أحدث الأخبار
الأربعاء 24 نيسان/أبريل 2024
1 2 3 41122
النوبة لقاء المتصوفة على إيقاع الصفاء في السودان!!
30.08.2016

النوبة تقليد روحاني على إيقاع الطبول تشترك فيه الطرق الصوفية، أين تلتئم النفوس المحبة لهذا النمط التراثي الأصيل في ساحة مقابر “حمد النيل” بأم درمان بحثا عن نفحات روحية وتجليات دينية داخل حلقات الذكر، حيث تتجمع حشود من السودانيين والأجانب، من الرجال والنساء والأطفال الشباب والفتيات، الذين يتوافدون جميعا إلى هناك مساء كل جمعة بعد صلاة العصر وتنتهي مع آذان المغرب. ويبدو أن انجذاب السياح الأجانب من مختلف الجنسيات لإيقاع النوبة، جعل من أم درمان أحد المعالم السياحية الهامة في السودان.
الخرطوم - تعد أرض حمد النيل من المحطات الصوفية الكبيرة جدا في تاريخ الحركة الصوفية بالسودان، حيث تلتئم الطقوس الدينية أسبوعيا يؤديها البسطاء من الورعين الزاهدين في أم درمان حتى أضحت إرثا ثقافيا منفردا يتوجب الحرص على حفظه.
وبجلباب أخضر ومسبحة ملفوفة على عنقه، كان الرجل السبعيني يدور حول نفسه جاعلا عصاه المصنوعة من الخيرزان مركزا لدائرة تتسع للمئات الذين يرددون بصوت واحد ومنسجم “الله الله الله..”، في مشهد هو مبتدأ “النوبة”، أشهر طقوس الطرق الصوفية بالسودان ومنتهاها.
وفي مجتمع تدين أكثريته بالولاء للطرق الصوفية، فإن “النوبة”، ذلك الاسم الشعبي الذي يطلق على حلقات الذكر، تعد من أبرز معالم تراثه المتجدد حيث يحرص أتباع هذه الطرق على التجمع في مكان بعينه عند أصيل الجمعة من كل أسبوع لتلاوة أورادهم.
وفي ضريح الشيخ حمد النيل، أحد أشهر شيوخ الطريقة القادرية والذي عاش في القرن التاسع عشر تحتفظ “النوبة” بألق خاص من واقع المئات الذين يحتشدون أسبوعيا لإحياء طقوسهم بجوار مرقد شيخهم الواقع بمدينة أم درمان غرب العاصمة الخرطوم.
وتبدأ “النوبة” عادة بعد صلاة العصر وتنتهي برفع آذان المغرب، حيث يصطف أتباع الطريقة خلال هذه المدة في دائرة وهم يرتدون جلابيبهم المميزة باللون الأخضر لتلاوة أذكارهم وترديد الأناشيد التي تمجّد نبي الإسلام ومشائخ طريقتهم.
وينظر البعض حتى من بين المتصوفة أنفسهم إلى حفلات الرقص الصوفي بعين الريبة، لكن الرقصات التي تصل ذروتها إلى حالة من الوجد المتناهي، تعتبر تجسيدا واضحا للسمة الصوفية في التوحد مع الحبيب، الأمر الذي يعيبه عليها شيوخ من مذاهب أخرى.
ولا يقتصر حضور النوبة على الرجال فقط بل يمتد إلى النساء والأطفال الذين يصطفون على مقربة من الحلقة الرئيسية التي يشكلها الرجال لكنهم يرددون معهم ذات الأوراد.
„حضور النوبة لا يقتصر على الرجال فقط بل يمتد إلى النساء والأطفال الذين يصطفون على مقربة من الحلقة الرئيسية يرددون معهم الأناشيد الدينية“
وخلال هذه المدة القصيرة نسبيا تجد الدراويش، الاسم الذي يطلق على المنقطعين للعبادة كليا خلافا لبقية أتباع الطريقة، أشد حماسا في الضرب على الدفوف بتناغم مع ترديد الحاضرين للأذكار.
