أحدث الأخبار
الخميس 02 أيار/مايو 2024
إخفاق حسن نصر الله في توقع رد فعل الإسرائيليين!!؟

بقلم : خالد كساب محاميد  ... 07.09.06

جوهر ولُب الأزمة في الفكر العربي..
صرح السيد حسن نصر الله في لقائه الأخير مع شبكة " تلفزيون الجديد" : إن "قيادة حزب الله لم تتوقع ولو واحد بالمئة أن عملية أسر الجنديين ستؤدي إلى حرب بهذه السعة وبهذا الحجم،. و لو علمت أن عملية الأسر كانت ستقود إلى هذه النتيجة لما قمنا بها قطعا."
مهمتنا في هذه المقالة فك أسرار هذه المقولة التي لخصت تجربة عنيفة في التعامل مع الإسرائيليين لعلنا نستطيع أن نساعد المواطن العربي وقادة الأمة العربية والإسلامية في فهم أحد أوجه الميكانيزم الذي يدفع الإسرائيلي لاتخاذ شكل معين من التصرف والذي من الممكن رصده وبناء الإستراتيجية التي هدفها خدمة المصالح العربية.
لنتمكن فهم هذا الميكانزم لا بد لنا أن ندرس التصرفات الإسرائيلية وان نحلل تركيبة شخصية الاسرائيلي ومكونات قواه النفسية وعملية اتخاذ قراراته لنتمكن من رصد تصرفاته وردود فعله على المبادرات العربية ومنها "عملية أسر الجنديين".!!
لن اكون مخطئا عندما احدد بان التجربة الفلسطينية في الصراع مع اسرائيل وخاصة منذ الانتفاضة الاولى1987 هي التي تلخص لنا سيرة وتسلسل هذا الميكانزم والذي أدعي أنه يشمل "طاقة تدمير ذاتية" لكينونة التعامل الإسرائيلي الحالية.
لنوضح ذالك نلخص الدراسة العلمية التي قام فيها الدكتور الفلسطيني مصلح كناعنة المحاضر في جامعة بير زيت والدكتورة النرويجية ماريت نيتلاند في كتابهما "أعماق الذات المنتفضة" حول صمود الشعب الفلسطيني التي تكشف لنا القوى الدافعة وراء تحديد رد فعل شباب الانتفاضة الفلسطينية على العنف الإسرائيلي في قولهما الموجز: " وإنما التعرض للعنف كتجربة إنسانية إدراكية هو الذي يُنتج هذا أو ذاك، حيث أن تجربة الإنسان الإدراكيّة مع العنف (وبالتالي تأثير العنف على نفسيّة المتعرّض له) هي محصّلة لكل ما مَرّ به ذلك الإنسان من تجارب في حياته، منذ لحظة ولادته إلى لحظة العنف ذاتها، وكل ما انتقل إليه من تجارب آبائه وأجداده وأصبح جزءًا لا يتجزأ من ذاته المُدركة. فنوعية إدراك الذات لحدث العنف وردّها عليه تحدّدهما ماهيّة الذات المدركة في لحظة الإدراك، وماهيّة الذات المدركة في لحظة الإدراك هي مُجْمَل تجاربها في كل لحظات الحياة " .
وبما أن تحليل د مصالحة ونيتلاند هو علمي موضوعي، فأن الآليات والتحاليل والنظريات والاستنتاجات التي يعلمنا إياها الكتاب لا بد وأن تكون سارية المفعول بالنسبة لدراسة "السيرة النفسية والاجتماعية" لأبناء الشعب اليهودي وخاصة الإسرائيلي الذي نشأ في جو الألم والأمل والإحباط خلال ألفي سنة من اللاسامية ومن عنف الأوروبيين ضدهم، والذي تتوج بالهولوكوست.
