أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
الغمزة والعقاب…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 14.09.2017

كنت طفلا لا يُعِرْنَ وجودي بينهن اهتماما، أسمعهن يتحدثن بصوت أقرب إلى الهمس بأنه قتل شقيقته فائقة الحُسن والجَمال، هناك من حرّضه ودفعه دفعا للجريمة، كنّ يذكرن بكراهية اسم المحرِّض الذي قال له: «أنت مش زلمة، احلق شاربيك أحسن لك، روح شوف أختك شو عاملة».
كانت جريمة شقيقته: أن هناك من رآها تبادل شابا الغمزة بالغمزة والابتسامة بالابتسامة في أحد أفراح القرويين.
التحريض كان كافيا ليحوّل حياة المراهق إلى جحيم، أين عينيه من كل هؤلاء الذين باتت نظراتهم تحتقره، حاول تجاهل الأمر والتغلب على حنقه وغضبه، ولكن الكلمات والنظرات كانت بعوضا يلسعه فيحرمه من النوم، ها هي في الغرفة الأخرى تغط في نومها بعدما فعلت فعلتها مع ذلك النذل، هل يقتله! لا، حينئذ ستطرد الأسرة من البلدة، ودفع ديّة وثارات عائلية، ثم ما ذنب الشاب الذي يجد فتاة «سائبة» تبادله الحب والغمزات والحركات! إذا واجبه هو أن يربّي شقيقته، وأن يربي من خلالها بنات العائلة والبلد كلهن.
- قومي حضري لي زوادة للشغل.
استيقظت وقامت سمعا وطاعة، تعد له بِحبٍ الزيت والزيتون وكرات اللبنة وأرغفة الطابون، تردد للحظات ثم فاجأها قائلا… حطيتي راسنا بالوحل يا كلبة.. بهدلتينا..
- ليش خيّا..
- وبتسألي ليش خيّا..!
طعنها في صدرها عدة طعنات وهي تغرغر بدمائها.. ليش خيا حتى انطفأت.
خرج هائما على وجهه، مضى إلى كروم الزيتون وجلس على التراب منتظرا شيوع خبر قتله لشقيقته ونبأ استعادته رجولته وكرامته.
ولكن بقي صوتها وصورتها وهي تلفظ أنفاسها لا يفارقانه… ليش خيا..!
حُكم بالسجن المؤبد، ولكن بسبب سلوكه الحسن خُفّف عنه، وصار يُسمح له بزيارة القرية في الأعياد، يقضي ثماني وأربعين ساعة بين ذويه، يبدأها بزيارة قبر شقيقته، يُقرفص فوق شاهد القبر لتتساقط دموعه فوق أوراق الميرمية وزهور الخبيزة على قبرها، يسمع صوتها من القبر.. ليش خيّا، فيزداد بكاء وحرقة، حتى يأتي من يواسيه ويأخذه إلى البيت.
أذكر رجال عائلته جالسين على فراش أرضي في محيط الديوان في الحارة، ظهورههم على المساند وبين كل اثنين وسادتان، يتكئون عليها تارة وتارة يحضنونها والقهوة السادة تدور، وهو في مركز المجلس برغم صغر سنه، يرتدي قميصا أبيض مكويا وسروالا غامقا، كلما دخل أحدهم وقف ليصافح ويعانق.
بعد خمسة عشر عاما أنهى محكوميته، وعمل في عدة مهن تعلمها في السجن، وما لبث أن تزوج وأنجب وأطلق اسم شقيقته المغدورة على أولى بناته. لا أحد يتحدث معه عن جريمته، فما أن تُذكر أمامه حتى تغرورق عيناه، فهو لم يغفر لنفسه، ولا لأولئك الذين حرّضوه، لم يرحموها ولم يرحموه.
أذكر هذه الجريمة وقد سلم الجاني نفسه معترفا، ولكن على مر السنين سمعنا الكثير عن امرأة أو فتاة في فلسطين وغيرها، قتلتها رصاصة طائشة، أو رصاصة انفلتت أثناء تنظيف سلاح كان بيدي زوجها أو شقيقها، وأخرى تعثرت فسقطت من عن سطح البيت وهي تجمع الغسيل، بينما سقط على رأس أخرى حجر من السماء فحطم جمجمتها، وهناك من غرقت في وادي موسي أو سقطت في بئر مهجورة أو حتى في بئر المسجد، وأخرى أحرقت نفسها، أو احترقت أثناء الطهو ولم يصل أحد ليطفئها، وأخرى شربت مادة سامة بتركيز عال بالخطأ.
