القبقاب والأواني الفخارية أو النحاسية والمنسوجات اليدوية أشياء جميلة ابتكرها المصريون لتساعدهم في حياتهم اليومية، لكنها تدخل اليوم طي النسيان وقد استقرت برفوف المتاحف بعد أن ظهرت منتوجات صناعية جديدة أصبح يستهلكها العالم بأسره، وفقدت الشعوب خصوصياتها وثقافاتها وما تميزت به في تراثها، فالقبقاب الذي كان يلبسه المصريون في البيت والمسجد والحمام الشعبي بدأ يندثر بعد أن ظهرت الأحذية المصنوعة من البلاستيك.
القاهرة – يطرق الصانع المصري الستيني، نور عبدالقادر، حذاء خشبيا بآخر فيُصدر رنته الشهيرة داخل ورشته المتهالكة بحي الغورية وسط العاصمة المصرية القاهرة؛ صوت يختزن في صداه تاريخ صناعة القبقاب، الحذاء الأشهر في العصور السابقة.
والقبقاب حذاء مصنوع من قطعة مستوية من الخشب، تعلوها قطعة من الجلد السميك، يكون أحيانا من إطار العجلات المطاطية، مثبتة من الجانبين بالمسامير، وينتعل في المنازل والحمامات الشعبية للمنع من الانزلاق.
وارتبط القبقاب بالثقافة الشعبية المصرية؛ ففي عصر المماليك (1250-1517)، كان أداة لمقتل السلطان عزالدين أيبك سنة 1257 على أيدي جواري شجرة الدر التي أمرتهن بذلك.
والقبقاب يتميز برنة عالية يصدرها عند المشي، وهو ما دفع مطربون مصريون بارزون إلى التغني به، أبرزهم “دلوعة” السينما المصرية المطربة شادية التي غنت “رنة قبقابي يامّه (يا أمي) رنة قبقابي وأنا ماشية يامّه بتميل راسي”.
وكذلك أغنية المطرب المصري عبدالعزيز محمود “يا أسمر يا جميل” التي يقول فيها “يا اللي كعابك فوق قبقابك ورد في ميه (مياه)”.
يجلس الحرفي نور وسط أكوام من الخشب مختلفة الأحجام والأوزان، في ورشته التي يرجع تاريخها إلى أوائل القرن الماضي، وبجواره ماكينة لتقطيع خشب القباقيب وتفصيله، ليحول بأنامله قطع الخشب الخشنة إلى قباقيب ناعمة.
وبنبرة حزن شديدة يقول، “كنت أحد أهم موردي القبقاب للصعيد (جنوب) والفلاحين المنتشرين في القرى وكل أنحاء مصر، أما الآن فأنتظر مجهولا لا أعلمه”.
ورث نور مهنة صناعة القبقاب من والده تاجر الأخشاب، الذي عمل في المهنة من منتصف القرن الماضي، إلا أنه فضّل في بدايات حياته السفر إلى أوروبا، قبل أن يعود إلى القاهرة، ويتعلم المهنة التي استمر فيها على مدى 20 عاما.
وعن مراحل تكوين القبقاب يقول، “تبدأ صناعته بإحضار الخشب المطلوب، ونقوم بتقطيعه إلى نصفين متساويين بالمنشار، بحسب مقاس القدم، على آلة تقطيع حديدية، وبعدها نزيل الزوائد الخارجية من الجانبين ومن الأمام والخلف. ثم نركّب قطعة من مطاط إطار السيارات، أعلى القطعة الخشبية، ونثبتها بقطعة صفيح وبمسامير”.
وعن أنواع الأخشاب المستخدمة، يضيف، “هناك العديد من الأخشاب يصنع منها؛ مثل الكافور والجوز والمشمش والصفصاف والزان والمانغو والسيبيانس والفيكس، وهي أرخص نسبيا من التوت واللبخ والسرسوع، ونجلبها من الفلاحين”.
ويشير نور، إلى أنه يستخدم خشب التوت والسيبيناس، بسبب انخفاض سعرهما، وهو ما ينتج ربحا أوفر، على عكس خشب الموسكي غالي السعر، في حين أن الكافور لا يصلح؛ في ظل الجو لأنه يجعل القبقاب معوجّا.
ويؤكد نور هجر معظم صانعي القبقاب الحرفة، ولجوئهم إلى مهن أخرى، بسبب ضعف الإقبال على شرائه، وتنافسه حاليا الأحذية المصنوعة من البلاستيك، مشيرا إلى أن عدد أصحاب المهنة في مصر حاليا لا يزيد عن خمسة حرفيين.
وعن مواسم ازدهار بيعه في مصر يقول، “تعتبر المواسم الدينية وخاصة خلال أشهر رجب وشعبان ورمضان، أكثر فترات بيع القبقاب، حيث يشتري بعض الناس كمية كبيرة تصل إلى 100 قبقاب ويتبرعون بها للمساجد”.
ويؤكد نور، أن المواطنين لا يُقبلون حاليا على شراء القبقاب لاستعماله في المنزل، واقتصر استخدامه داخل المساجد للوضوء، رغم أن الأغنياء كانوا يشترونه من قبل لاستعماله في منازلهم.
وعن فوائد القبقاب الصحية والطبية، فيقول إنه معالج لمرض الروماتيزم، وينصح الأطباء بارتدائه للذين لديهم حساسية في القدمين، “ولا يتسبب القبقاب في التشققات الجلدية بأصابع القدمين، كما أنه عازل للكهرباء”.
ويلفت صانع القباقيب إلى أن أسعاره تتراوح بين 10 إلى 25 جنيها، لكن الأعلى سعرا يتم تصنيعه حسب الطلب، إذ يتم تزيينه بالصدف والألوان لتضفي عليه منظرا جميلا.
ولا تعود ذكرى القبقاب وأغانيه وأشعاره إلى مصر فقط، بل له تاريخ في بيروت وإسطنبول ودمشق، وكان عادة ما يرتديه عليّة القوم في الأسواق والمنازل والمجالس الرسمية بأشكال متنوعة وفريدة.
ويقول محمد الجزيري، الباحث المصري في التراث والحضارة، إن القبقاب موجود في مصر منذ العهد الفاطمي.
ويضيف الجزيري، “خصصت أسواق للقبقاب في الوطن العربي، أهمها في دمشق خلف المسجد الأموي، كما انتشرت أسواق أخرى في مصر”.
ويأمل نور عبدالقادر، أن تقيم الدولة معارض للحرف التراثية من ضمنها القبقاب، حتى تنعش هذه المهنة وتروّج لها وتحيا من جديد.
رنة القبقاب المصري تتوارى في طيات النسيان!!
30.10.2017