فعندما يَعـُد الفلسطيني 2087 شهيدًا (اثناء إنتفاضة الاقصى)، لا يعد الإسرائيلي الضحايا التي تسبب فيها الفلسطيني بعملياته "العنيفة" ضد الإسرائيلي (حوالي الف ضحية) بل يعد ستة ملايين من الضحايا اليهود الذين قتلوا في المحرقة التي تسببت فيها الحضارة الأوروبية. وعندما يعد الفلسطيني 41000 جريح، لا يعد الإسرائيلي جرحاه الثلاثة آلاف الذين تسبب في جرحهم العنف الفلسطيني فحسب، بل يعد كل يهود العالم وكأنهم جرحى من جراء "صدمة / تراومة المحرقة".
يتوجب علينا أن نتوقف هنا لتحليل بعض المقولات العلمية السابقة وربطها مع الحالة الجدلية التفاعلية التأثير بين الذات الفلسطينية والذات الإسرائيلية.
نرى أن الكاتبين يعتمدان على الحدث العنيف أو "التعرض للعنف كتجربة إنسانية إدراكية".
لتبسيط الأمر دعونا نفترض بأن الحدث لدى الإسرائيلي هو عملية فدائية فلسطينية تقتل 5 إسرائيليين، ولنفترض بأن الحدث لدى الفلسطيني هو مقتل 5 فلسطينيين في قصف جوي إسرائيلي.
وفقًا لما يعلمنا به الكاتبان فإن "تجربة الإنسان الإدراكيّة مع العنف (وبالتالي تأثير العنف على نفسيّة المتعرّض له) هي محصّلة لكل ما مَرّ به ذلك الإنسان من تجارب في حياته، منذ لحظة ولادته إلى لحظة العنف ذاتها، وكل ما انتقل إليه من تجارب آبائه وأجداده وأصبح جزءًا لا يتجزأ من ذاته المُدركة"، هي التي تحدد رد فعل المتعرض للعنف.
في هذا المضمار دعونا نفحص ما هي الذات المدركة لدى الفلسطيني والذات المدركة لدى الإسرائيلي. فإن الذات المدركة لدى الإسرائيلي والتي تعتمد على ما مر به طيلة حياته وكل ما انتقل إليه من تجارب آبائه وأجداده مليئة بالمشاهد التي يُدركها هو نفسه، من مقتل آبائه في أفران الغاز والعنف الذي تعرض له أجداده طيلة ألفي سنة من اللاسامية. هذه هي الذات المُدْرِكة. ولهذا فإن قنبلة فلسطينية واحدة تؤجج لدى الإسرائيلي كل العنف الذي تسببت فيه حضارة أوروبا في الذات المدركة الإسرائيلية. وبرأيي يكون رد فعل الإسرائيلي على العملية الفلسطينية متناسقًا مع ما أحدثته آلة الدمار النازية بما يوازي قوة 100 قنبلة نووية (القوة اللازمة لقتل ستة ملايين من اليهود الذين قتلوا بدون ذنب بسبب الحضارة الأوروبية). وأن وعي الإسرائيلي الذي يحدد العنف الإسرائيلي تجاه العنف ضده إنما يعبِّر عن انعكاسات آثام الأوروبيين في الذات المُدركة الإسرائيلية.
ولكي نشرح بدقة "الذات الإسرائيلية المُدركة" كما يعلمنا الدكتور كناعنة ونيتلاند لا بد من ان نشير الى بعض التصريحات للقادة الإسرائيليين والظواهر السيكو-اجتماعية ومنها:
ما عبر عنه " إفرايم كيشون (الكاتب الإسرائيلي اليهودي الهنغاري)، المتشكك بارد المزاج، الأوروبي حتى النخاع، اقترح أن يعلن بأن مَنْطِقَنا (الإسرائيليين واليهود) احترق في الهولوكوست، وإن مسوا بنا نفجر العالم." كما وصفه يارون لوندون في مقالته "حسد الأصلانية" في موقع "يديعوت أحرونوت" الألكتروني -واي نيت- في تاريخ 17/4/2005.
