أحدث الأخبار
السبت 27 نيسان/أبريل 2024
في الأعياد تتفجَّر الصراعات!!
بقلم : سهيل كيوان ... 28.09.2023

تعتبر الأعياد لدى أكثر شعوب الأرض مناسبات للفرح، تتخلّلها تصفية القلوب، والزيارات المتبادلة مع الأقرباء والأصدقاء والجيران وزملاء العمل، ومشاركة المختلف في عقيدته فرحتَه، تأكيداً على وحدة أبناء الوطن والشعب، حيث توجد طوائف أو قوميات مختلفة.
وهو ما عبَّر عنه العرب في شعار «الدين لله والوطن للجميع»، على لسان سعد زغلول عام 1919 وردَّدها بعده كثيرون من القادة والشعوب. وهذا ما عبَّرت عنه الأنظمة الديمقراطية باحترام معتقدات الآخرين ومناسباتهم الدينية، حيث إنّ هناك دستوراً للبلاد ينضوي تحته الجميع بمساواة ومعايير واحدة، ويحرص على توفير الأمن للمحتفلين في مناسباتهم وأعيادهم. إلا أنّ هذه المناسبات تتحوَّل في مناطق الصِّراع إلى فرصٍ لتفريغ شحنات الغضب، تصل أحياناً إلى مواجهات عنيفة ووقوع ضحايا.
في فلسطين تُستغل المناسبات الدينية اليهودية لاستفزاز المسلمين، من خلال اقتحام باحات المسجد الأقصى ومواقع أخرى يقدسّونها، فتتحوّل المناسبات الدينية إلى صدامات. قبيل حلول شهر رمضان المبارك، تبدأ استعدادات سلطات الاحتلال وإعداد الأجواء وشحنها من خلال التحريض والحديث عن استعدادات الشُّرطة لقمع «المشاغبين»، والتّلويح بالعصا للمحتفلين بالشهر. يتحوّل الشهر الكريم شهر العبادة إلى مناسبة للصدامات مع قوات الاحتلال، التي تحاول منع المسلمين من الوصول إلى مقدساتهم، في محاولة دؤوبة لكسر شوكتهم ولتكريس السيادة الإسرائيلية على القدس ومواقعها المقدسة. من جهة أخرى لا يكتمل الفرح في رمضان لدى كثير من المسلمين، إلا بالتعبير عن رفض الاحتلال، كجزءٍ من العبادة، ويرفضُ هذا البعض طأطأة الرؤوس أمام القمع الاحتلالي، وأمام تدنيس مقدساتهم، وهكذا يتحوّل الشَّهر الفضيل إلى شهر توتّر وصدامات، إلى جانب العبادة. في العقود الأولى لإقامة دولة إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني كان التيار الديني ضعيفا، كانت الدولة الجديدة مُصنّفة كدولة اشتراكية ديمقراطية، وعلاقاتها ممتازة مع دول المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، وكانت العلمانية مهيمنة على جميع مجالات الحياة، خصوصاً في التعاونيات (الكيبوتسات) ذات الطابع الاشتراكي وحتى الشّيوعي. الحياة والتنقلات يوم السَّبت كانت عادية، باستثناء أحياء قليلة يسكنها أصوليون مثل حي مئة شعاريم في القدس، تُمنع السيارات من دخوله في السّبت، وفي شوارع قليلة أخرى في بعض المدن، وعدا ذلك فحركة السّير كانت متاحة بلا مشاكل، وكان الأمر يبدو طبيعياً.
**باتت الأعياد مناسبات لتفجير البغضاء والكراهية بين العرب واليهود، وبين اليهود أنفسهم واتجاهاتهم المختلفة وذلك بفضل الاحتلال والتعصُّب والشوفينية بكل أشكالها
كذلك الأمر في يوم الغفران، كان التنقل بين المدن شبه عادي في المركبات الخاصة، كان معروفا أن معظم السيارات على الشوارع في هذا اليوم سيارات عربية، ولكن كنت تشاهد يهودا يقودون سياراتهم في هذا اليوم. ولم تكن مشكلة في أن تقطع البلاد طولا وعرضاً في سيارتك، من دون أن تواجه مشكلة تذكر.
كذلك كانت المطاعم في الأحياء العربية في المدن المختلطة مثل، عكا وحيفا والرملة واللد ويافا تعجُّ باليهود في عيد الفصح العبري، الذي يمتد لأسبوع، والذي يُمنع فيه تناول الخُبز الخمير، كانت المطاعم والمخابز العربية تعجُّ باليهود غير الملتزمين. كان تمثيل اليهود المتدينين في الكنيست ضئيلا، وكل تياراتهم الدينية كانت تتراوح بين عشرة نواب وخمسة عشر نائبا. بدأ التحول بعد استلام الليكود للسُّلطة عام 1977 حيث بدأت الأحزاب الدينية الأصولية والدّينية الصهيونية بالتزايد، إلا أن الزيادة بدت أوضح بعد اتفاقات أوسلو، حيث صار يتراوح عدد النواب المتدينين بين خمسةٍ وعشرين وحتى ثلاثين نائبا من مختلف التيارات الدينية، إضافة إلى أن الليكود اليميني ازداد تطرّفا بقيادة نتنياهو الذي ربط مصيره السّياسي بالأحزاب الدينية الأصولية والقومية، فحكومته الحالية تعتمد على 34 نائباً من حزبه الليكود بتحالف مع 34 نائباً من مختلف التيارات الدينية.
