أحدث الأخبار
الجمعة 26 نيسان/أبريل 2024
يا زمن الشدّة! البريطانيّون دخلوا في ديستوبيا …!!
بقلم : ندى حطيط ... 23.12.2022

قفزت بريطانيا هذه الأيّام إلى عناوين نشرات الأخبار المتلفزة بشكل مكثّف، ليس بسبب نشاط سياسيّ أو ثقافيّ أو رياضي يستحق الذكر، ولا لنقل سيرة الملوك والملكات وأمراء العائلة الحاكمة، وإنّما لنقل أخبار زمن الشّدة الذي يعيشه سكان الإمبراطوريّة العجوز المتقاعدة. ففي هذه المملكة العريقة، التي طالما كانت مثار إعجاب وحسد شعوب العالم لرفاه رفلت فيه طويلاً بالاستفادة من عوائد مغامراتها الإمبرياليّة حول الكوكب من أعلاه إلى أدناه، لم يعد ممكناً للأكثريّة الغالبة من السكان القدرة على تغطية تكاليف فواتير الخدمات العامّة من كهرباء وماء وتدفئة ومحروقات، أو ابتياع حاجاتهم الاستهلاكيّة الأساسيّة بعدما ارتفعت الأسعار بشكل جنوني في وقت التهم فيه التضخم القيمة الحقيقيّة للأجور، ولذلك انخرط المهنيّون منهم الذين تضمهم نقابات في أضخم موجة إضرابات، قد تزيح قريباً في اتساعها وتأثيرها وطولها فترة حكم رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت تاتشر عن مكانة فترة الإضرابات العماليّة الأخطر في تاريخ البلاد.
نصيحة الحكومة للمواطنين: لا تمرضوا ولا تفعلوا شيئاً خلال العطلات
على أبواب عطلة عيد الميلاد تكاد شبكة النقل العامّة التي تعتمد بشكل مكثّف على خدمات السكك الحديدية وقطارات الأنفاق تصاب بالشلل، وسيلتحق بهم الآن سائقو الحافلات في العاصمة مما يتسبب بإرباك واسع لحركة الملايين اليومية. وتتقاطع هذه مع قرار مستخدمي قوّة الحدود – التي تنفّذ أعمال التدقيق على وثائق السفر – الانسحاب من مواقعهم، مما يتوقع أن يحوّل السفر عبر المطارات الرئيسة في المملكة إلى مأساة انتظار طويلة لا سيّما إذا التحق بهم عمّال مناولة الأمتعة.
وقد أضرب أيضاً عمّال البريد الملكيّ، وسيلتحق بهم موظفو الخدمة المدنيّة داخل القطاع الحكوميّ في كل المؤسسات الرسميّة البريطانيّة من مكتب رئيس الوزراء إلى المتحف البريطانيّ وما بينهما. ويهدد محامو الادعاء بالامتناع عن تقديم مرافعاتهم القانونيّة لمحاكمة المجرمين، ومثلهم المعلمون وأساتذة الجامعات في إنكلترا الذين بدورهم قد يذهبون باتجاه عدم استئناف أعمال التدريس الاعتيادية بعد العطلات، فيما تأكد حصول ذلك في اسكتلندا.
وإلى ذلك يواجه قطاع الخدمات الصحيّة ضغوطاً غير مسبوقة لدرجة أن قطاع التمريض نظّم ولأوّل مرّة منذ تأسيس نقابة الممرضين قبل أكثر من مئة عام إضراباً بدأ بعشرة آلاف ممرض / ممرضة وسيتصاعد ليشمل مئة ألف منهم، وقد يستمر لعدة أشهر، ما يهدد بإلغاء ملايين المواعيد والعمليات الطبيّة في بلد يعاني أصلاً من أوقات انتظار طويلة للحصول على الخدمة العلاجيّة – تتجاوز حالياً السبعة أشهر لمعظم العمليات الجراحيّة -، ونقص حاد في أعداد الكوادر الطبيّة المؤهلة. وبالموازاة، بدأ المسعفون أيضاً إضراباً لهم في أجزاء كثيرة من إنكلترا، وأصبح الحصول على سيارة إسعاف بمثابة كابوس يقلق ذوي المرضى الذين قد تضطرهم ظروف مرضهم النقل العاجل للمستشفيات، لدرجة أن الحكومة حثت الجمهور على تجنّب المخاطر أثناء موسم العطلات والامتناع عن تناول الكحوليات كي لا يتسببون لأنفسهم برحلة إلى أقسام الطوارىء لا تتوافر لها سيارات إسعاف، فيما اقترح وزير الصحة ويل كوينس في حديث لل(بي.بي.سي) أنه يجب على الناس تجنب ممارسة الرياضة التي تتطلب الاحتكاك الجسدي أو غيرها مما سّماه «الأنشطة المحفوفة بالمخاطر» أثناء هذه الفترة. ويتوقع الآن أن حالات مثل الأزمات القلبيّة والسكتات الدماغيّة قد تصلها سيارة إسعاف بعد ساعة من إبلاغ رقم الخدمة مقارنة بهدف السبع دقائق، وقد ينتظر المريض في سيارة الإسعاف بعدها لسبع ساعات أحياناً قبل تأمين سرير له لدخول المستشفى. وقد أبلغ بالفعل عن ارتفاع غير مسبوق في أعداد الوفيات بسبب تأخر عمليات الإسعاف منذ بداية العام لحالي.