دعونا نقرأ جزءا مما كتب عن حياة رئيس محكمة العدل العليا الإسرائيلية، أهرون باراك، حين كان في السابعة من عمره: بعد تمكنهما من الهروب من الغيتو "كان يتوجب عليهما (هو وأمه) أن يتدبرا أمر مسكنهما، فأخذتهما الأقدار إلى أن يسكنا عند عائلة فلاحين مسيحية لتوانية. عند عائلة الفلاحين الغريبين مكثا ستة أشهر – كان الوضع صعبا، حيث أن الفلاح اللتواني كان أبيًا وكريم النفس فعمل كل ما في جهده لإنقاذهما، دون أجر. بدأت الإشاعات حول وجود اليهود تنتشر في المنطقة فخَيَّم الخوف من إمكانية قدوم الألمان لتنفيذ تفتيشات. في الغرفة الصغيرة التي سكن فيها أريك وأمه "لئه" بنى الفلاح اللتواني الغريب جدارًا مقابل وبمحاذاة إحدى واجهات الغرفة مع باب محكم الإغلاق للتمويه. بين الجدارين اضطر أريك وأمه أن يقضيا وقتا طويلا من الستة أشهر التي مكثاها عند الفلاح اللتواني الغريب.
وهذا ما يكشفه لنا ميخائيل بار زوهر حول تفكير دافيد بن غوريون: "الحلقة الضعيفة في التحالف العربي هو لبنان. سلطة المسلمين فيها مصطنعة. يجب أن نقيم دولة مسيحية هناك، والتي سيكون حدها الجنوبي نهر الليطاني. سنعقد معها تحالفًا. عندما سنكسر قوة "جيش الإنقاذ" سنقصف عمان ونبيد الأردن. وعندها ستسقط سوريا. وإذا تجرأت عندها مصر على الحرب، نقصف بور سعيد والإسكندرية والقاهرة." الأقوال المفاجئة هذه كشفت المضمون الخفي الباطني في تفكير بن غوريون، ولربما تكون الفقرة الأخيرة من أقواله هي الأكثر أهمية: "هكذا سننهي الحرب – وعندها نتحاسب بحسابات آبائنا مع مصر آشور وإرم". نعم، بن غوريون أراد أن يجعل الفلسطيني يدفع ثمن آثام الفرعونيين، آشور وإرم، ولا يكتفي بآثام النازيين واللاساميين الأوروبيين.
الأمر بعينه يعبّر عنه الشاعر الفلسطيني صلاح محاميد بصراحة واضحة مخاطبًا اليهود:
"عشرون قرنًا / خانتك كرابيج العجم
تقمصت شكل الرصاص...
خمسون قرنًا / خانتك تأجيجات الكينونة
على عتبة الأهرامات
عما تبقى/من ضريح أتون
عما يعانق النيل/من صحراء فرعونية
من شرائع توت عنخ أمون.
في مقابلة أجراها الصحافي الإسرائيلي أطيلة شومبليبي مع رئيسة حزب ميرتس وعضو الكنيست الإسرائيلي السابقة شولاميت ألوني، نشر في موقع " يديعوت أحرونوت" الألكتروني -واي نيت- في تاريخ 18/3/2004، تذكر ألوني القرّاء بأن "ناحوم برنياع (الصحفي الإسرائيلي) نشر في صحيفة يديعوت أحرونوت أن شارون قال أكثر من مرة إن "الدم اليهودي هو اللاصق الدبق الأكثر نجاعةً للحصول على اتفاق وتعاضد قومي بين اليهود. عندما يقل الإرهاب، تطفو الأسئلة، والإنتقادات تفيض، ويتعاظم التمرد. لا جدوى من إرهاب (فلسطيني) لا يُنَفَّذ، (انه يخلق) فقط باقات من الأشواك."
