لن تقدم تنازلات اكثر من ما قدمته في كامب ديفيد.
الخيار الثاني: انقاذ اسرائيل من نفسها ومعها مصالح امريكا بفرض حل يمكن للطرفين التعايش معه. والخيار الأخير وارد بشرط وجود موازين قوى تفرضه ... لأنه في النهاية لا توجد للأمم صداقات بقدر ما لها مصالح.
أمريكا واسرائيل ومعها الانظمة الحليفه يدركون أن قوة حركة المقاومة الاسلامية، وقبلها منظمة التحرير، لا تكمن في فوهة بندقيتها بل في قوة ومعنى القدس والقضية الفلسطينيه عربياً،اسلامياً، اقليمياً وعالمياً . غير أن البعد الأخطر في هذا السياق هو قلب الصراع الى ديني عقائدي. تحول قال فيه موشيه ديان: اسرائيل ستخسر الحرب في اللحظة التي يتحول الصراع فيها بين الأسلام واليهوديه. مقولة مختلف عليها بين النخب العربية. مع هذا الشئ المؤكد اننا في اوج اسلمة الصراع بعد ما تهشم التيار القومي المقاوم وتناثر كالبلور تحت وطأة الضربات وممارسة الانظمه الحليفة لامريكا سياسة الأرض المحروقه التي جعلت من المساجد الاطار الأهم والفاعل لاستقطاب الناس.
ولعل حالة التيار القومي واليساري في العالم العربي اليوم تأخذ بعدها التراجيدي من مشهد صور جمال عبد الناصر في الكنيست الأسرائيلي ومن على هذا المنبر يُنظر للقومية العربية الليبرالية التي تشرعن القومية العبرية لا بل تترشح لرئاستها باسم مواطنة الوهم الاسرائيلية. نسوق هذا كنموذج متطرف للحول السياسي الذي اصابنا، الأمر الذي يتطلب منا عملية جراحية لرؤية الدرب بشكل صحيح.
رؤية تستوجب علينا تطوير خطط استراتيجية بديله لكل خيار من الخيارات الامريكية، بهدف فرض الندية والاحترام المتبادل الذي يضمن مصالح الجميع. هذا بشرط التنبه الى أن دبلوماسية الخطوة خطوة والقبضه الحديديه انهكت منظمة التحرير الفلسطينيه بسبب سقوطها في شباك مصيدة فلسطنة القضية الانعزاليه، وبذلك نزعت اسنان قوتها بيدها، وصبت تماما في الاستراتيجية المعادية التي عملت منذ تأسيس اسرائيل على صرف انظار وتحويل طاقات الثوريين العرب اليها تاركة الأنظمة تجدل مع امريكا حبل مشنقة التغيير في المنطقة.
والسؤال الذي يستوجب منا جواب علمي ودقيق، هل يمكن اقناع النخب الحاكمه، بعد ما تبين لها اليوم انها مستهدفة من امريكا، بالتحول الإحلالي الديمقراطي؟ بمعنى انجاز التحول الديمقراطي وفقاً لثوابتنا الحضارية الاسلامية العربية عن طريق المبادره المشتركه بين النخب الحاكمه والمعارضه.
تحدي يفرض علينا عصف ذهني غير عادي بعيداً عن كل الانفعالات للاجابه على ثلاثة اسئلة فرعيه:
1. هل يوجد تيار حقيقي من الاصلاحيين داخل الأنظمه معني بالتغيير وبالاتفاق مع المعارضين البراغماتيين للنظام؟
2. هل يستطيع الاصلاحيون داخل النظام اقناع الخط المتشدد من زملائهم للتعامل مع التغيير السياسي والمؤسساتي المنشود بشكل لا يكرس التجربة التركية ولا منفذاً للخطط الامريكية؟
3. هل تستطيع المعارضه البراغماتيه عقلنة اطرافها وحلفائها الراديكاليين بقبول التوجه المتفق عليه؟
فقط بعد هذا التشخيص وتوفر هذه الشروط يمكن التقدم الى صياغة العقد والاتفاق الذي يجب أن يقود الى صندوق الاقتراع وانتخابات حره، بشكل لا تشكل جولته الأولى سحق لأحد وبشكل تضمن جولاته التاليه ترسيخ النظام الديمقراطي وفقاً لخصوصية المجتمع الأسلامي العربي ومهام وحدته الاجتماعية وتحرير اوطانه. من هنا فان المشاركه في البرلمانات العربية بدون هذه الضوابط تصب تماماً في النهج الأمريكي الذي يريد مشاركة المعارضه على مراحل لضبط التحولات وتوجيهها وفقاً لمخططه العام.
غير هذا البديل الوحيد هو ديمقراطية الإحلال التي تنتج عبر الضغوط والمعارضه الشعبية المنظمة والفاعله الداعمه للمقاومه العراقية والفلسطينية والرابطه بينها وبين التغيير في العالم العربي. فوز حماس يعتبر نموذجاً ومدرسه قلبت السحر على الساحر وعلى حماس استكمال فوزها بخلق عمقها الاستراتيجي كرأس حربة في التغيير العربي، والا شنقتها نفس العزلة التي فرضها توجه التحالف مع الانظمه ومقولة عدم التدخل في شؤون الأخرين!!
من هذا الباب لا نهاية التاريخ ولا عودته يعتبر نموذجاً ينسجم مع هذا التوجه الذي يرى التاريخ فعلاً تراكمياً ونقلات نوعيه يجب أن ترتقي بالأنسان الى العدل والتحرير الذاتي والوطني.

اكاديمي فلسطيني من النقب يختص في العلاقات الدولية والتخطيط الاستراتيجي.