كلما تقدمت به السن شعر بالظلم الفادح الذي ارتكبته يداه، خصوصا وهو يــــرى ما آلت إليه العلاقات الاجتماعية عبر السنين.
ثورة الاتصالات والمواصلات والتحولات الاقتصادية والعلمية جعلت العلاقات الإنسانية سريعة التغيير، ولا يمكن إلا أن تتأثر بها المجتمعات جميعها في كل مكان.
ها هن فتيات البلدة والعائلة يدرسن في جامعات البلاد وخارجها، من حيفا حتى بئر السبع مرورا بتل أبيب والقدس وجنين وعمّان، بل وطار بعضهن إلى روسيا وشرق أوروبا وإنكلترا وإيطاليا وأمريكا وغيرها، ها هن مئات النسوة يخرجن بسياراتهن أو بالحافلات صبيحة كل يوم من البلدة إلى أعمالهن ووظائفهن، معظمهن على آذانهن سماعات يتحدثن مع مجهولين، في مظاهرات المناسبات الوطنية يشاركن ويهتفن بالآلاف، بعضهن يُعتقل ويُسجن ويحقّق معهن، ها هو يرى طلاب وطالبات الثانوية في مثل عُمر شقيقته يمرون من أمام بيته فرادا وزرافات يتبادلون الأحاديث والضحكات في الذهاب والإياب، كلهم بلباس جينز كحلي مُوحّد. ها هو يرى في البلدة فرقا رياضية للفتيات لكرة السلة والشبكة وكرة القدم وسباق الحقل، وغيرها، كلما تقدمت به السن أكثر، باغته صوتها من غير موعد.. ليش خيا..ليش خيا.
جرائم قتل النساء ليست فقط عند العرب فللأجانب فيها نصيب أيضا، لكنها عندنا أكثر بكثير لأن بين ظهرانينا من يمنحها شرعية رسمية وشعبية.
قبل أكثر من خمسة عقود رجلٌ جاهل حرّض مراهقا فقتل شقيقته، ولكن التحريض ما زال مستمرا.
بعض الدعاة لا خُطب لديهم إلا تبرّجها وملابسها وعطرها وحيضها وأظافرها وصوتها وخروجها للعمل. يشعلون نيران الحقد في رجال مكبوتين مقهورين من احتلال واستبداد وصراع شرس على لقمة العيش حتى يشعروهم بالخزي والعار، بعضهم يتحول إلى وحش إذ يفقد السيطرة فيهاجموهن لفظيا ثم جسديا.
تقدمنا وتقدمت أدوات الجريمة، العثور على سيارة محترقة بداخلها جثة امرأة، إطلاق رصاص على سيدة لحظة خروجها من دكان ملابس أو من مكان عملها أو من بيتها، مجهول أغلق طريق سيارتها ثم تقدم منها وأطلق النار على رأسها من كاتم صوت. تقدمنا أكثر، يحكى أنه صار في بلادنا مقاولون لجرائم القتل، تدفع ثمن الجريمة وهناك من ينفذ من دون أن تعرفه، تسمع الخبر مثلك مثل غيرك.
نحن مجتمعات محافظة في معظمها تتعرض لغزو بل لتحطيم ثقافي وفكري ومادي وقِيَمي، هذا يؤجج صراعا داخل كل بيت حتى بين الفرد ونفسه، فلا أحد يستطيع عزل نفسه وأسرته عن أعاصير التغييرات الجارفة.
لا توجد حلول سحرية، لا بالتجاهل ولا بالعنف، الحل في الواقعية الوسطية، من خلال عقد اجتماعي يحرّم التحريض على المختلف وخصوصا على النساء، وتقديس خصوصية الفرد، وبأن نجد المعادلة الذهبية بين القيم الروحية والاجتماعية التي ورثناها في عروقنا وبين الحياة العصرية ومتغيرات الواقع المادي، لا تزمّت قِيَمي وتقوقع في الماضي يُفقدنا توازننا في مواجهة أعاصير الواقع فننكسر، ولا فَراشٌ تائه يرمي بنفسه في ألسنة اللهب فيحترق!!

1