البحارة مهنة موغلة في تاريخ البشرية ما زال يحلم بها الكثير من الناس لارتباطها بإمكانية وسهولة السفر والتنقل بين شواطئ وموانئ العالم، لكنها مهنة شاقة يواجه العاملون فيها مخاطر ومحنا كثيرة، فرغم أن السفن الحديثة مصممة ومصنوعة وفقا لأعلى المعايير التقنية إلا أن مهنة البحارة مهنة شاقة تأخذ من أصحابها نصف العمر.
بريمن (ألمانيا) - يعتقد أغلب من يعملون على اليابسة أن حياة البحارة فيها الكثير من المتعة والإثارة، فهم الذين يسافرون عبر عباب البحر يستمتعون بزيارة موانئ أكبر المدن الساحلية ويطلعون على الحياة فيها ويشاركون أهلها الفرح والطعام، لكن أسرار هذه المهنة لا يعرفها إلا أصحابها الذين يعانون المخاطر والأمراض والبعد عن العائلة.
بعد سنوات الخبرة البحرية، يعمل بيتر جيتمان الآن لتحسين حياة البحارة الذين يتعين عليهم مواجهة ما هو أكثر بكثير من ساعات العمل الطويلة وسط أمواج البحار الهائجة.
وقال جيتمان، وهو سكرتير الشحن في نقابة “فيردي” للعاملين بقطاع الخدمات بألمانيا، “البحارة الذين يقررون الدخول في هذه المهنة يعرفون بالطبع ما الذي يقدمون عليه”، لكنهم غالبا ما يطلب منهم أن يفعلوا أكثر مما يستطيعون التعامل معه عقليا.
وأوضح أنهم يتواجدون في البحر لعدة أشهر في كل مرة، ويعملون على الأقل لعشر ساعات يوميا لمدة سبعة أيام في الأسبوع، ويكون أعضاء الطاقم دائما تحت الطلب والاستدعاء للعمل، كما أنهم لا يتصلون بأسرهم كثيرا ويعيشون في مكان ضيق مع أشخاص من مختلف الثقافات.
وتابع جيتمان “لا يمكنك الذهاب ببساطة إلى السينما أو الخروج لتناول الطعام”، ويشهد خبراء الطب أيضا على العديد من المشاكل الفعلية والمحتملة لأولئك الذين يبحرون في محيطات العالم من أجل اكتساب الرزق.
وقال مانويل بوركيرت، وهو طبيب يقدم النصيحة عن طريق الإذاعة إلى أفراد الطاقم من الذكور والإناث من كوكسهافن في شمال ألمانيا، “الحياة على متن السفن تعد وضعا صعبا، لا سيما عندما تكون شابا ولم تقض الكثير من الوقت بعيدا عن المنزل من قبل”.
وفي ثلاث مناسبات قام بتشخيص حالات ذهانية ناجمة عن ظروف العمل على السفينة، إلا أنه أكد قائلا “هذا أمر نادر جدا”. ومع ذلك، فإن الأعراض النموذجية للإرهاق النفسي لا تعرض على الطبيب على الأرض، وسوف تتراكم تدريجيا.
فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة استقصائية أجريت مؤخرا على 300 بحار وأجرتها جمعية النقل والمرور في ألمانيا أن الأشخاص المتضررين غالبا ما يتعاملون مع الضغوط التي يتعرضون لها على متن السفن عن طريق تناول الكثير من الطعام غير الصحي والإكثار من التدخين.
وفي الحالات الأسوأ، سيتعرضون لتقلبات المزاج واضطرابات النوم والاكتئاب. كما يعاني العديد من البحارة أيضا من التعب المزمن والذي يمكن أن يؤدي بسهولة إلى الحوادث.
وتختلف وظائف البحارة علي ظهر السفينة، فهناك وظائف تنفيذية ووظائف ترقى إلى مستوى الإدارة، لكن يبقى ربان السفينة هو المسؤول الأول عن كل العمليات داخل السفينة.
وقد عقدت منظمة “ميهربليك” للإغاثة مؤخرا سلسلة من جلسات الاستشارة الشخصية مع بحارة في ميناء هامبورغ. وقد أثارت الاستجابة لدعوة المشاركة دهشة المنظمة.