كان ثيودور هرتسل قد بنى كل نظريته لبناء وطن قومي لليهود على الأسس المشروحة أعلاه. ففي كتابه "دولة اليهود" الذي شرح فيه كل طرحه، والذي لسببه فقدنا نحن الفلسطينيون وطننا، وفي الجملة الثانية من المقدمة يكشف لنا أن "صوت الصراخ ضد اليهود (اللاسامية) يعلو من أول العالم إلى آخره، وعلى خلفية ضجيج هذا الصراخ تفيق الفكرة النائمة" . ويكمل هرتسل فكرته قائلاً: "أنني أرمز، بتواضع، إلى أسنان وعجلات الماكينة التي ستُبْنى (لبناء دولة اليهود)... الأمر المهم جدًا هو القوة التي ستحرك هذا المحرك. وهذه القوة ما هي؟ إنها ضائقة اليهود. من سيتجرأ على أن ينفي هذه الحقيقة؟ سنبحث هذا الأمر في الفصل الذي يتداول أمر اللاسامية".
لا يلزمنا أن نفسر الماء بالماء، فهرتسل قالها على الملأ: اللاسامية المنتهجة ضد اليهود هي القوة المحركة لدفع اليهود لتنفيذ مشروع لبناء الوطن القومي لليهود.
لقد شرح هذا المفهوم الكاتب اليهودي أ. ب. يهوشوع في مقالة له حيث ينهيها كالتالي: "يتجلى شيء واحد؛ في ربط العلاقات الخاصة والمركبة بين دين معين وقومية معينة، تختبئ معضلة الهوية اليهودية، بما في ذلك شكل وإمكانية استمرار كينونتها، وكذلك معضلة علاقاتها المتبادلة مع محيطها الغريب. كل فكرة لتصحيح الأمر يجب أن تبدأ من هناك". لماذا يعتبر الكاتب أن ارتباط مشكلة هوية اليهود مع محيطها الغريب هو أمر مهم؟ هذا لأنه يعتبر أن "المصير اليهودي المشترك" الذي يتمسك به اليهود وكأنه مرساة الهوية، يكون في بعض الأحيان رغبة أكثر منه حقيقة. لذلك وُلدت علاقة خاصة تجاه اللاسامية – من ناحية، غضب تجاهها وخوف منها، ومن ناحية أخرى انجذاب قوي لتداولها وتضخيمها لكي تُستعمل كالأسمنت المقوي في بناء الهوية اليهودية اللزجة المتسربة" .
ألامر واضح في شرح دور اللاسامية والعنف ضد اليهود في رسم هويتهم وبذلك سياستهم تجاه الفلسطينيين.
لنشير إلى ما ذكر أعلاه بصدق علينا أن نقرأ ما كتبه دافيد بن غوريون: "لو أنني كنت من أحد الزعماء العرب لرفضت قبول قيام ووجود دولة إسرائيل. هذا الأمر طبيعي جداً، لقد أستولينا على أراضيهم، التي بحسب التوراة وعدنا الله بها، ولكن ما يعنيهم هذا الوعد؟ عشنا تجربة العداء للسامية في اوروبا، كان هناك النازيون وهتلر وأوشفيتس والمحرقة. هل كل هذا ذنب العرب؟ العرب يرون فقط شيئاً وحيداً: لقد جئنا واستولينا على أراضيهم."
عبر عن نفس الفكرة الجنرال موشيه ديان اثناء تأبينه لأبن كيبوتس ناحال عوز - روعي روتبرغ - الذي قتل في مواجهة عسكرية مع فدائيين عرب سنة 1956 في قوله: "ينظر إلينا في هذه اللحظات من رماد التاريخ الإسرائيلي ملايين اليهود الذين ابيدوا عندما لم يكن لهم وطن ويأمروننا بأن نستوطن ونقيم وطنا لشعبنا."
يصيغ السيد موشيه كتساب رئيس دولة إسرائيل الحالي المولود في إيران هذه الأفكار في سنة 1978 على هذا القبيل: "يجب على أنماط التصرف اليومي لكل مواطني دولة إسرائيل أن تعكس تأثرها من إحداث المحرقة" !!
