أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
1 2 3 41120
"حوش الحفر"في ليبيا خيال معماري في باطن الأرض!!
20.05.2016

حر الصيف وقر الشتاء أجبرا الإنسان منذ العصور البدائية على أن يبحث عن مأوى له يقيه تقلبات الطقس في الليل والنهار ويحميه من شر الحيوانات المفترسة، فسكن الكهوف ثم الأكواخ وشيد البيوت الطينية حتى أصبحت مساكن على ما نراه اليوم، لكن اللافت في هذا التطور للهندسة المعمارية هو اختيار بعض القبائل الليبية حفر منازلها في الأرض عكس بقية القبائل.
كتب محمد القذافي مسعود ...الحاجة أم الاختراع، مثل ينطبق على السكان القدامى لمدينة غريان الليبية الذين حفروا بيوتهم في باطن الأرض بمواصفات هندسية تضاهي ما شيدته بقية الشعوب على سطح الأرض.
وتقول المصادر التاريخية إن هذه البيوت كانت منتشرة بكثرة في تلك المنطقة وخاصة في تادرن وفزان ونالوت، حيث كان الليبيون يقومون منذ ما يزيد عن ألف عام بالحفر تحت الأرض لما يسمونه بيوت الحفر أو أحواش الحفر، فتجد غرف النوم وغرفة المعيشة وبيت الاستحمام والمطبخ ومخزن المؤن والسقيفة، ما يجعل الإنسان المعاصر يتساءل كيف ولماذا هذا الاختيار الذي تبدو عملية إنجازه شاقة خاصة أن طبيعة المنطقة جبلية؟
ويتكون حوش الحفر من فناء واسع تطل عليه في منتصفه الغرف (الدار) التي تتكون بدورها من مساحة تزيد عن 10 أمتار اتساعا وأحيانا 15 مترا وبارتفاع ثلاثة أمتار ويوجد فيها ما تتطلبه أمور المعيشة للأسرة.
ويتفق الباحثون على أن الأسباب التي دعت سكان غريان إلى حفر بيوتهم في الأرض هي أسباب مناخية وتضاريسية بالأساس، فالمناخ في تلك المنطقة كان قاسيا جدا، إذ يكون الطقس باردا جدا في الشتاء وحارا في الصيف، وكانت المنطقة جبلية ذات تضاريس حادة يصعب بناء منازل على سطحها، لذلك كانت بيوت الحفر حلا لسكان المنطقة في تلك الفترة تحميهم من الطقس القاسي في الشتاء وتطورت بعد ذلك لتصبح ذات بعد دفاعي.
ويعبّر حوش الحفر في غريان عن مراحل تطور السكن في هذه المنطقة والذي بدأ بالكهف، وهو خندق يتم حفره في منطقة سهلة ويغطى ببقايا الأشجار والأعشاب ثم تطور إلى بيت الحفر الذي يتم إنشاؤه عن طريق حفر حفرة عمودية يصل عمقها من 10 إلى 12 مترا، ويتم حفر ما يسمى (الديار) بداية من قاع الحفر الذي يبدأ بالباب بعرض متر ثم يبدأ في التوسع إلى عرض 4 أمتار عند الوصول إلى الساحة التي تفتح عليها جميع الديار بوسط الحوش، ويكون الخروج عن طريق (السقيفة)، وهي خندق يتم حفره بطريقة مائلة حتى يصل إلى سطح الأرض.
وسكان غريان القديمة في حفرهم لأحواشهم خططوا جيدا لمياه الأمطار والعوامل الطبيعية الأخرى، كما خططوا لعملية صرف المياه المستعملة داخل الحوش، فقد بنوا بالأتربة المستخرجة من الحوش حاجزا أو حزاما يسمى “الكدوة” مع مجرى المياه لحماية الحوش من السيول، وبنوا حفرة في داخل السقيفة لاحتواء المياه المجمعة في الداخل.
ولا تحتاج أحواش الحفر لا للتدفئة شتاء ولا لوسائل تبريد أو تكييف في فصل الصيف، بل يمكن استعمال الأغطية في الطقس الحار عند وصول درجات الحرارة على سطح الأرض إلى ما فوق 40 درجة، كما يمكن النوم دون أغطية خلال فصل الشتاء عندما تصل الحرارة إلى ما تحت الصفر. وكان يسكن بيت الحفر أكثر من أسرة، ويصل عددها في البيت الواحد إلى 8 أسر تنحدر كلها من جد واحد، وكانت كل أسرة تستخدم أكثر من ثلاث غرف يوجد فيها المطبخ المجهز بالفرن المبني من الطين والفخار، كما يوجد فيها مكان للاستراحة وآخر للأكل ومكان لتخزين المؤونة والمياه وآخر للملابس.
ولمعرفة الجذور التاريخية لبيوت الحفرة، أو “حوش الحفرة”، كما يسمّيها الليبيون في منطقة غريان، يقول الرحالة السويسري فيشر في كتابه “عبر الصحراء الكبرى” إنه “خلال فترة الاحتلال الروماني وصلت جماعات عديدة من اليهود إلى ليبيا، ومازال أحفادهم يتجمعون في معابدهم المشيدة تحت سطح الأرض (حياش الحفر) في غريان”.
وفي المقابل تقول مصادر تاريخية أخرى، إن غريان كلمة أمازيغية الأصل تعود إلى اسم قبيلة عاشت في تلك المنطقة الجبلية، معللة ذلك بوجود عدة مناطق داخل غريان ذات مسمّى أمازيغي، كما أن هذه البيوت وجدت في الجنوب التونسي في مدينة مطماطة ذات الجذور البربرية. وتتحدث روايات أخرى عن أصل كلمة غريان وهي (غريال) ومعناها أرض الطين في إحدى اللغات القديمة للبربر ثم حُرّف اللفظ بعد ذلك لغريان، ووجد المؤرخون هذه الرواية أقرب إلى المنطق خاصة أن غريان عبارة عن أرض جبلية طينية.
باحثون آخرون في التاريخ الليبي يعتقدون أن “حوش الحفر” جاء نتيجة كارثة مفاجئة تعرض لها السكان الذين كانوا يعيشون ويبنون بيوتهم فوق سطح الأرض، وبسبب هذه الكارثة، على رأي هؤلاء الباحثين، التي قد تكون هجوما حربيا منظما أو غزوا عسكريا قامت به القوات العثمانية آنذاك، اضطر السكان للجوء إلى باطن الأرض للاحتماء داخل هذه البيوت المحصنة ولاتقاء الشرور والدفاع عن أنفسهم ضد العثمانيين الأتراك.
ومن النماذج التي لا تزال موجودة حوش عائلة عمر بالحاج في منطقة أبوغيلان والذي يعود تاريخه إلى سنة 1666 ميلادي، وكانت تعيش داخله 8 عائلات موزعة على 8 غرف وهناك 30 حوشا في منطقة بوحمامة لا تزال صالحة إلى اليوم.

1