ويقول مايك بوشرت، وهو رجل دين من مدينة هامبورغ شارك في الجلسات “كان هناك عدد كبير من الناس يريدون رؤيتنا”. ويعتقد الكثير من البحارة أنهم يعانون من خلل بصري لأنهم يعانون من رعشة جفن العين والعيون الدامعة. وفي الواقع، هذه هي أعراض الإرهاق الشديد.
كما يقول القس فيرنر جيركه، الذي يقوم بزيارات منتظمة إلى السفن في ميناء بريمرهافن الدولي، “إن العديد من أفراد الطاقم يظهر التعب واضحا على وجوههم”.
وهذا لأن عمل السفينة يأتي أولا، وفي الكثير من الأحيان، على حساب راحة الطاقم. وبالنسبة للبحارة الذين ينحدرون من بلدان أكثر فقرا يكون الضغط عليهم أكبر، فبالنسبة للبحارة من الفلبين أو الهند على سبيل المثال تكون مدة الرحلات في بعض الأحيان ضعف المدة التي يقضيها البحارة الأوروبيون أو الروس.
وقال جيركه “غالبا ما تكون لديهم عائلات كبيرة في بلادهم تعتمد على دخلهم”. ويقول كثيرون إنهم ضحوا بحياتهم من أجل عائلاتهم وتركوا أنفسهم للانعزال عن أحبائهم. وتابع جيركه أن بعض هؤلاء البحارة يفقدون الحافز وينسحبون من الحياة الاجتماعية “الإنسان يتغير عندما يظل على متن السفينة لفترة طويلة، حيث يكون لديه مجال محدود للحركة، ولا يتحدث كثيرا خلال حياته اليومية”.
وبعدما اعتادوا على العيش في أماكن ضيقة، يصاب العديد من البحارة بحالة من الخمول والقلق عندما يواجهون مواقف جديدة، ويفضلون البقاء داخل السفينة، حتى أثناء فترات الرسو الطويلة في الميناء.
وآخرون يستغلون الرسو في الميناء لزيارة بعثة البحارة للتحدث مع أسرهم من هناك. ويمكن أن يكون هذا علاجا فعالا للضغوط التي يتعرضون لها، ولكنه علاج مهمل رغم ذلك في الكثير من الأحيان.
ويقول جيتمان “هناك العديد من السفن التي لا توفر الإنترنت للطاقم”، هذا مكلف جدا بالنسبة للكثير من أصحاب السفن لأن الاتصال يكون ممكنا فقط عبر الأقمار الاصطناعية، ولذلك يعاني العديد من البحارة بدرجة كبيرة من الحنين إلى الوطن.
وخلصت الدراسة التي أجرتها جمعية النقل والمرور في ألمانيا إلى أن إتاحة الإنترنت، إن أمكن، في المقصورات الفردية، يمكن أن يكون لها أثر إيجابي على نفسية البحارة.
ويرى جيتمان أن “معظم أفراد الطاقم يفضلون التواصل بشكل أفضل مع الأسرة وفترات السفر الأقصر عن الأجر المرتفع”.وبالإضافة إلى التحديات اليومية، فإن الحوادث الخطيرة شائعة على متن السفن، فضلا عن حالات الجنوح أو التعرض لهجمات من قبل القراصنة.
وذكرت الدراسة أن وفاة زميل تؤثر بدرجة كبيرة على نفسية أفراد الطاقم الذي يتألف من عدد محدود. ولكن حتى في مثل هذه الحالات الصعبة، فإن تدخل إدارة الأزمات ليس إلزاميا. ويعتقد الكثير من البحارة أيضا أنه يجب عليهم التحمل عندما تحدث حوادث سيئة بدلا من طلب المساعدة. ويقول جيتمان “غالبا ما يدرك المصابون أنفسهم في وقت متأخر جدا بأنهم أصيبوا بصدمة نفسية”.
وأطلقت المنظمة البحرية الدولية منذ العام 2010 مبادرة عالمية للاحتفال بالبحارة في شتى أنحاء العالم رسميا في شهر يونيو من كل عام، وفي عام 2011 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاحتفال رسميا باليوم العالمي للبحارة تقديرا للمساهمة الكبيرة التي يقدمها أكثر من 1.5 مليون بحار حول العالم.
بحارة العالم في رحلة الشقاء اللذيذ!!
27.09.2017