اوري رمون ضابط إسرائيلي يصف في مقالة نشرت في "أوراق للابحاث عن المحرقة والتمرد" تحت عنوان "ذاكرة المحرقة في حرب الايام الستة مجموعة أ 1969" حالته قائلاً: "عندما شعرنا بأننا قريبون من الحسم وعندما كنت لابساً الزي العسكري وسلاحي معي, متسخا من الحراسة الليلية جئت إلى مبنى المقاتلين في الغيتوات. أردت أن أستودع الصور والذكريات والمقاتلين الذين توصلوا والذين لم يتوصلوا إلى هذا الموقف المعبر عن شعب يدافع عن وجوده. شعرت بأن الحرب بدأت من هناك في المحارق، في مخيمات في الغيتوات وفي الغابات... خرجت من البناية طاهرًا ومصقولاً وقوياً لهذه الحرب".
عضو الكنيست أرييه بن اليعيزر: "لم نكن قلائل حسبما يظن البعض. حارب إلى جانبنا الستة ملايين، أيضًا، وقد همسوا في آذاننا الوصية الحادية عشرة: لا تُقتَل – الوصية التي أزيلت (من موسى) في جبل سيناء وأرجعت لنا في معارك سيناء الأخيرة"
كتب البروفيسور يهودا القانيه مقالة تحت عنوان "من أجل النسيان" نشرت في جريدة هآرتس الإسرائيلية في تاريخ 2/3/1988 بعد عدة أشهر من اندلاع الانتفاضة: ... عندما كان إبن عشر سنوات أُخذ (البروفيسور) إلى أوشفيتس. تجربته من المحرقة علمته هذا الدرس: "الذي حصل في ألمانيا من الممكن أن يحصل في أي بلد ولأي شعب، وأيضاً لشعبي". لكنه آمن بانه بالامكان منع مثل هذه الأعمال عن طريق التثقيف الشامل وتفسير سياسي ملائم. المقال كُتب على خلفية تكاثر الأخبار حول "الأعمال غير العادية" التي يقوم بها الجنود الإسرائيليون في المناطق. ألقانه رأى كل هذا (أعمال الجنود) في الماضي، فكتب "رأيت جرافة تقبر أناسًا أحياءًا، رأيت مجموعات من الناس تقتلع أجهزة تنفس من المرضى العجز في المستشفيات، رأيت جنودا في وضع منفلت يكسرون أيدي المدنيين والصغار". سأل نفسه ما هو مصدر الأعمال التي يقوم بها جنود الجيش الإسرائيلي في المناطق (ضد الفلسطينيين) وتوصل إلى الإستنتاج بأنه ليس الإحباط الذاتي، كدافع سياسي إجتماعي، الذي يحدد علاقة المجتمع الإسرائيلي مع الفلسطينيين،
إنما خوف من الإبادة عميق، الذي يتغذى من أحد التفسيرات لأحداث المحرقة، ومن استعداء العالم كله وبأن الشعب اليهودي هو الضحية الأبدية. "أرى بأن هذا الإيمان القديم، الذي يتفق عليه الكثيرون اليوم يمثل للمفارقة التراجيدية انتصار هتلر"، كتب القانه. لولا أن الخوف من المحرقة إلى هذا الحد عميق في الوعي القومي الإسرائيلي، لما وَلَّد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هذا الكم الهائل من "الأعمال غير العادية"، ومن الممكن بأن مسيرة السلام لم تكن لتصل إلى طريق مسدود"
