أحدث الأخبار
الاثنين 29 نيسان/أبريل 2024
أوسلو" الأسوأ في الزمن الأسوأ !!
بقلم : عبد الحليم قنديل ... 27.01.2014

إنها العودة ثانية إلى نقطة بدء مضت قبل عشرين سنة، وبمكوكيات تفاوض تحمل اسم جون كيري وزير الخارجية الأمريكية هذه المرة، والطرف الفلسطيني هذه المرة يحمل نفس الاسم، محمود عباس، وإن تغيرت صفته، وصار رئيسا لما يسمى بالسلطة الوطنية الفلسطينية، وبعد أن كان مفاوضا سريا في ‘أوسلو’ القديمة باسم الرئيس عرفات رحمه الله، وعلى الطرف الإسرائيلي لايزال شيمعون بيريز حاضرا من زمن أوسلو، وإن حل اسم بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي محل اسم اسحاق رابين المغتال.
كانت بضاعة أوسلو قائمة على تجارة التجزئة، ‘أوسلو مؤقتة’ بتوطين سلطة فلسطينية وأشبه بقبضة هواء، و’أوسلو دائمة’ في صورة وعد باتفاق نهائي لإقامة دولة فلسطينية، وفي أجل مدته خمس سنوات، كان مفترضا لها أن تنتهي قبل نهاية القرن العشرين، وظل اتفاق الإطار معلقا لعشرين سنة، ومن دون أن تتغير العناوين من ‘واي ريفر’ إلى ‘كامب ديفيد الثانية’، وفي ‘حسبة برما’ تشمل موضوعات اللاجئين والحدود والمياه والقدس والأسرى وغيرها، ومن دون الوصول إلى اتفاق نهائي من أي نوع، فلم يجرؤ الرئيس الراحل ياسر عرفات ـ بكل ثقله الفلسطيني ـ على تقديم التنازلات المطلوبة أمريكيا وإسرائيليا، ولا نظن أن عباس ـ بثقله الأضعف ـ سوف يفعلها، فما من شيء يمكن أن يقدم ويرضء طموح الحد الأدنى للشعب الفلسطينء، وربما لا تطمح الإدارة الأمريكية الحالية ـ كسابقاتها ـ إلى شيء أكبر من الإيحاء بوجود تفاوض، ونقل القدم اليسرى إلى مكان اليمنى، وبالعكس، وفي حركة دائرية لا تنتهى إلى التقدم بقدر بوصة واحدة، فقد أعلن كيرء عن تفاوض التسعة اشهر، والمقدر له أن ينتهى في غضون نيسان/أبريل المقبل.
وفيما يبدو كيري شبه متفرغ لمكوكيات التنقل بين عباس ونتنياهو، ولزيارات طلب دعم في العاصمة الأردنية، أو زيارات طلب ضغط على عباس من قبل العاهل السعودي، رغم كل هذا المجهود الذي يبدو نشيطا ومصمما، فما من جديد يقدمه كيري غير ورقة عناوين، أو إطار عام جديد يشبه إطار أوسلو القديم، وبتفصيل إضافي باهت، لا يفتح الطريق للتوصل إلى تسوية نهائية أو شبه نهائية، بينما تمضي الحقائق على الأرض في اتجاه آخر تماما، فعملية تهويد القدس يجري استكمالها بالبلدوزرات، والمستوطنات اليهودية تزدهر في أراضى الضفة الغربية، والسلطة الفلسطينية الوهمية تناسلت، وصارت سلطتين، واحدة لعباس في رام الله، والأخرى لحماس في غزة.
والمحصلة، اننا بصدد تفاوض يجري لمجرد التفاوض، عباس يتفاوض مباشرة مع الإسرائيليين، وحماس تتفاوض بالطريق غير المباشر عبر تركيا أو عبر غيرها، ويجري أحيانا وقف التفاوض مع الإسرائيليين، أو التظاهر بوقف التفاوض، وإحلال فواصل عابرة من التفاوض بين حماس وعباس، ومن دون تحقيق تقدم على أي صعيد، ومن دون وجود بديل أو بدائل جاهزة، فالوضع الفلسطيني أسوأ بمئة مرة عما كان عليه وقت إبرام أوسلو الأولى، وقتها كان عرفات موجودا، وكان يملك بقية من خيارات المناورة التي برع فيها، كان قائدا تاريخيا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان قادرا على نوع من ضبط الإيقاع، وكانت حركة فتح لاتزال هي المجرى الرئيسي للحركة الوطنية الفلسطينية، وكان تنظيم فتح لايزال يحمل السلاح، ومع خبرة تحرك شعبي صقلتها سنوات انتفاضة 1987، وكانت حركة ‘حماس′ شابة لاتزال، رفضت تسوية أوسلو، وصممت على حمل السلاح.
