أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
الكوماندنتة شيرين!!
بقلم : لميس أندوني ... 15.05.2022

كانت شيرين أبو عاقلة في حياتها صحفية، تروي حكايات الشعب الفلسطيني، بأحزانه وانتصاراته. كانت شاهدةً على ظلم نظامٍ قام على اقتلاع شعبها وتدمير وجوده. وقفت تواجه دبابتهم بالكلمة، يوثّقها فريقها التلفزيوني بالصوت والصورة، أدلة دامغة على جرائم إسرائيل المستعرة ومقاومة الشعب الفلسطيني المستمرّة.
في استشهادها، قادت شيرين الشعب الفلسطيني، فلم تكن لها جنازة، بل معركة مواجهة جديدة من نوعها، فجثمانها المكفّن بالعلم الفلسطيني كان أقوى من ترسانة عسكرية وجدت نفسها عاجزة أمام احتضان القدس أهل فلسطين وشعبها. لساعات كنا جميعا هناك، عدنا إلى القدس، تنشقنا عبقها، وهلة، ولو في حلم يقظة عابر. دخلنا القدس بقيادة الكوماندنتة شيرين، بل انتصبت كل شجرة اقتلعها الجيش الغاصب، وصعد كل بيت مهدّم من ركامه، كل قصص فلسطين اختزلت في جريمة اغتيال الصحفية التي حلمت برواية قصة شعبها.
يقول الصحفي الإسرائيلي يوسي هاريل: "لقد سقطت إسرائيل في محكمة الرأي العام العالمي". والآن، علينا أن نكمل النهوض، الذي روته شيرين وزملاؤها الصحفيون في قناة الجزيرة وغيرها، رواية صمود وتحدٍّ في كل بيت فلسطيني. لم تكن شيرين تتوقع أنها انضمت إلى رعد وضياء وكل شهيد وأسير في قيادة معركةٍ بحكم استشهادها، بمجرّد إصرارها على فضح المُحتلّ، وإيصال صوت شعبها إلى عالمٍ بدا أصمّ غير مبالٍ بصرخة فلسطين.
كيف نكمل الطريق؟ ننزف دموعا من القلب، دموع حرقة قلبٍ وروع، ففاجعتنا كبيرة، لكنها أضاءت لنا حقيقة أن كتابة روايتنا، توثيق روايتنا، ورواية كل فلسطيني وكل مناضل من أجل حرية فلسطين وتحرّرها، وضعتنا في جبهة متقدّمة، إنما كنا، حتى لو كنا بعيدين مسافاتٍ جغرافيةً عن فلسطين، لم نكتشف ذلك من جديد، فاغتيال الصهاينة حمَلة القلم والفكر ليس بجديد، فمن اغتال غسان كنفاني وماجد أبو شرار وعبد الوهاب الكيالي وكوكبة قبلهم وبعدهم، فهِمَ خطر الكلمة وخطورتها، فلا تستهينوا بكل كلمةٍ وكل صورةٍ وكل تسجيل مرئي ومسموع. ولا تقع المهمة على الصحفيين فحسب، ففي زمن الفضاء الافتراضي، يستطيع كل فردٍ أن يشتبك في معركة العدالة، فما شهدناه من صور وفيديوهات لشيرين وزملائها ومشاهد الجنازة غير المسبوقة في فلسطين، انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، ليست تعبيرا عن حبّ متدفقٍ لشيرين فحسب، بل مشاركة في إدانة الجريمة وفضحها وتحدّ لقصة القاتل، فلا مجال للشعور بالعجز، بل إن كل صورة لشيرين على صفحات "فيسبوك" وحسابات "تويتر" كانت سلاحا مشهرا في وجه عدو غاشم.
ولكن يجب أن نبدأ بالمطالبة بالعدالة لشيرين، لأنها مطالبةٌ محقةٌ، وهي مطالبة بالعدالة لكل صحفي قتله أو اعتدى عليه الجيش الصهيوني، فمنذ عام 2000، اغتال جيش الاحتلال عشرين صحفيا وجرح عشرات الصحفيين والصحفيات، فجريمة قنّاص الصباح كادت أن تودي بحياة منتج "الجزيرة"، علي السمودي، لولا أنه تحرّك مسافة ربما ملمترات، لكنها أنقذت حياته، فأصابته الرصاصة في ظهره، وهي جريمة.
