أحدث الأخبار
الاثنين 29 نيسان/أبريل 2024
الجمود والتجديد: الهرولة بين خيار قومي منتحر وخيار إسلامي ناحر!!
بقلم : د. لبيب قمحاوي ... 13.05.2015

يبدو أن العرب مُصـِروُّن على تكرار فشلهم المزمن في تجديد الفكر القومي وتطويره بما يناسب الواقع والمستجدات ولكن هذه المرة بصفتهم مسلمين أكثر منهم عرباً . فتكرار فشل فكرة التجديد عربياً تعود إلينا الأن من النافذة الإسلامية من خلال الإصرار على الإبتعاد عن التجديد في الفكر الإسلامي والذي وصل إلى حد الإمعان في الإلتصاق بالماضي السحيق بل وإعتباره المنارة والقدوة للمستقبل وإعتبار أي تغيير عليه كـُفراً وزندقة تستحق العقاب والذبح . وهذا الموقف هو القاعدة التي انطلق منها الفكر الإرهابي المتزمت الذي إلتصق بالإسلام وسيطر عليه من خلال أفكار وأفراد لا تَخـْفـَى علاقتهم بالأجهزة الإستخباراتية الغربية ومن أهمهم محمد بن عبد الوهاب صاحب المذهب الوهابي السائد في المملكة السعودية وهو الرحم الحاضن الذي فـَرﱠخَ أشكالاً متعددة من التزمت الديني السلفي الذي جعل من الإسلام دين التخلف والرعب بعد أن كان دين التسامح.
إن عدم القدرة على التجديد يعكس بشكل عام حقيقة النهج السلبي الذي تعيشه الأمة والذي جعلها تجنح نحو الركود والإتكال على الغير من خارج الأمة في أهداف صعبة ومصيرية مثل التطوير والتحديث والتي تتطلب المثابرة والعمل والتضحية . وهذه الإتكالية أدت ، مع مرور الـوقت ، إلى موت الأمة ووقوعها في براثن من يملكون ناصية الحداثة والتطوير .
من السهل إلقاء اللوم على الآخرين لتبرير السقوط العربي وبروز الخيار الإسلامي كوريث دموي لوضع فقد توازنه الإيدولوجي والمادي لصالح الفوضى والتشتيت . ولكن تبقى الحقيقة هي السندانة التي تـُجافي الأوهام والأكاذيب . السقوط جاء من العرب أنفسهم ومن داخلهم . والمَعَاوِل الأجنبية ساهمت في تدمير الهيكل العربي ، ولكن ذلك ما كان يمكن أن يتم لولا الفساد السياسي والمادي الذي نـَخـَرَ في عظام الأمة وجعلها هشة قابلة للكسر عند أول نسمة .
الفشل في تجديد الفكر القومي يعود إلى إنتقال مُقـَدرات العمل القومي من القاعدة الجماهيرية الشعبية إلى أنظمة حكم مستبدة صادرت العمل القومي من قاعدته الجماهيرية وصادرت الفكر القومي المستنير من قادته الطبيعيين من المفكرين والمناضلين واحتكرت الحقيقة لنفسها . ولم تقف تلك الأنظمة عند هذا الحد ، بل توقفت عن التعامل مع الفكر القومي بإعتباره المنارة الهادية للحكم وللعمل السياسي وحولته إلى امتداد وظل لتلك الأنظمة التي إعتبرته أحد أبجديات الحفاظ على بقاء الحكم بإعتباره الأولوية القصوى والأهم .
لقد ساهم هذا الوضع بالنتيجة في شرذمة الحركة القومية من خلال تحويل التنظيمات الحزبية القومية إلى أدوات لخدمة أنظمة الحكم القـُطـْرية المستبدة التي تنتمي إليها . وهذا بدوره حَوﱠلَ العلاقات بين الأحزاب القومية المختلفة إلى مرآة تعكس العلاقات السائدة بين الأنظمة التي تنتمي إليها . وقد عكس هذا الصراع نفسه في معظم الحالات على العلاقات بين الدول العربية المعنية ، فإذا تـَخـَاصَمَ حَاكِمَيْـن توترت العلاقات بين دوليتيهما والعكس صحيح بغض النظر عن مصالح تلك الدول .
