أحدث الأخبار
السبت 20 نيسان/أبريل 2024
لماذا تنهار الدول بعد سقوط الديكتاتوريات!؟
بقلم : د.فيصل القاسم  ... 03.02.2013

تشتهر الديكتاتوريات عادة بكثرة الشعارات التي تتغنى بالوحدة الوطنية، بحيث لا يخلو جدار في البلاد من اللوحات العملاقة التي تؤكد على لحمة الشعب وتعاضده وتكاتفه ووحدته، بينما الواقع على الأرض مختلف مائة وثمانين درجة. فلو كان هناك وحدة وطنية حقيقية لما احتاج أي بلد ليكتب شعاراتها حتى على جدران دورات المياه. بعبارة أخرى فإن الأنظمة الديكتاتورية تستعيض عن الواقع بشعارات مغايرة تماماً لتخلق حقيقة زائفة لا تمت للواقع بصلة.
وغالباً ما يعلم الطواغيت ألا وجود حقيقياً للوحدة الوطنية والانسجام الوطني في بلادهم، لكن ليس لأن الشعب لا يريد ذلك، بل لأن الديكتاتوريات غالباً ما تقوم على مكون وحيد من مكونات المجتمع قد يكون حزباً فاشياً، أو قبيلة أو طائفة أو جماعة يستخدمها الديكتاتور لإخضاع المجتمع، مما يؤسس لدولة متماسكة ظاهرياً بقوة الحديد والنار والبطش والتسلط، لكنها متصارعة ومتنافرة ومتباغضة في العمق وهشة جداً، وقابلة للانهيار والتفتت عند أول اهتزاز للأنظمة الديكتاتورية.
على عكس الأنظمة الديمقراطية التي تقوم على المواطنة وطمس الانتماءات الضيقة كالطائفية والقبلية والعشائرية والعرقية، تقوم الديكتاتوريات على انتماءات ما قبل الدولة. فهذا الديكتاتور يبني نظامه على أساس قبلي، وذاك على أساس عشائري، وآخر على نظام طائفي، أو مناطقي، أو حزبي فاشي. وغالباً ما تستأثر جماعة أو طائفة معينة بالسلطة بكل أركانها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، بينما تكون بقية مكونات المجتمع مجرد توابع أو كومبارس تعاني الظلم والغبن والاضطهاد، لكنها لا تستطيع أن تبوح بمظالمها خوفاً من بطش الديكتاتوريات، لهذا تكظم غيظها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وبمجرد أن تبدأ قبضة الطغاة تضعف شيئاً فشيئاً تكون الجماعات المهمشة بالمرصاد للثأر والانتقام واستعادة حقوقها المهضومة من الجماعة التي استأثرت بالبلاد على مدى عقود من التسلط والطغيان.
لاحظنا قبل سنوات كيف اهتزت الوحدة الوطنية المزعومة في بعض البلدان بمجرد سقوط طغاتها؟ لقد تفاخر بعض الطواغيت في الكتلة الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي البائد لعقود ببناء دول ومجتمعات متماسكة وقوية، لكن تلك المجتمعات كانت في واقع الأمر في غاية الهشاشة والضعف، لأنها لم تكن مبنية على أسس صحية، بل كانت مفروضة من فوق بالحديد والنار وكلاب الصيد. صحيح أن الديكتاتوريات الشيوعية لم تكن مبنية على أسس طائفية وقبلية، لكنها كانت، رغم، تشدقها بالشيوعية، قائمة على أسس سلطوية وحزبية ومناطقية وقومية فاشية لا تقل سوءاً وهشاشة عن الديكتاتوريات القبلية والطائفية. لاحظنا كيف تفتتت يوغسلافيا السابقة إلى دويلات متناحرة بمجرد موت زعيمها جوزيف بروس تيتو. ولاحظنا كيف تم تقسيم تشيكوسلوفاكيا. وحدث ولا حرج عن انهيار الاتحاد السوفيتي نفسه واندثاره إلى دول. لماذا؟ لأن الديكتاتوريات لم تقم على المواطنة الحقيقية، بل على تسلط حزبي وسلطوي وعسكري وأمني على بقية مكونات البلاد. وبمجرد أن ضعفت الجماعة المسيطرة، هبت الجماعات الأخرى للتعبير عن نفسها وحتى الانفصال عنها، هذا إذا لم تلجأ إلى الانتقام الشنيع من سنوات الظلم والإقصاء والتهميش كما حدث وربما يحدث في بعض بلدان الربيع العربي.