وجعل المقاومة المسلحة طريقا وحيدا للتحرير الفلسطيني، وأبدعت في أساليب السلاح، واستخدمت تكتيك العمليات الاستشهادية، وحين حل الأوان الذي كان مفترضا لصياغة الاتفاق النهائي في 1999، كانت أجواء العمل الفلسطيني ميالة لطلاق الأوهام، فلم يحدث الاتفاق النهائي، واعتبرت إسرائيل أن ‘أوسلو’ المؤقتة تكفي الفلسطينيين، وأن ‘أوسلو’ النهائية لا تلزم تل أبيب، وذهبت عجرفة شارون وقتها إلى مداها، وقاد بنفسه عملية اقتحام المسجد الأقصى، وكانت تلك شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد انتفاضة 1987، وأشعلت المقاومة في الضفة وغزة من جديد، إلى أن اضطرت إسرائيل لقرار الخروج من غزة، وتفكيك مستوطناتها فيها، وكانت تلك هي الذروة التي وصلت إليها حركة التحرير الفلسطيني، ثم بدأ الانحدار والانكسار، فقد غاب عرفات بطريقة عمله المزدوجة، وحل محله الرئيس عباس، الذي لم يخف يوما كفره بطريق السلاح، وبالمقاومة والانتفاضات، وتفضيله لطريق المساومة، في حين بدأت حماس تتخلى تدريجيا عن مبدأ المقاومة، ودخلت عمليا إلى خيمة أوسلو بإغراء المشاركة في الانتخابات الفلسطينية، ثم تحولت القصة الفلسطينية الداخلية إلى مأساة مع صدام 2007، وتحولت السلطة الوهمية إلى سلطتين، وحلت اعتبارات السلطة وأولوياتها محل اعتبارات المقاومة عند عباس وحماس معا، فلم يعد أحدهما يكيد لإسرائيل، بل تفرغا للكيد والحرب الساخنة أحيانا ـ والباردة أحيانا ـ بين سلطة رام الله وسلطة غزة، وتعقد وضع فلسطين الأسيرة، فثمة أسرى للفلسطينيين جميعا لدى سلطة الاحتلال، وثمة أسرى لحماس عند سلطة عباس، وأسرى لفتح عند سلطة حماس، وإلى حد صارت معه التسوية بين حماس وعباس أصعب منالا من التسوية الفلسطينية ــ الإسرائيلية ذاتها، وكلها تسويات دخلت في باب العنقاء والخل الوفي.
وقد يقال لك ان حماس لم تغادر نهائيا ميدان المقاومة، ولم تلجأ إلى المساومة، وأنها خاضت حربين ضد العدوان الإسرائيلي، وأبلت فيهما بلاء حسنا وممتازا، وحرمت الجيش الإسرائيلي من تحقيق النصر في 2009 و2012، وهذا صحيح في حدود الوقائع المعروفة الملموسة، لكن لاحظ ـ من فضلك ـ أن حماس خاضت حربين فرضتا عليها فرضا، ولم تبادر أبدا إلى اشتباك متصل مع قوات الاحتلال الإسرائيلس، لا في الضفة الغربية، ولا في الأراضى المحتلة عام 1948، وكما كانت تفعل في سنوات زهو المقاومة وانتفاضتيها الأولى والثانية، فقد انسحبت ‘حماس′ من معنى المقاومة الجامعة لعموم الفلسطينيين، وحصرت مقاومتـــها في الدفاع عن حدودها وسلطتها في غزة، وقد كانت غزة دائما هي مهد المقاومة الفلسطينية الجامعة، ففي غزة كان الميلاد التاريخي لحركة فتح، وفي غزة ولدت حماس أيضا، وبعد ثلاثة عقود من ميلاد فتح، وبدت حماس كأنها ترث فتح في ميدان المقاومة، ولعب ذلك دورا هائلا في تزكية الحماس الشعبي العربي لحركة حماس، فقد كانت حماس تبدو كأنها فتح شابة ترث ‘فتح’ العجوز، لكن الزمن أكمل دورته بسرعة خاطفة، وآلت ‘حماس′ إلى الراحة مبكرا، واكتفت من القصة الفلسطينية كلها بسلطان غزة، وراحت تجمع السلاح وتطور الصواريخ للدفاع عن غزة وقت العدوان الإسرائيلي، وحولت كتائب عز الدين القسام ـ ذات الميراث الاستشهادي المجيد ـ إلى جيش للدفاع عن سلطة غزة، وهو ما يريح إسرائيل تماما، ويريح رأسها من صداع حماس، التي باتت مختنقة محاصرة في غزة، فيما تفضل إسرائيل خطة التساوم مع عباس بطبعه الأصلي المساوم، وتكسب الوقت الضروري لابتلاع وتهويد القدس والضفة الغربية.
والمؤكد أنه لا قيمة لأي تـــــفاوض في الظروف الفلسطينية الراهنة، هذا إذا سلمت أصـــــلا بصلاح مبدأ التفاوض، فلا أحد يكسب على طاولات تفاوض إلا بالمدى الذي تنطلق إليه مدافعه وتضرب سيوفه، وقد أخــــلى الفلسطينيون مدافعهم وسيوفهم على طريقة عباس، أو وضعوها في ‘جراب غزة’ على طريقة حماس.
‘ كاتب مصري

المصدر : القدس العربي
1