أحدث الأخبار
الاثنين 29 نيسان/أبريل 2024
من يكترث لقتيل عربي واحد في جنوب تل أبيب؟!
بقلم : سهيل كيوان  ... 09.04.2015

أحمد رجل في الخمسين، ورث عن والديه فقره وصوته الذي بالكاد يخرج من بين شفتيه، حاول بعناد مثير للاحترام أن يتخلص من حفرة الضائقة والفقر، مصمّما على منح ابنه وبناته الثلاث ما حُرم هو منه، فكدَح في الأعمال السوداء بأقصى ما يستطيع أن يتحمّل جسده النحيل وقامته القصيرة. في الأسابيع الأخيرة نادته لقمة العيش ليعمل في البناء في جنوب تل أبيب، بعيدا عن قريته الجليلية.
يكدح في النهار ويعود مع زملائه وأبناء جلدته مستنزَفا إلى منزل استأجره المقاول لهم في (بيتح تكفا) جنوب تل أبيب!
سكان منطقة (بيتح تكفا) من اليهود الشرقيين، معظمهم فقراء مقارنة بالأوروبيين، وهم معروفون بتطرّفهم وكراهيتهم العمياء للعرب – إلا من رحم ربّي – وكأن المغالاة في العنصرية تسدّ لديهم حاجات نفسية في التميّز، أو تشكّل تعويضا عن شعورهم بالدونية أمام أبناء جلدتهم الغربيين الميسورين عموما، بالإضافة لآلاف المهاجرين من الأفارقة والآسيويين، وما تلفظه المدينة من فضلات اجتماعية.
في مساء نهاية الأسبوع وبتواضعه المعهود أعدّ القهوة لزملائه، وقال إنه سيخرج لاقتناء علبة سجائر. خرج أحمد، مرّت ساعات وعلى غير العادة لم يعد، وزملاؤه ينتظرون، وهذا أثار استهجانهم، لماذا تأخر أحمد! فهو ليس من عشاق السهر ولا التسكّع في الشوارع أو المقاهي!.
في الخامسة قبيل الفجر، أعلمتهم الشرطة أن أحمد معتقل، وعليهم الحضور لكفالته، ذهب زملاؤه وهم يتساءلون، ما الذي يمكن أن يفعله أحمد الذي «تأكل القطة عشاءه»!
عندما وصلوا، أخبرتهم الشرطة أنّه عُثر على جثة أحمد في موقف للحافلات، يبعد بضع مئات من الأمتار عن مكان مبيتهم!
في الوقت ذاته وصل شرطي من محطة الشرطة القريبة من قريته، وأخبر زوجته بأن أحمد مات في مكان عمله، وعليها أن توقّع لإرسال جثمانه للتشريح، وهو سيرسل توقيعها بواسطة الفاكس إلى تل أبيب، للاستعجال بإحضار الجثة، صرخت وبكت وفي النهاية وقّعت.
تجمع أقرباء أحمد وجيرانُه والكثير من أبناء قريته أمام البيت البائس، وانتظروا. وصل جثمان أحمد في كيس نايلون أسود قبيل المغرب، وأثناء غسله لآخر مرة، رأى من حَضر على جسده النحيل تسع طعنات كلها في الصدر والخصر، وبأحجام مختلفة، كان واضحا أن من طعنه قصد قتله، كأنّما أمسك أحدهم بيديه من الخلف وثبّته، فيما قام آخرون بطعنه. الاختراقات في جسده لم تكن بحجم واحد.
أثناء غسله كان ابنه يندبه»يابا إنت قُتلت لأنك فقير، قُتلت لأنك ذهبت لتساعدني، كل شيء ضد الفقراء يابا..الحقّ عليّ أنا..ذنبي أنا ليش خلّيتك تروح هناك.. يابا إنت كنت تنبسط لمّا تلاقي في جيبك ثمن علبة دخان، حرمت نفسك من كل شيء عشاني وعشان خواتي، أولاد الحرام قتلوك»! وكان أكثر من واحد يقول له وعيون بعضهم تدمع:»وحّد الله يا محمد..وحّد الله يا حبيبي..قضاء وقدر يا محمد..الله ينتقم من الظالمين..الله يظهر حقه، لا تحمّل نفسك المسؤولية، هذا قدره..نحن نؤمن بالقدر» ويرد محمد: «لا إله إلا الله…ولكن ليش يموت بهذه الطريقة! ليش ينقتل..في كل عمره لم يؤذ نملة»!
كل من جاء إلى بيت العزاء من زملائه العمال وغيرهم قال:» إذا أرادت الشرطة كشف مرتكبي الجريمة لاستطاعت بسهولة، فحيث قُتل توجد عشرات كاميرات المراقبة» «لوكان القتيل يهوديا لعرفوا القاتل حتى لو كان في وسط قطاع غزة أو نابلس، ولكن القتيل عربي»!
وأكد البعض»إذا كان القاتل عربيا، فسوف يتم الكشف عنه، وإذا كان يهوديا فسوف يتم التعامل مع الجريمة بخفّة وليس بالجدّية الكافية ،وقد تسجّل القضية ضد مجهول».
وقال أحدهم «غالبا ما يكون اسم القاتل «مجهولا» عندما يكون الضحية عربيا، في ذمّة السيّد»مجهول» مئات جرائم القتل، لعن الله هذا المجهول الذي لا يستطيعون التعرف عليه.
كان هناك إجماع من المعزّين ومن ذوي الفقيد وأهل البلدة ومن جاءوا من خارجها، أن الدم العربي يزداد رخصا يوما بعد يوم وما زال في هبوط مستمّر. لقد ظنّ العرب أن ثمن دمائهم لا يمكن أن يهبط أكثر مما هبط في العقود الستة التي تلت عام النكبة، وما تخللها من حروب ومجازر وقتل مجاني، ولكن ما يحدث منذ اغتيال الربيع العربي وتحويله إلى جحيم، صار العرب أرقاما وجثثا لا أسماء لها، كأنهم بلا مشاعر ولا أسر ولا أحلام ولا حيوات، وليسوا سوى أشباح وفقاعات تتلاشى، فمن سيكترث لمقتل عامل بناء عربي في جنوب تل أبيب، بينما يُقتل مئات العرب يوميا بأيدي أبناء جلدتهم، ويمرون كخبر عابر، كأن الحديث يجري عن مخلوقات غير بشرية!
في بيت العزاء تساءل البعض إذا ما كان أحمد شهيدا لأنه قتل مغدورا أثناء سعيه في طلب الرزق لأسرته أم لا! لم تحسم هذه المسألة، الله أعلم، إلى حين يتبين القاتل وسبب القتل! ولكن شيخ البلدة منح ذويه شيئا من العزاء، إذ أكّد أثناء صلاة الجنازة، أن أحمد دُفِن في مساء الجمعة ولن يمسّه عذاب القبر!
عاد الناس إلى بيوتهم بعد دفن أحمد، وما زلت أرى شاربيه الرماديين اللذين يشيان بعروبته من مسافة بعيدة، هل كانا سبب مقتله! هل عرف عنصريون أنه عربي فاستفردوا به وقتلوه!
وقبل أن تُكشف هوية القتلة، راح الآباء يحذّرون أبناءهم.. يابا لا تدخلوا بينهم..يابا لا تمشوا وحيدين في أماكن نائية، الحذر مطلوب، لا تَبعدوا ولا تخرجوا إلا بمجموعات،على الأقل ثلاثة، يابا العنصرية العمياء تضرب جذورها عميقا ودماء العرب الرخيصة، بل الرخيصة جدا، تغريهم بالقتل.

1