ويعتبر الدراويش أيقونة “النوبة” حيث يتولون جميع شؤونها بدءا من تنظيف المكان وتعطيره بالبخور وليس انتهاء بتنظيم الحشود وتوفير مياه الوضوء لهم.
ومع تلاوة الأذكار تجد الدراويش يتمايلون يمينا ويسارا أو دوران أحدهم حول نفسه بالكامل وبسرعة مطردة مع وقع الضرب على الدفوف حتى تلك النقطة التي يسقط فيها مغشيا عليه من هول “الحضرة” أو ما يعتبره المتصوفة نقاط اتصال روحي مع الخالق.
وكلما مرت دقيقة ازدادت سرعة إيقاع الذكر، وكلما ازدادت سرعة الإيقاع كلما ترى الناس قد انتابتهم حالة من الجذب السماوي أو السكر الروحي أو غيرها من المسميات التي تعني انهماك الذاكر في العبادة، وعندها يخرج الذاكر عن هدوئه إلى فعل حركات غير إرادية كالدوران السريع أو الجري أو السقوط أو حتى القفز، كلها حركات غير إرادية تنتج عن قوة تركيز الاتصال الروحي بين الذاكر المؤدي للعبادة والقاعدة الروحية في السماء .
ومن آداب “النوبة” أن من يسقط لا يساعده رفاقه على النهوض حتى لا يفسدون عليه هذه اللحظة الروحية التي يتعطش لها كل الحاضرين.
ولا تقتصر إقامة “النوبة” على الجمعة فقط بل تكون أكثر حضورا في مناسبات أخرى مثل الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف وإحياء ذكرى مشائخ الطرق الصوفية، لكن لضريح الشيخ حمد النيل ما يميزه، حيث تجد العشرات من الغربيين يحرصون أسبوعيا على حضور “النوبة” وسط حفاوة من أتباع ومشائخ الطريقة القادرية.
السياح يندمجون
مشيرا إلى ثلاثة رجال ذوي ملامح أوروبية مندمجين في متابعة الطقس الصوفي، قال حسن علي أحد مريدي الطريقة القادرية، “هؤلاء هنا للتعرف على الجانب المشرق من الإسلام”.
ويضيف علي “هؤلاء عرفوا الإسلام في بلادهم من خلال أفعال المتطرفين وهذه فرصة ليتبيّنوا عظمة ديننا الحنيف”.
وعلى الجانب الآخر كانت امرأة غربية أيضا ترتدي سروالا تقف على مقربة من حلقة الذكر، أشار محدثي إليها قبل أن يسألني “هل ستكون محل ترحيب لو ذهبت إلى أولئك المتطرفين للتعرف على الإسلام؟”.
وتقول سيدة بريطانية تحمل كاميرا تصوير “أنا أحضر النوبة كل جمعة بـ’حمد النيل’ لأنها مشهورة جدا وأجواؤها غاية في الروعة وممتعة جدا، وهي من الأماكن التي يقصدها كل من يقصد زيارة مناطق سياحية في الخرطوم”.
ويقول الإيطالي ماريو جوليانو “قرأت عن منطقة مقابر حمد النيل صدفة في كتاب ‘دليل السياح’، وعن طريق هذا الكتاب عرف الكثيرون المعالم السياحية في السودان.. وجدت مشاهد مدهشة وأشياء كثيرة لافتة للانتباه.. لقد سعدت بمشاهدتها واستمتعت بالطقوس الدينية وببساطة الناس هنا، الذين أدخلوا على نفوسنا شيئا من الراحة”.
ويحرص سفراء الاتحاد الأوروبي على حضور حفلات المولد النبوي الشريف في أم درمان كل سنة لما توفره هذه المناسبة من تسامح وتقديم للإسلام في وجهه المشرق.