المطالبة بالعدالة هي في ذاتها معركةٌ يجب أن لا نيأس من خوضها. في هذه الحالة، الأمور واضحة، ففريق "الجزيرة" لم يكن في وسط إطلاق نار بين الجيش والمقاومين، شهادات الصحفيين أكثر من كافيةٍ لإدانة حكومة الاحتلال، لكن يجب أن نتوقع سيناريوهاً قادماً يجري إخراجه في واشنطن وتل أبيب، لجعل ما حدث خطأ جندي إسرائيلي، لا أكثر، أي: إعفاء إسرائيل من جريمتها، وجرائمها السابقة واللاحقة.
فلا يكفي التأثر الآني، وإن كان عميقا، فالحملة التي بدأها الآلاف في كل مكان، وبشكل عفوي، يجب أن لا تتوقف، فغير مسموح أن تتولى إسرائيل التحقيق أو تشارك فيه، خصوصا وأن واشنطن ستعتمد على ما تعلنه إسرائيل، حتى تنقذها من ورطتها، فواشنطن ليست قلقةً على سمعة إسرائيل فحسب، وإنما على تداعيات جريمة اغتيال شيرين على الشعوب العربية، وهي التي كانت تعتقد أن عملية التطبيع قد بدأت بتجريف الوعي، بل والقضاء على القضية الفلسطينية في عقول العرب وقلوبهم. .. لذا؛ يجب أن لا نقلل من أهمية المشاعر التي عبر عنها مئات الألوف على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، فواشنطن تراقب، وتعتبرها مؤشّرا للنبض العام، وقد تكون فوجئت بالطوفان الهادر من الغضب والحب لإنسانةٍ دخلت بيوت الملايين، ويجب أن تتوقع أنّ حياة كل صحفي وصحفية في فلسطين قضية عامة وشخصية لكل الفلسطينيين وكثيرين من العرب وفي العالم، وهذا ما كشفته جريمة الاحتلال البشعة، فما كان مخفيا ومسيطرا عليه لم يعد كذلك، لأن وسائل الاتصال الاجتماعي خرقت الحواجز، ولم تعد تقتصر قصة فلسطين على العالم العربي وعلى شاشة "الجزيرة"، فتقارير شيرين وزملائها وغيرها تسافر عبر العالم الافتراضي.
ما حدث أيضا يدلّ على أن المواطن العربي ما يزال متابعا ومهتما، وأن دور الشاشات لم ينته، وهذه نقطة مهمة، فليس كل شخصٍ يعتمد على وسائل الاتصال الاجتماعي. ولذلك يصبح كل صحفي وصحفية مصدر خطر للاحتلال، فالفلسطيني أو الفلسطينية يفهم أن الصحفي يستطيع إيصال صوته، ولا يغفر لمن يحاول أن يكتم صوته، فالصوت هو السلاح الباقي، وهو ليس صوت الصحفي فقط، بل إن عمل الصحفي أن يعطي صوتا ويروي قصة كل مقاوم، وإلا لنجحت إسرائيل بتصوير كل مقاوم إرهابيا ومجرما، وهذا يزيد عداءها للصحفيين.
كانت شيرين تعمل بهدوء، لكنها رحلت بصخبٍ هزّ العالم، ويجب أن يهزّنا في العمق، ليس حزنا فقط، وإنما تأثرا بدور كل صحفي وصحفية، نراهم على الشاشات، وكثيرون ممن لا نراهم، فالدور لا يقصر على من يظهر على الشاشة، وإنما هو عملٌ مرهقٌ يشارك فيه صحفيون ومحرّرون وتقنيون عديدون من كوادر التلفزيونات والإذاعات والصحف، هم، وهن، يوثقون الحكاية كل يوم، وأحيانا كل لحظة، فتحية إلى من أمام الكاميرا وخلفها، وأنا أعرف كثيرين منهم، هزّتنا دموعهم، ودموعهن، فالصحفيون هم مجتمع وعائلة توحّدها هموم العمل وتحدياته تحت الاحتلال وتجمعها جلسات إفطار صباحي، ورحلات وأفراح وأتراح.
من أجلهم، من أجل العدالة، من أجل فلسطين، لنكافح من أجل العدالة لشيرين، ولمنع الجلاد أن يكون المحقّق والقاضي. ولنتذكّر أن التطبيع العربي الإسرائيلي عدو للعدالة والحرية، فإسرائيل تريد التطبيع حتى نصمت على جرائمها، وعلى جنايتها الكبرى بسرقة فلسطين. كانت شيرين صحفية، وحلقت إلى السماء قائدة أدخلتنا قدسا حرّة تصدح بالتكبير وأجراس الكنائس، لأن هذه هي عاصمة فلسطين.

1