أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
موسم قتل النساء!!
بقلم : إبراهيم نصر الله  ... 20.10.2016

في شمال الأردن ووسطه وجنوبه وشرقه وغربه، وقعت ست جرائم قتل بحق النساء خلال النصف الأول من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري.
ست جرائم قتل في نصف شهر، للآباء نصيب منها، للإخوة، للأعمام، للأزواج وحتى لأقارب من الدرجة الثانية، ولهؤلاء أن يطلقوا الرصاص، بل أن يستخدموا الرشاشات، أن يطعنوا، أن يشنقوا، وأن يَضربوا حتى الموت، وأن يحرقوا أيضا!
وإذا ما تجرأ المرء وحدّد مواقع هذه الجرائم على الخارطة، فستكون هناك ست وعشرون نقطة حمراء، أو ست وعشرون بقعة دم، خلال عشرة أشهر فقط من هذا العام. مشهد مرعب لتلك الأماكن التي تتفتح فيها زهور الموت السوداء.
.. والجرائم ترتكب في الشارع، في البيت، قرب جدول ماء، في حرم جامعي، فمسارح الدم جاهزة لكي يصعدها القتلة، دون أن يكونوا مضطرين لحجز مواعيد لصعودهم، فكل شيء مهيأ لهم: قانون رخو، وحاضنة اجتماعية، ومتفرجون أيضا.
كلُّ شيء قد أُعِدَّ تماما:
الممراتُ السِّريةُ للقاتل والمدافنُ الجماعيةُ للضحايا.
يقول أحد شهود هذه الجرائم: إن القاتل ترجل من السيارة، تاركا بابها مفتوحا خلفه، ركض باتجاه المرأة، وطعنها على الرصيف، والشاب الذي يرافقها يحاول الدفاع دون جدوى. القاتل يعود إلى السيارة بسكين يقطر دما، ثم فجأة يرجع ثانية، ويقتل الشاب، ويواصل طعن المرأة، وهناك تفاصيل أخرى، لا أظن أن باستطاعة كاتب هذا المقال الحديث عنها؛ لأنها تبدو استباقية للتحقيق في حكاية هذين الموتين المُعلنين.
أما في الشرفات المُطلّة، فلم يكن هناك سوى كاميرات الهواتف المحمولة، بما يذكر المرء بما حدث في رواية (شرفة العار)، لكن الشرفات تكاثرت هنا، وتعززت أعين الشهود المغلقة على اتساعها بأعين عدسات هواتفهم المحمولة، في حين، وكما قال نزار قباني:
(حتى كلاب الحي لم تنبح.. ولم تُطلق (الجاني) رصاصة بندقية) حتى في الهواء، ولو لبث الرعب فيه، من رصاصات تلك البنادق التي لا تستخدم بكثرة إلا في قتل الناس في الأعراس، ومهرجانات الفوز في الانتخابات، ونتائج الثانوية العامة.
كل هذا يعيدنا إلى المربع الأول، المتمثل في مجالس النواب الفارطة، حسب تعبير إخوتنا التونسيين، إذ مع كل جريمة تحدث يحس المرء أن السكين التي استخدمت في القتل، قد تم شحذها على درجات مبنى مجلس النواب ومقاعده، لأن كثيرين من أعضائه رفضوا لسنوات وسنوات اتخاذ مواقف حازمة لتغيير القوانين، فيما يتعلق بهذه الجرائم، إذ بعد خروج هؤلاء من المجلس بربطات عنقهم وملابسهم الحديثة، يتدرّعون، ويمتشقون رماحهم وسيوفهم، كأبناء الجاهلية الأولى في الطريق إلى منازلهم، وكأنهم ذاهبون لارتكاب هذه الجرائم أيضا.
هل نأمل أن يكون مجلس النواب المقبل، الذي لم ينعقد بعد، قادرا على تعديل القوانين لصالح الأحياء، قبل أن يتحوّلوا إلى ضحايا؟ هل يمكن أن يكون أكثر جرأة في وقوفه ضد القتلة والقوى الاجتماعية التي تصفّق لهؤلاء القتلة؟ هذا ما نرجوه.
أثناء كتابتي لرواية (شرفة العار)، التي استغرقت شهورا طويلة، كان أكثر ما يخيفني هو قراءة الجرائد، وقد حدث مرتين، أن كنت انتهيت من كتابة فصل ما عن مشهد قتل، وحين أفتح الجريدة أفاجأ بجريمة قتل مماثلة، إلى ذلك الحد الذي جعلني أخشى الكتابة، وفي كل مرة كنت أعيد كتابة المشهد من جديد؛ كي لا يكون مطابقا لتفاصيل جريمة ارتكبت بعد كتابته. لقد كان رعب الموت المخيم قادرا على هزيمة الخيال، في عمل يتناول هذه الظاهرة بعيدا عن الخبر الخاطف الذي يمرّ بسرعة، الخبر الذي تتحول الضحية بعده إلى رقم في نهاية العام، ضمن الإحصائيات التي تنشر حول عدد من قُتلن في هذا البلد أو ذاك.
هذه الضحية ليست رقما، ويجب ألّا نسمح أبدا بأن تكون كذلك.
ورغم هذا كله، ليس هناك ما يكفي من حناجرَ لإطلاق تلك الصرخةِ الغاليةِ العالية، التي يتمُّ استئصالهُا يوما بعد آخر من كينونة هذا الكائن الأغرب: الإنسان! صرخة: لا. في عالم يبتلع فيه البشر حناجرهم كما يبتلعون إهاناتِهم وسَحْقَهم والتطاولَ على إنسانيتهم بكل ما اخترعه الموتُ من أشكال.
لقد قلت مرة: إن مقتل امرأة أو فتاة واحدة، ارتفعتْ في الحب، ولا أقول وقعتْ في الحب، كفيل بأن يعيد ترتيب كتاباتنا وأحلامنا وحقيقة وجودنا، وكفيل بأن يدفعنا إلى إعادةِ حساباتِنا والنظرِ إلى موقع أرجُلِنا ورؤوسِنا، إن بقي لنا رؤوس! لكي لا نكون في صفِّ القتلةِ، ومن يحرسون القتلةَ، ومن يُمهّدون لهم الدروب لارتكاب جرائمهم.
لستُ على قناعة بأننا نعاني من شلل عام في الضمير تجاه هذه القضية، وتجاه كلِّ ما يَمَسُّنا من قضايا كثيرة، لستُ على قناعة من أننا لا نستطيع أن نُغيِّر، وأن نُعيد الاستقامةَ لعنقِ تاريخنا الرُّوحيِّ المعوجّ، المثقلِ بقلادة ثقيلة من الهزائم واليأس والتواطؤ والصمت، القلادةِ الأكثر إحكاما من أيّ حبل مشنقة يمكن أن يلتفَّ على عنق. ولكن، باستمرار هذه الجرائم يحس المرء بأن هناك، حتى الآن، إقرارا جمعيّا بالقبول، سواء بالتستر أو بتغيير الموضوع باتجاه مشكلة أكثرَ صخبا، أو عمومية، أو وطنية، للتعاطف معها، لكي نتخفّف من إحساسنا بكل ذلك العار الذي يجلِّلُنا ونحن نتغاضى عمّـا تسمى (جرائم الشرف)، باعتبارها قضية تأتي في المرتبة العاشرة بعد قضايانا الكبرى التي نخذلها أيضا!
وبعد:
ركضتْ حولَنا الأرصفةْ
وتفجَّرَ قلبُ الغمامْ
في الشوارع ألفُ قتيـل
وكلُّ الشّهود رخامْ!

1