"تقلد يوسي بيلد منصب قائد لواء الشمال عندما تحدثت إليه. سكن والداه في وارسو (اثناء الحرب)... وعندها هربوا جميعا إلى أنتفيربين، بلجيكا.. كان اسم العائلة مندليفيتس. ولد يوسي في 1941 ونادوه "جيبكا" .. ساء الوضع في بلجيكا لذلك قرر والداه أن تتبنى عائلة من المسيحيين أولادهما الثلاثة. بعد وقت قليل من ذلك أُخذ الوالدان إلى أوشفيتس... تربى يوسي وأخوته ككاثوليكيين.. بقي أبوه في أوشفيتس. فيما نجحت أمه في التحرر وجاءت لأخذه من العائلة الحاضنة. في جيل السادسة من عمره أدخلته أمه الى بيت أيتام يهودي وعندها قيل له بأنه يهودي وأمروه بأن لا يصلي كالمسيحيين... بعد سنة أرسلته أمه إلى إسرائيل. وأخذه عمه إلى كيبوتس "نجبه" في سنة 1949. أولاد الكيبوتس نكلوا به: كان ولدا-لاجئا، وسخروا منه للهجته... أبوه قُتل في أوشفتس لكنه كذب وقال بأنه مات في تمرد وارسو، وقام بكل ما في وسعه لكي يتقبلوه وكأنه أحدهم. كان الأمر صعبًا: عاش في خوف مستمر بأنه سيقاطع مرة أخرى من محيطه، ملأه الرعب والشك. في سنة 1985 كتب لحاييم غوري كتعقيب على فيلم أعده غوري حول المحرقة: "أردت أن تعرف، حاييم غوري: في بعضالأحيان عندما أفكر، أرجع بأفكاري إلى بضع عشرات من السنين وأتذكر بعض الأمور.. أتذكّر مثلا صور دخول النازيين إلى بيت المسيحيين يفتشون عن أولاد يهود... صور سكة حديد... الكنيسة المسيحية... دخول الحلفاء... المرأة الغريبة (عندما كنت أبن ستة أعوام) التي قالت بأنها أمي... معارضتي الدخول للمطعم الذي عليه نجمة داوود، بمرافقة أمي التي للتو رجعت من أوشفيتس... كل هذه الذكريات تجعلني أبكي... دموع ولد يهودي في جيل أربع أو خمس... كلما أكبر، علاقتي بالماضي تتعاظم، الماضي الذي عشته هو ماضي شعبنا، يصبح قويا ومهما أكثر... كثير من الأعمال التي قمت بها نجد أصلها وجذورها في هذه الفترة الرهيبة. بصراحة – الدافع بأن لا يحدث لأبنائي، المولودين في إسرائيل، ما حدث لي وللستة ملايين، هو الدافع القوي الذي يحركني... لا يستطيع أن يتكهن ماذا كانوا سيجدون لو أجلسوه على كرسي الساكولوج قال لي بيلد" ... "في رحلة رافق فيها وزير الدفاع رابين إلى ألمانيا، زاروا معسكر التركيز السابق "داكاو" قال رابين: "اريد أن أقول لكم هنا بأننا إنتصرنا". "أثناء خطابه إنزلقت الدموع من عيني يوسي بيلد"... لم تكن ليوسي بيلد رغبة في الكشف عن الحلم الذي يؤاتيه دائمًا: في الحلم يرى نفسه هاربًا إلى داخل غابة كبيرة، لينقذ نفسه، والنازيين
يلحقون به... في المحاضرات التي دعي إليها قال: "من الصعب له أن يحدد بالتأكيد فيما إذا كانت دولة إسرائيل ستقوم لولا حدوث المحرقة، ولكن ليس له أي شك بأن المحرقة سرَّعت من العملية التي أدت إلى قيامها. في الواقع قامت هذه الدولة على طبق من فِضَةْ ستة ملايين من الجثث"
هذا هو الثمن الذي يدفعه العرب لآثام الأوروبيين وهذا ما على العرب أن يعالجوه في صراعهم مع الإسرائيليين.