تزامن وتقاطع هذه الموجة الحاليّة من الإضرابات عبر مختلف القطاعات العامّة قد ينحو نحو التحوّل موضوعيّاً إلى إضراب عام، وقد يمتد سريعاً إلى القطاع الخاص أيضاً لا سيّما في الصناعات التي توظف أعداداً كبيرة من العمّال كسلاسل محلات التجزئة مثلاً.
هذا الغضب في مجتمع عرف عنه الالتزام بالعمل، وتحمّل المصاعب وشظف العيش دون شكوى ما زال في إطار نقاباته المهنيّة، لكّن الضرّ مسَّ بشكل أكثر إيلاماً تلك الطبقات المهمشة من العاملين في وظائف مؤقتة أو بعقود صفريّة والعاطلين عن العمل والمتقاعدين والمتعطلين صحيّاً واللاجئين (الشرعيين وغير الشرعيين)، كما المتورطين في تجارة الجنس والمخدرات والتهريب. وهؤلاء جميعهم لن يجدوا قنوات تعبير متعارف عليها من خلال الإضرابات المنظمّة بالقانون وقد يلجأون إلى الشارع ويتسببون بالفوضى. وبالفعل فإن الجريمة وحوادث القتل واستخدم السكاكين في تصاعد ملفت في وقت تقلصت فيه خدمات البوليس بشكل غير مسبوق في إطار سعي الحكومة لضغط النفقات العامة.
كيف وصلت الإمبراطوريّة العجوز إلى هذا الحضيض؟
هذه الديستوبيا التي استيقظ عليها البريطانيّون ولم تخطر ببال الأدباء ليست نتاج كارثة طبيعيّة أو زلزال، وانما هي نتيجة طبيعيّة ومنطقية لتراكم سياسات الحكومات البريطانيّة المتعاقبة منذ السبعينيّات، والقاضية بتبني فلسفة حرية السوق وتقليص القطاع العام. على أن خيارات الحكومات منذ الأزمة الماليّة العالميّة في 2008 تحديداً، والدّفع قدماً في الخصخصة، كما القرار السيىء (اقتصادياً على الأقل) بترك عضوية الاتحاد الأوروبيّ (أو ما تعارف على تسميته ببريكست)، وسوء إدارة جائحة كوفيد 19، وأخيراً الانخراط في معمعة الحرب الأوكرانيّة وفرض العقوبات على روسيا التي تسببت بانفجار عالميّ لأسعار الطاقة والسلع الأساسيّة والخدمات. وقد فشل حزب المحافظين المهيمن على السلطة منذ 2010 في إيصال شخصيّة واحدة إلى منصب رئيس الوزراء لديها الرؤية أو القدرة على المناورة خارج حدود السياسات الثاتشرية النيوليبراليّة، بل وتقلّب على المنصب ثلاث شخصيات خلال أقل من شهرين، أسقط الحزب نفسه إثنين منهما بفضائح (بوريس جونسون) أو فشل اقتصاديّ بأبعاد عالميّة (ليز تروس)، فيما يبدو الثالث (ريشي سوناك) مهزوزاً، وغير قادر على اجتراح حلول استثنائية، فترك الحرس القديم ليأخذ البلاد نحو رحلة تقشّف حادة أخرى فوق تلك التي بدت منذ 2010 قد تستمر لخمس سنوات على الأقل، فيما يوظّف عبقريته للبحث في طرائق (قانونيّة) لتجريم الإضرابات العماليّة، ويجهّز قوات الجيش والبوليس للتّدخل حال وقوع اضطرابات.
الأفق؟ لا أفق ..
لقد عانت كلّ قوة عاملة في مختلف قطاعات الاقتصاد البريطانيّ من مصاعب خاصة بقطاعاتها، لكن ظروف الأجور التي تتناقص قيمتها الحقيقيّة بمرور الساعة، وغياب الاستثمار طويل الأجل في تطوير وتحسين الخدمات العامة وتركها للخصخصة قصيرة النظر قد أوصلت تلك القطاعات جميعها إلى عنق الزجاجة الحالي في وقت واحد. وبينما الحكومة تصرّ إلى الآن على عدم الخضوع لمطالب المضربين، والسير قدماً في سياسات تقشف إضافيّة، فإن كل شيء يشير إلى مزيد من تعقّد الأزمة بالنظر إلى عجز حزب المحافظين على تقديم حلول اقتصاديّة فاعلة للتعامل مع الركود الاقتصادي والاجتماعي طويل الأمد.
ولا تبدو كذلك العوامل الخارجيّة التي ساهمت في توسيع نطاق الأزمة الحاليّة (بريكست والحرب في أوكرانيا) بوارد الحلحلة في وقت قريب، بل هي مرشحة لمزيد من التّفاقم، ترافقاً مع توجه الاقتصادات الكبرى إلى فرض إجراءات حمائيّة ستقلص من قدرة بريطانيا على المنافسة في معظم القطاعات المنتجة.
ولذلك فإن لا أحد متفائل بقدرة المملكة على التعافي في وقت قريب لا اقتصادياً ولا اجتماعياً. إذ بدون تغيير سياسيّ حقيقي ستظل الحكومات تعيد إنتاج الأزمة وتؤجل موعد الكارثة، وسيجد البريطانيّون أن دولتهم العتيدة أخذتهم إلى الجوع والبرد ونقص في الثمرات والأنفس. إنّه زمن الشدّة في بلاد ما عرفت إلا الرخاء على حساب الآخرين.

1