أحدث الأخبار
الجمعة 01 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
1 2 3 41133
صناعة الفخار في لبنان في طريق الانكسار!!
28.09.2017

كان الفخار المادة الأساسية التي يستخدمها الإنسان في صناعة الكثير من مستلزمات الحياة كأواني الغذاﺀ وحفظ الماء والزيت والعسل، أما اليوم فغدا فقط محصورا في صناعة أواني الزهور وتحف الزينة وديكورات المنازل والفنادق السياحية بشيﺀ من الإبداع الفني بعد أن اختارت الأُسر اللبنانية الأواني الزجاجية والبلاستيكية والمعدنية.
بيروت - تواجه صناعة الفخّار في لبنان شبح الانقراض بعدما توارثها أبناﺀ عن آباﺀ عن أجداد وانتشرت في العديد من المدن والقرى كمصدر مهمّ للرزق، لكن هذه الصناعة تراجعت اليوم واقتصرت على 4 مصانع فقط، إضافة إلى البعض من المزاولين لها من النساء في المنازل.
وتعتبر صناعة الفخار في لبنان، وفقا للمكتشفات الأثرية، من أقدم الصناعات التي ارتبطت بوجود الإنسان وترقى إلى الآلاف من السنين قبل الميلاد حيث صناعة أواني الطعام والجرار الكبيرة لحفظ المياه ولتخزين الزيت والمواد الغذائية، إضافة إلى الأباريق والأكواب.
يقول وكيل وزارة السياحة والآثار حمدان طه إن صناعة الفخار تعود إلى الألف السادس قبل الميلاد في نطاق مرحلة العصر الحجري الحديث، وهي الفترة التي شهدت الثورة الزراعية وظهور المستوطنات البشرية.
ويشير طه إلى أنه لم يجر أي تطور على صناعة الفخار منذ ظهورها حتى الآن سوى الدولاب المتحرك الذي يسرع في عملية الإنتاج عوضا عن استخدام القدمين للتحريك.
ويقول كمال دبيسي أحد الحرفيين الذين مازالوا يمارسون مهنة صناعة الفخار، “نمت هذه الصناعة وتطوّرت مع زيادة الإقبال على استعمال الفخار في الأربعينات من القرن الماضي، يوم بلغ عدد المصانع نحو أربعين فاخورة وتعدّى تصريف الإنتاج لبنان، ليصل إلى البلدان المجاورة، ولا سيما سوريا والأردن وفلسطين”.
وهجر اللبنانيون حرفة الأجداد بعد أن تراجع الإقبال عليها، وباتت قليلة الربح، أمام غزو المنتجات الصينية البلاستيكية والمعدنية، والتي باتت بديلة للفخار الأعلى كلفة.
عدد محدود جدا من الحرفيين يعملون اليوم بهذه الصناعة، ففي شمال لبنان هناك قريتان فقط، وفي محافظة جبل لبنان (غرب) توجد قريتان أيضا، بيت شباب في قضاء المتن، وبشتفين في قضاء عاليه.
فيما توجد في محافظة البقاع (شرق) قرية واحدة تشتهر تماما بالفخار وهي راشيا الفخّار، أما في الجنوب فهناك معمل (مصنع) واحد يقع في منطقة الغازية الساحلية تديره عائلة فلسطينية.
حرفة الصبر
عن كيفية تصنيع الفخار يقول مصطفى عطا لله شريك معمل “الوحيد” لصناعة الفخار، جنوبي لبنان، إنها حرفة تحتاج إلى وقت طويل وصبر وتتم باستخدام نوع من التربة الصلصالية يعرف بـ”الدلغان”.
والتربة هي أساس صناعة عجينة الفخار حيث تستخرج من الأرض وتوضع في حوض ماء وتحرك حتى الذوبان، ثم تجفف خلال أسبوع تحت حرارة الشمس مع ترطبيها بشكل مستمر إلى حين موعد الاستعمال.
وبعد ذلك توضع عجينة الفخار على منصة متحركة بواسطة دولاب يقوم بالدوران بواسطة القدم، فيما يقوم العامل بتشكيل العجينة بالشكل الذي يريده.
وبعدها تدخل عجينة الفخار إلى الفرن لتشوى على درجة حرارة عالية تدوم بين 8 أو 9 ساعات متواصلة حتى يحمرّ لونها وتصبح غير قابلة للتفتت وجاهزة للاستعمال.