ولكي نرصد ونتوقع رد فعل الأوروبيين والأمريكيين على أعمال عنيفة ضد الإسرائيليين وسكوتهم عن تصرفات إسرائيل لا بد لنا أن نأتي بالتحليل التالي :
ومن ما ذكر أعلاه نستطيع ان نرصد بدقة ما يمرّ به الإنسان االغربي وخاصة مؤيدي اسرائيل عند مواجهته المعلومات حول العنف ضد الاسرائيليين وبالتالي ما تؤجج هذه المعلومات من تجارب الاوروبيين في العنف ضد ابناء الشعب اليهودي في الهولوكوست عن طريق سرد الحادثة التي وقعت للكاتب اليهودي الناجي من المحرقة يحيئل دينور والذي عاش تجربة الغيتو عند إدلائه بشهادته أمام المحكمة التي قاضت أدولف أيخمان سنة 1961 في القدس، فقد قال في المحكمة: "كنت هناك سنتين تقريبًا... ليس الزمن هناك كما هو هنا على سطح الارض... كل جزء من الوقت يسير على عَجَلِ زَمَنٍ آخر. ولم يكن لسكان هذا الكوكب أسماء... لم يكن لهم والِدان ولم يكن لهم أبناء... لم يلبسوا كما يلبسون هنا. لم يُولَدوا هناك... ولم يَلدوا. تنفسوا وفقا لقوانين طبيعة أخرى... لم يعيشوا وفقا لقوانين هذا العالم... ولم يموتوا. كان اسمهم رقمًا... هم ذهبوا بعيدًا عني... دائماً ذهبوا بعيدًا عني... انفصلوا عني... حوالي سنتين انفصلوا عني، تركوني دائما خلفهم... أنا أراهم... هم ينظرون إليَّ... أنا أراهم". كان يحيئل دينور يتكلم بصوت آلي معدني، بقدسية نبوية، منفصلا عن الواقع الذي حوله... شيء ما في صوته وأسلوب حديثه شحن الجو بتوتر لا يطاق. حاول قاضي المحكمة ومرافع الإدعاء إرجاعه الى إطار المرافعة. عندها إنهار دينور فاقدًا وعيه. وكأن إسرائيل قد توقفت عن التنفس." التي شاهدت وسمعت البث عبر جهاز التلفاز والراديو
لا نستطيع من خلال هذا السرد حول ما حدث للكاتب دينور، إلاّ أن نعمم هذه الحادثة على كل من له صلة باليهود ودولة إسرائيل من أمريكيين وأوروبيين ، وندرك بأنهم يؤوّلون أية حالة إلى الحالة نفسها التي آل اليها الكاتب دينور، وهي حافة الإنهيار العصبي، كلّما فكروا بالهولوكوست (بواسطة عنف حزب الله) . وكأننا نقرأ في هذه الحالة الآية الكريمة من سورة "يس": بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9)" صدق الله العظيم. ولا نستطيع أن نتناسى بأن الربّ، وفقًا للتوراة، خاطب بني إسرائيل حين طلب من موسى عليه السلام إخراجهم من مصر بقوله: "فَتَعْلََمُونَ أََنّيِ أنَا الرَّبُّ إِِلهُكُم الَّذِي يُخْرِجُكُمْ مِنْ تَحْتِ أَثـْقَالِ الْمِصْرِيِّينَ... فَكَّلَمَ مُوسَى هَكَذَا بَنِي إِسْرَائِيل وَلَكِنْ لَمْ يَسْمَعُوا لِمُوسَى مِنْ صِغَرِ النَفْسِ وَمِنْ الْعُبُودِيَّةِ الْقَاسِيَةِ" (خروج 6).
هذه هي حالة الرئيس الأمريكي بوش وكل قادة الدول الغربية . حالة "صِغَرِ النَفْسِ" وتحت ضغط "الْعُبُودِيَّةِ الْقَاسِيَةِ" التي خّلَّفَها هتلر، حيث أصبحوا وكأن "فِي أَعْنَاقِهِمْ أغْلاَلاً".
وهكذا ففي تفكيرهم عنّا، نحن العرب واليهود، يكونون تحت تأثير إرهاب هتلر، ولا يستطيعون التفكير بحرية وفقًا لما أراده لهم عصر التنوير ونظريات عامنوئيل كانط من التحرر من القيود وحرية الممارسة والديمقراطية.