وغير عابئة بما يوجه أحيانا من انتقادات لممارسات البعض من الطرق الصوفية كالتوسل للأضرحة تتفق محاسن النور التي جاءت برفقة زوجها وطفليها لحضور “النوبة” مع علي قائلة “من يأتون إلينا هنا يعرفون سماحة الإسلام التي تتحلى بها الصوفية وهم يدعون إلى الله بالتي هي أحسن”.
الصوفيون في المولد
وصلت الطرق الصوفية إلى أرض السودان قادمة من الشرق، لكنها امتزجت مع الموروث الثقافي المحلي ومن بينها الميل الأفريقي للرقص، ومن الطرق الصوفية، القادرية، والتيجانية والسمانية، والبرهانية، والختمية وغيرها. ويؤكد أحد المسؤولين في أم درمان على تعاظم دور الطرق الصوفية في ترسيخ القيم الدينية واتباع الحكمة في التعامل وفق تعاليم الدين الإسلامي، مشيرا إلى دورها في حل المشاكل الاجتماعية وخلق أجواء من التسامح والتآخي بين أفراد المجتمع .ولرجال الطرق الصوفية حضور مكثف خلال احتفالات المولد النبوي، فعلى مدى اثني عشر يوما تلتقي الطرق الصوفية لتقدم المدائح النبوية أو الإنشاد الديني والأذكار.
وتبدأ الاحتفالات بالمولد النبوي في اليوم الأول من شهر مارس وفقا للتقويم الهجري وتنتهي باحتفال كبير في الثاني عشر منه. ويسمى اليوم الأول من الاحتفالات بـ”يوم الزفة”، وفي مدينة أم درمان تنطلق زفة المولد قبيل العصر، بمشاركة رجال الطرق الصوفية وأصحاب المهن. وتجوب الزفة أو الموكب شوارع أم درمان القديمة في جو كرنفالي، ووسط سيرهم تتصاعد الإيقاعات التي يلهبها قارعو الدفوف والطبول، قبل أن يستقروا في نهاية هذه المسيرة بساحة كبيرة أمام مسجد الخليفة عبدالله التعايشي في وسط أم درمان.
الإيقاع يرفع نسق النوبة
وفي ساحة مسجد الخليفة تتوزع الخيام والسرادقات الضخمة، وتحمل كل واحدة منها اسم إحدى الطرق الصوفية، وأحيانا تجد أكثر من خيمة لطريقة واحدة بحسب شيوخها الفرعيين ومريديهم.
ويتزاحم في سرادق الطرق الصوفية التي نُصبت في كل الساحات العامة، رجال ونساء، شيب وشباب، أصحاء ومرضى، موزعين ما بين حلقات الذكر والوعظ والإنشاد الديني ويتنقل بينهم الصبية من موضع إلى آخر وهم يتبادلون حلوى المولد التي تتنافس المصانع المحلية على تصنيعها.
وللنساء حلقات ذكر خاصة ومنشدات بمناسبة المولد، ويتواجد البعض منهن في ساحة الاحتفال، بينما البعض الآخر منهن يواصلن الاحتفالات في المنازل بشكل دوري، كما تشرح المادحة تقوى فضل الله، التي تقول إنهن يوزعن الاحتفالات يوميا في دار واحدة منهن، حيث يقمن حلقات مديح تحييها شيخات ومادحات، كما يحضرن أكلات وحلويات خاصة تقدم في هذه المناسبة، كالبليلة والزلابية والأرز باللبن والشاي.
وعلى مدى أيام احتفالات المولد يواصل رجال الطرق الصوفية إقامة صلواتهم وقراءة تراتيلهم وإنشاد أذكارهم ومدائحهم النبوية.
وتنشط الحركة الدعوية خلال احتفالات المولد ولا تقتصر فقط على الطرق الصوفية والجوانب الدينية البحتة، حيث يشارك عدد من منظمات المجتمع المدني في تعريف المحتفلين بأهدافها الاجتماعية.

1