وإذا كان الرجال يعتمدون على البعض من الآلات البسيطة، فان النساء يعتمدن على أياديهن في عجن الفخار وتطويعه إلى أوان كما تفعل نساء قرية آسيا، كما تشير فاديا لاوون التي تعلمت هذه الصناعة منذ 40 عاما من حماتها التي كانت تتقنها جيدا، وكانت تعتمد عليها في إعالة العائلة وكانت تبيع مقلاة الفخار بنصف ليرة لبنانية والطنجرة التي نبيعها اليوم بـ150 ألف ليرة كانت تبيعها بنصف ليرة أيضا.
وتروي فاديا، “كان جميع أهل الضيعة يعملون في صناعة الفخار، ينتقلون على الحمير والدواب الى مناطق بعيدة في البقاع وبعلبك وبشري، وغيرها لمقايضة الفخار بالحبوب والمواد الغذائية والمؤونة كي يتمكنوا من الاستمرار في قراهم. أفران الفخار دائما مشتعلة لشيّ الفخار، ولكن اليوم أصبح هناك فرن خاص في منزلي أعتمد عليه في عملي وأشوي عندما أريد”.
وكما تعلمت فاديا صناعة الفخار من حماتها فهي أيضا علّمت كنتها جورجينا حنا سر المهنة.
وتقول جورجينا “منذ 10 سنوات بدأت في تعلم صناعة الفخار ومنذ سنتين فقط أصبحت أتقنها جيدا، هي ليست سهلة كما يتصور البعض أنها مجرد لعبة في عجينة طرية، إنها عمل صعب ودقيق، عمل يدوي يعطي إشكالا مختلفة، وربما هي مهنة مسلية ومتعبة في الوقت نفسه وهي مصدر رزق للعاملين فيها”.
ويقول كمال دبيسي أحد الحرفيين المهرة في صناعة الفخار عن تلوين أوانيه الفخارية، “كنت أسعى طوال فترة عملي
إلى إدخال البعض من التغيير على لون الفخار الأول المعروف باللون البرتقالي، وطلائه من الداخل بطبقة تمنع امتصاص المادة الموجودة داخل أي قطعة، وظهورها إلى الخارج، كما تمنع انتقال نكهة الفخار للطعام.
وقد سنحَت لي الفرصة بتعلّم هذه التقنية على يد رجل إنكليزي كان يزور منطقتنا، وأدخلت كافة الألوان على القطع الفخارية، وكانت لي معارض في بيروت لمنتجات المصنع، كما كنتُُ أشارك في العديد من المعارض داخل وخارج لبنان”.
فوائد الفخار
يتحدث العاملون في صناعة الفخار بحماس عن فوائد منتجاتهم قائلين عن الفخار إنه يبرد الماء بدرجة يتحملها الجسد بعكس التبريد في الثلاجات، فتبريده خفيف ويتأقلم بسرعة مع جسم الإنسان، كما أن أواني الفخار المطلية أفضل للطبخ لأن رماد الفحم يتبلور إلى الكريستال، فيمنع التأثر السريع بالنار فتصل النار خفيفة ويطهى الطعام ببطء مما يساعد على حفظ الأنزيمات والفتيامينات فيه.
ولا ترتفع درجات الحرارة في الطنجرة إلى مستويات عالية فتكون النكهة أفضل. كما إنه إذا أضيف اللبن إلى الطعام لا يتأكسد، ولذا نجد في المختبرات الطبية الهامة في العالم تحفظ أكثر المواد الطبية في أوعية من الفخار، لأن المواد الطبية تتأثر بالضوء والرطوبة والفخار عازل لهما.
ولمادة الفخار طبيعة عامة وهي مقاومته للعوامل الطبيعية بعكس المعادن التي تتأكسد مع الضوء والرطوبة والهواء، فلا تثبت أمام تقلبات الطبيعة بعكس الفخار الذي لا يتأكسد ولا يتفاعل مع الكالسيوم ولا تفتته الأحماض الموجودة في الهواء ولذا حمل إلينا الفخار آثار الشعوب القديمة.
عودة الطلب بعد الركود
صناعة الفخار في لبنان بدأت تتراجع بعدما غابت بسطات بيع الفخار عن الأوتوسترادات العامة والطريق الساحلي، والسبب في ذلك انتشار الأواني الزجاجية والبلاستيكية والميلانين الرخيصة، وأصبحت سيدات الأسر يحتفظن من الفخار بالصحون المخصصة للفول فقط، فيما غابت بقية الأواني الفخارية عن الاستخدام، وإن استخدمت فمن أجل الزينة فقط في البعض من الصالونات المنزلية، لكن البعض من الفاخوريين يقولون إن الطلب تزايد لكن بقي المردود المادي محدودا.
يقول محمد نمرعطا الله، مالك معمل “الوحيد” لصناعة الفخار جنوبي لبنان، إن أجداده امتهنوا هذه الصناعة ويحاول بدروه توريثها لأبنائه حال رغبوا بذلك.