إن الإستيلاء على الحركة القومية لم يقتصر على الأحزاب والتنظيمات القومية ، بل إمتد ليشمل عملية تطويع الفكر القومي ومدارسه المختلفة وتحويله إلى أداة لخدمة هذا النظام أو ذاك. إن التعامل مع القضايا القومية إبتدأ ينحسر من منظوره القومي إلى المنظور القطري استجابة لضغوط مختلفة إمتدت أحياناً لتشمل السجن أو الإيذاء الجسدي أو كلاهما ، وفي أحيان أخرى تجاوزت كل ذلك إلى التصفية الجسدية . وفقد الناس احترامهم لذلك الفكر بل واعتبر المعارضون لتلك الأنظمة الأحزاب القومية التي إنبثق عنها هذا النظام أو ذاك أحزاباً تابعة للنظام وليس أحزاباً تقود النظام أو تمثل التيار والفكر القومي وحَمـﱠلَتـْها مسؤولية الكوارث التي جلبتها تلك الأنظمة على دولها وأحياناً على الأمة بأسرها .
وقد ساعد في إنهيار الإحترام للمفكرين القوميين والفكر القومي مسارعة بعض قادة ذلك الفكر إلى الإنخراط طوعاً في جوقات مؤيدي النظام . إن إلقاء القبض على العقل وتسخير مخرجاته لخدمة هذا النظام أو ذاك هو أحد سمات الأنظمة الأستبدادية المغلقة . وجنوح بعض أصحاب الرأي من المفكرين القوميين لتسخير قدراتهم لخدمة تلك الأنظمة قد أضفى درجة عالية من الإحتقار الشعبي لتلك المخرجات وجعل مجمل الحركة القومية في الميزان . أما المفكرين الشرفاء المنتمين إليها فهم إما طريدي العدالة أو نزيلي السجون والمعتقلات السياسية لرفضهم الإنصياع لرغبات الحاكم .
وهكذا ، فإن حَشـْرْ الفكر القومي والمفكرين القوميين تحت الخيمة القـُطـْرِية للأنظمة “القومية” المستبدة والخروج بفتاوى قومية لتبرير سياسات قطرية قد أدى إلى جمود الحركة القومية ووقف تجددها بل وانحسارها لصالح المد القـُطـْرِي . وهذا جعل الواقع القطري يسود على الهدف القومي المتمثل في الوحدة العربية وتم بالتالي توزيع الأشلاء القومية بين أنظمة مستبدة متعددة تجسد في حقيقتها الواقع القـُطـْرِي وتعمل على حمايته وتكريسه . وعلى مر السنين أدى هذا الوضع إلى استنزاف المناضلين القوميين الحقيقيين الذين إما قـُتـِلوا أو ُسجـِنوا أو إنكفؤا على أنفسهم غاضبين مما جرى وكافرين بكل شئ بعد أن قـُتل الحلم الجميل على يد أبنائه . ولم يشفع ضياع فلسطين عام 1948 وباقي فلسطين عام 1967 في تخفيف الغلواء القـُطـْرِي للأنظمة السائدة ، بل على العكس عمل على تفاقمها تحت عذر استرجاع فلسطين أو بعضاً منها.
لقد أثمرت تلك الحقبة من النضال جيلاً لا يقل وحشية عن ما سبقه في التصدي للرأي الآخر من منطلق احتكار الحقيقة وتجريم وتخوين الرأي الآخر لمجرد أنه لا يتطابق ووجهات نظرهم .
من الواضح أن نهج التجديد والتطوير قد أصبح محظوراً من قبل بعض المناضلين العرب الذين أختاروا الإصرار على الإلتصاق بالماضي وتجاربه متناسين أن ما نحن فيه هو محصلة لفشلهم وفشل المناضلين والحكام سواء بسواء في التوصل إلى معادلة تحمي مستقبل المنطقة من منطلق وحدة الآمال والمصير لأبناء الأمة العربية .المناضلون السابقون يرغبون في تكرار مسلسل الإدانات في كل مقال وخطاب وحديث واستذكار مسلسل المديح لمن يعتبرونه أنظمة مناضلة حتى ولو شاهدوا لمعان السكاكين التي تحملها تلك الأنظمة لذبح ما تبقى من هذه الأمة . يريدون أن نكرر طول الوقت إذا ما تحدثنا عن إيران ومخططاتها مثلاً أن أمريكا عدو العرب الأول وأن إسرائيل دولة غاصبة لفلسطين وأن السعودية ومذهبها الوهابي أكثر خطراً ، وذلك كوسيلة لإصدار صك غفران مسبق الصنع لهذه الدولة أو تلك . إن الإستمرار في إستحضار الأخطار القديمة المتفق على خطورتها مسبقاً يجب أن لا يكون سبباً للتغاضي عن الأخطار الجديدة القادمة إلى المنطقة بحكم التطورات الأخيرة . فبالإضافة إلى ما يتعرض له العالم العربي من عدوان خارجي ومخططات تهدف إلى تفتيته والقضاء على هويته ، فإن العدوان الأكبر والأخطر يأتي من داخلنا وبالتحديد من قوى تهدف إلى القضاء على ما كل ما نعرفه من مُسَلـﱠمات ، بما في ذلك الهوية العربية ، بإعتبارها أموراً تتناقض وفلسفة البعض في فهمهم للإسلام ورغبتهم في تطبيق دولة الخلافة .