يحاول بعض أشباه المثقفين ومناصري الطواغيت الآن مثلاً أن يعزوا التخبط والتناحر الحاصل في بعض بلدان الربيع العربي إلى الثورات التي، برأيهم، تقف وراء الصراعات التي تحصل في ليبيا مثلاً. وهذه طبعاً تهمة باطلة من رأسها حتى إخمص قدميها، فما يحصل من تنازع قبلي أو طائفي أو مناطقي أو مذهبي في بعض البلدان ليس سببه الثورات بأي حال من الأحوال، بل الأنظمة الساقطة والمتساقطة التي بنت مجتمعاتها على التمييز المذهبي والقبلي والعشائري والطائفي والقومي والحزبي البغيض، ولم تعمل قط على بناء دولة المواطنة الحقيقية التي تمحو القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية والمناطقية. هل كانت بعض القبائل أو الطوائف في بعض دول الربيع العربي مثلاً أن تنتقم من أخرى لولا أن الأخيرة مثلاً كانت سنداً لهذا الطاغية الساقط أو ذاك؟ إن الجماعات التي تتعرض الآن للانتقام، أو قد تتعرض لاحقاً هي ضحية سياسات الأنظمة الديكتاتورية التي لم تستثمر في المواطنة، بل في القبلية والمذهبية والطائفية والعشائرية البغيضة، ففضلت جماعة على أخرى وأبرزتها سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً دون أن تدري أن تلك الجماعات ستتعرض بعد أن تضعف قبضة رعاتها إلى الانتقام، مما سيؤدي بالنتيجة إلى حروب أهلية لا تبقي ولا تذر، هذا إن لم تقد إلى تقسيم البلاد إلى دويلات على أسس قبلية وعشائرية وطائفية ومذهبية وعرقية.
لكن المطلوب الآن بعد الربيع العربي أن تدفن الشعوب الأحقاد والنزاعات الداخلية التي غذّاها الطواغيت على مدى عقود، وأن تدمل ضغائنها التي ولّدتها الديكتاتوريات الحقيرة. لا فائدة أبداً من الانتقام والقتل على الهوية، فهذا سيسعد الطواغيت الساقطين والمتساقطين الذين يكونون بذلك قد انتقموا من بلادهم مرتين، مرة عندما حكموها على أسس قبلية وطائفية وعرقية، ومرة عندما تركوها تتناحر فيما بينها على نفس الأسس بعد نفوقهم. حذار من ذلك! وليعلم الغالبون والمغلوبون في بلاد الربيع العربي من أنهم جميعاً ضحايا الديكتاتورية، فحتى الجماعات التي سادت أيام الطغيان هي ضحية ومجرد مطية استخدمها الطغاة لأغراضهم التسلطية الطغيانية الخاصة، وليس من أجل عيون تلك الجماعات. وهذا ما يجب أن تعرفه الجماعات المنتصرة هنا وهناك. وفيما لو لجأت الجماعات الجديدة إلى الانتقام والثأر من الجماعات التي كان يتاجر بها الطواغيت، ويستقوون بها، فهذا سيجعل من الأنظمة الجديدة مجرد نسخة كربونية بائسة من الأنظمة الساقطة والمتساقطة. لقد عانى الكثير من بلداننا لعقود من التسلط وغياب دولة المواطنة، لهذا فإن أي اجترار للأساليب التسلطية والإقصائية القديمة سيجعل الجميع يرددون المثل الشعبي الشهير: وكأنك يا بو زيد ما غزيت!

1