وليس لنا أن ننتظر لنقول بأنهم المثقلون بالأغلال من تنظيرات وضربات النازي هتلر، الذين يختارون بأنفسهم التملق والتصرف وفقًا لتزييف معين. بل إنني أدّعي بأن سياسة دول العالم المؤيدة لإسرائيل والنافية للحقوق الفلسطينية تُرسم عندما يكون راسمو هذه السياسات في وضع مشابه تماما للوصف الذي جاء أعلاه حول انهيار أعصاب الكاتب دينور. الأمر غير قابل للسيطرة، لأن الهولوكوست من هول فظاعتها وهولها لا تُبقي للعقل الإنساني أي مجال للتفكير الإنساني الحر.
بذا نتوصل الى الإستنتاج أن السيد بوش عندما يتخذ قرارًا بشأن العالم العربي وإسرائيل ، ويكون القرار خاصاً باليهود، فإن السيد بوش (وقادة مجموعة الثمانية) يدخل إلى نفس الحالة التي دخل إليها السيد يحيئيل دينور، وهي حالة التوتر التي لا يستطيع العقل الإنساني تحملها، ويكون على حافة الإنهيار العصبي. ليس لشيء إلاّ لهول تجربة الهولوكوست وضخامتها وفرادتها في تجربة الإنسانية.
هذا ما علينا ان نفهمه حول الذات المدركة الاسرائيلية والغربية عند مواجهتها لأبسط انواع العنف ضد الاسرائيلي.
لو كنت مستشاراً لقادة الغرب والإسرائيليين لكنت الزمت هؤلاء القادة الى دخول "عيادة للعلاج" كما أدخل البروفسور يان باستيناس، في جامعة لايدن- هولندا، مرضاه الناجين من الهولوكوست والذين عانوا مما يسمى " أعراض مخيمات التركيز "، والذين وصفهم البروفسور بأنهم كالسيارة السائرة التي يراها الناس بأنها جيدة – لكنها للأسف تبلي محركها وتدمره"
في ذلك العلاج استعمل البروفسور أسلوب علاج بواسطة "تزويدهم بحقن المخدر "أل. سي. دي." دفعهم بواسطته إلى الاستيقاظ وشحذ تفكيرهم عن طريق مجابهتهم المباشرة لعنف أهوال ماضيهم، وذلك ليفرض عليهم أن يعيشوا مرة أخرى أحداث تعذيبهم.
المُخدر يُدخل المريض في حالة "ترانس". عند وجود المريض تحت تأثير المخدر (إل سي دي) يبدأ بالحديث. يتم تسجيل حديثه بواسطة مسجّل الكتروني، وفي بعض الأحيان يُصوَر بالفيديو. بعدها يُطلب من المريض أن يُحلل ما ورد في أشرطة التسجيل.
كان المريض، في معظم الحالات، بحاجة الى الخضوع لعلاج من هذا النوع خمس مرات ليتمكن من أن يحيا ويواصل مسيرة حياته بمرافقة الأحداث التراوماتية التي مر بها أثناء المحرقة دون "أن يُبلي المحرك".
بناء على هذه التجربة كنت سأقترح على السيد بوش وساسة الغرب كلهم استعمال أسلوب العلاج بواسطة تزويدهم بالأل سي دي، لندفعهم بواسطته الى الترانس وإلى الاستيقاظ وشحذ تفكيرهم لنواجههم بأهوال تاريخهم الاوروبي والمحرقة، وألاّ نتركهم يتخذون القرارات بشأن النكبة وإسرائيل والحرب اللبنانية الاخيرة وهم في حالة إنكار وعدم فهم لأهوال العنف, التاريخ الاوروبي والمحرقة وبالتالي ابعادها على اسباب ونتائج الحرب الاخيرة في لبنان.
هذه هي الأسرار التي تقود إسرائيل في اتخاذها قراراتها السياسية المصيرية علَّ السيد حسن نصر الله وغيره ان يأخذوها بعين الاعتبار. فالاعتبارات الإسرائيلية لها جذورها الكامنة في إرهاب الحضارة الأوروبية ضد اليهود ونحن العرب ندفع الثمن.
محامي من مدينة الناصره....فلسطين!!

محامي من مدينة الناصره....فلسطين!!