وهناك البعض الآخر الذي يفتقر إلى المرونه اللازمة لإستيعاب الأخطار والمتغيرات وأبعادها الخطيرة على مستقبل المنطقة . وهذا البعض الآخر هو ما يسعى إلى وقف عقارب الزمن ومنع الإجتهاد والتحديث الذي يتناقض وقناعاتهم التي عفا عليها الزمن كما أثبتت الأحداث على مدى نصف قرن .
ولكن ما الذي نحن حقيقة بصدده ؟ ما هي الخيارات المطروحة أمامنا الآن ؟
إذا أراد البعض استبدال الخيار القومي بالخيار الإسلامي عوضاً عن العمل على تصويب أوضاع الخيار القومي وتجديده فكرياً وعملياً ، فإن النتائج ستكون وخيمة . فالخيار الإسلامي لن يكون أفضل من الخيار القومي مهما كبرت خطايا الأخير .
الإسلام السياسي المعاصر لم يخرج من رحم إسلامي أو رحم عربي ، بل خرج بمساعدة أو إرادة أجنبية كان لها أهدافاً خفية تنصب أساساً في التصدي للحركة القوميـة العربيـة. وتاريـخ علاقات الحركات الإسلامية خصوصاً حركة الأخوان المسلمون مع الغرب وأمريكا ومع الأنظمة الحاكمة في حينه وعدائها للحركات القومية واليسارية معروف تاريخياً .
إن هذا العداء التاريخي إستند في كثير من تبريراته من قبل القوى الإسلامية إلى فشل القوى القومية التي حكمت لما يزيد عن نصف قرن في تحقيق أي إنجاز يتعلق بتحرير فلسطين أو أجزاء منها ، أو إرساء دعائم الديموقراطية أو العمل على تحقيق دولة الوحدة العربية . ومع أن دور الحركات الإسلامية وحلفائها من الأنظمة العربية والدول الأجنبية في إفشال التجربة القومية لا يمكن إنكاره ، إلا أن الحركات والأنظمة القومية تبقى هي المسؤولة عن فشل تجـربتها
لم تـُقـَدﱠم الحركات الإسلامية البديل المنطقي والمعقول للتجربة القومية ولم تشكل نقلة نوعية في العمل من أجل مصلحة العالم العربي ، بل قامت بإفراز عدداً من التنظيمات المتطرفة أو الجهادية أو كلتاهما معاً مستعينة بأدوات دموية وعقيدة متزمة ملتصقة بالماضي السحيق . ومع كل ذلك ، فإن تلك الحركات لم تتخلى عن علاقاتها التاريخية مع أمريكا والغرب ويأتي ذلك في سياق إستمرار دعم أمريكا والغرب لتلك الحركات ومخططاتها .
الخيار الإسلامي نجح في تطوير نفسه في اتجاهات متطرفه وإقصائية تهدف إلى تقسيم الأمة العربية لصالح أمة إسلامية في مسار لا يعترف بالعلاقة القومية بل برابطة دينية تصب في نهاية المطاف لصالح دول إقليمية قوية مثل إيران وتركيا تسعى إلى استغلال الرابطة الدينية أو المذهبية لخدمة مصالحها القومية .
إن فشل المنطق الشعوبي لدولة الخلافة لن ينجح في حين فشلت الهوية القومية في إيصال الأمة إلى دولة الوحدة نتيجة لإختصار الحركة القومية في أنظمة قطرية مستبدة . فكل من يسعى إلى خلق الواقع على أسس غير واقعية سوف يحصد في النهاية سراباً لا قيمة له .
إن إستبدال واقع مؤلم بواقع أكثر إيلاماً لا يشكل الحل لمشاكل العرب . فكل العرب ليسوا مسلمين وكل المسلمين ليسوا عرباً . وهكذا علينا أن ننظر مرة أخرى إلى واقعنا العربي وداخلنا العربي وأن ننشد الحل والخلاص من خلاله . وقد يكون في تجديد الفكر القومي وإلغاء بعض مظاهر الشوفينية فيه ، والتأكيد على أن وسائل تحقيق أهدافه لا يمكن أن تتم إلا بالديموقراطية والوسائل الديموقراطية ، عندها فقط يمكن أن نخطوا الخطوات الأولى نحو إعادة بناء الفكر القومي والهوية القومية الجامعة وأن نصبوا إلى عالم عربي موحد بتفاؤل مشروع .

1