لقد باتت المظاهر الدينية أكثر انتشاراً وحضوراً في الحيِّز العام وفي تسارع كبير.
انتشرت المدارس الدينية اليهودية أكثر وأكثر في الضفة الغربية، ومنطقة القدس وفي مدن الدّاخل، وظهرت فضائيات دينية تتخللها خُطب الرَّبانيم والأناشيد الدينية وتعليم التراث الديني اليهودي، إلى جانب قنوات إذاعية تبث القصص الدينية الغيبية في الليل والنهار، ومعجزات قام بها الرّبانيم. ليس مبالغاً فيه تعبير البعض أنّ إسرائيل في اتجاه إلى أن تكون إيران الثانية، أي دولة شريعة.
المواصلات العامة متوقّفة في السبت، أما في الأيام العادية ففي كثير من الحالات طُلب من النساء الجلوس في القسم الخلفي من الحافلات، بل تعرضت نساء سائقات لاعتداءات من قبل متدينين رفضوا أن يسافروا في حافلة تقودها امرأة، كذلك بعض السائقين رفضوا نقل فتيات أو نساء رأوا في أن لباسهن غير محتشم، هنالك عشرات الشكاوى عن مثل هذه الحوادث التي باتت شبه يومية، إضافة إلى أكثر من عشرين شاطئا للسباحة مخصصة للمتدينين، يؤمُّها الرجال منهم في بعض الأيام والنساء المتديّنات في أيّام أخرى. في يوم الغفران هذا الأسبوع تعرّضت تل أبيب، قلعة العلمانية الإسرائيلية، المدينة التي لا تنام، العاصمة الاقتصادية ومدينة اللهو والتعدّدية، بما في ذلك الجِنسية، إلى هجمة أصولية.
فقد حاولت مجموعات دينية قومية أن تفرض نفسها على مركز تل أبيب، من خلال إقامة صلوات استعراضية تفصل بين الرجال والنساء، قاد هذه الحملة حركة الصهيونية الدينية التي يتزعمها بن غفير. وقد اعتبر العلمانيون في تل أبيب أنَّ هذا اعتداء على مدينتهم، وأن الخطر قد وصلهم، واتّهموا رئيس البلدية بالتقصير في مواجهة هؤلاء، لأنّهم إذا نجحوا في هذا اليوم، ولن يطول الأمر حتى يفرضوا الإغلاق التام ويمنعوا التنّقل في المواصلات الخاصة والعامة، ويغلقوا أماكن اللهو والمطاعم في أيام السبت، باختصار فرض نهج دولة شريعة يهودية.
ما يثير حفيظة العلمانيين هو أنّهم يعتبرون أنفسّهم عماد الدولة، فمنهم نشأت وتنشأ القيادات العسكرية، وهذا ميراث ينقلونه إلى أبنائهم وبناتهم المُجنَّدين، بينما يذهب غالبية أبناء الحركات الدينية الأصولية إلى المدارس الدينية، ولا يخدمون في الجيش، ويعتبرون أن التوراة هي التي تحمي إسرائيل وليس الجيش، ومختلف حكومات إسرائيل تقدم لهم الأموال والرواتب، وتزداد الحاجة إليهم لدخول الائتلاف. وقد حوَّل وزير المالية في هذه الحكومة ميزانيات كانت مخصَّصة للبلدات العربية إلى المستوطنات وإلى المؤسَّسات الدينية.
يشعر العلمانيون بأنَّهم يخسرون الدَّولة، وأن المتدينين يقطفون الثمار من غير جهد، وهذا لا ينعكس فقط على الحياة اليومية، بل على السياسة العامة. فهم يرون أن الحركات الدينية التي انجر وراءها نتنياهو ستؤدي إلى تحوّل الدولة إلى ثنائية القومية بعد ضمّ الضفة الغربية إليها. ولهذا خرجوا إلى مواجهة المصلين في قلب تل أبيب، رافضين الفصل بين الرجال والنساء، الأمر الذي أدى إلى مواجهات بالضرب والرَّفس واللكم بين الطرفين. بعكس ما يُفترض أن تفعله هذه المناسبات من فرح ومناسبة للتسامح، فقد باتت مناسبة لتفجير البغضاء والكراهية بين العرب واليهود وبين اليهود أنفسهم واتجاهاتهم المختلفة وذلك بفضل الاحتلال والتعصُّب والشوفينية بكل أشكالها.

1