ويرى عطا لله، أنّ الطلب على الصناعات الفخارية عاد ليزدهر في الآونة الأخيرة، بعد فترة ركود، لكنها غير كافية، والسبب رغبة الجيل الجديد في العودة إلى الزمن الجميل والمصنوعات الطبيعية. ويقول أبومحمد صاحب مطعم لبيع الفول في بيروت، “ما زلت أقدّم الفول للزبائن في صحون مصنوعة من الفخار وأستخدم أباريق فخارية لتقديم مياه الشرب لأن طعم المياه فيها ألذّ، وخصوصا في فصل الصيف، ذلك لأنها تحافظ على برودة المياه”.
عدا استخدام أباريق الفخار بشكل كبير، هناك شريحة كبيرة من اللبنانيين وبعض العرب، يختارون أجرار الفخار للزينة، كما يقبل البعض على شراء أواني الطبخ والمقالي الفخارية كونها تضيف نكهة مميزة للطعام وأكثر صحية من الأواني المعدنية.
ويقول عطالله، “بالنسبة للدول، التي تستورد من لبنان منتوج الفخار، فهي الولايات المتحدة الأميركية والبعض من الدول الأفريقية، إضافة إلى الإمارات العربية المتحدة”.
ويضيف عطا الله قائلا، “يبلغ عدد تصدير القطع الفخارية من مصنعنا حوالي 500 قطعة سنويا، لكن بالنسبة إلى المجموع العام لعدد الصادرات من قبل المعامل الأخرى فلا أمتلك رقما دقيقا”.
ويسوّق معمل عطا الله بين 6 و7 آلاف قطعة سنويا داخل لبنان بسعر لا يقل عن الدولار الواحد للقطعة الصغيرة، ويصل إلى مبلغ لا يتجاوز 60 دولارا عن القطعة الكبيرة.
ويعتبر عطا الله أنّ أرباح هذه الصناعة محدود للغاية، وبالكاد توفر دخلا شهريا لأصحاب المعامل نتيجة تراجع الطلب عليها بشكل كبير قياسا بالمصنوعات البلاستيكية المنافسة، والتي يتم استيرادها في غالب الأحيان من الصين.
ويقول خالد ضو أحد الخبراء في صناعة الفخار، “بالرغم من تزايد صناعة وإنتاج الفخار من عدة دول أوروبية والصين وغيرها وبتقنية متطوّرة، إلا أنه بقي للفخار المصنوع يدويّا رونقه الخاص، وميزاته العديدة، فالخطوط التي تبدو على سطح قطع الفخار اليدوية لها قيمتها الفنية العالية”.
وأشار إلى أن “تصريف منتجات الفخار يتركّز على دول الخليج والإمارات بشكل عام، وأحيانا الكويت والسعودية، إضافة إلى السوق المحلية التي تنشط أكثر في فترة الصيف حيث يكثر السياح والمصطافون”.
إلا أن كمال دبيسي كان رأيه مختلفا بالنسبة للمردود المادي فهو “غير كاف بالمقارنة مع الجهد المبذول والتكاليف الكثيرة”.
ويضيف، “المدخول سيكون أفضل بكثير لو أن هناك اهتماما ورعاية، فالدولة لا تعترف بنا كحرفيين، وليست هناك وزارة مسؤولة عن هذه الحرفة، وقد تقدمنا بعدة شكاوى لعدة وزارات، ولم نلق آذاناً صاغية فنحن لا نملك رخصة عمل ولا رخصة نقل إنتاج، وغير مشمولين بالضمان الصحي. وعندما نطالب بأي حق من حقوقنا يطالبوننا بمستندات لا نملكها. نحن أبناء حرفة، كالرسّام والنحات والخياط، واستمرارنا مرهون بجهودنا الشخصية وإمكانياتنا المادية”.
وطالب الدولة “بخفض ضرائب الجمارك على الدهانات المستوردة وخفض أسعار المازوت أو تأمينه بالحد الأدنى، لأن أفران الفخار تعمل بواسطة المازوت”، كما طالب المعنيّين “بفتح أسواق خارجية لتصريف الإنتاج والحد من دخول البضاعة المماثلة من البلدان المجاورة والتي أثّرتْ على سوق الفخار في لبنان في المدة الأخيرة”.
وأضاف، “نريد التشجيع من قبل الدولة وأيضا الدعم المادي، حتى لا تنقرض هذه الحرفة، التي تتلاشى شيئا فشيئا، لعدم تمكّن القلة المتبقية من الاستمرار في مزاولتها لضعف إمكاناتهم المادية”.

1