أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
«هندسة» الانتخابات الفلسطينية!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 11.02.2013

اتفقت القيادات الفلسطينية في القاهرة مؤخراً على تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات فلسطينية، بحيث تبدأ إجراءات التنفيذ، كما أعلن بإصدار مراسيم رئاسية تحدد الآليات والمواعيد، وهو اتفاق يُرحب به بطبيعة الحال ويُرجى له مصير أفضل من الاتفاقات التي سبقته. وتُناقش السطور التالية مسألة الانتخابات الفلسطينية، وضرورة التأمل في "كيفية وآلية" القيام بها، وتدعو إلى "هندستها" مسبقاً حتى لا تأتي بنتيجة تعيد الأمور إلى المربع الأول. وابتداءً يتوجب التأكيد على فكرة أساسية وهي أن المحافظة على الانتخابات الدورية في أي نظام سياسي هي إحدى علامات سلامة وصحة ذلك النظام، بل وأساس ديمقراطيته. والديمقراطية هي أفضل "آلية" توصلت إليها المجتمعات الحديثة كي تتخلى عن منطق الاحتكام إلى القوة لفض الصراعات والتنافسات الداخلية. وهي مرة أخرى مجرد "آلية" وليست أداة سحرية لحل المشكلات والمعضلات التي تواجه المجتمعات. وهذه نقطة أساسية في فهم الديمقراطية (والانتخابات أيضاً)، ذلك أن كثيراً من الفهم السائد للديمقراطية وخاصة في مجتمعات الانتقال الديمقراطي، أو مجتمعات الاستبداد، يخلع على الديمقراطية إمكانيات لا تدعيها. فتحقق الديمقراطية وفقاً للتصور التخيلي عند البعض سيجلب حلولاً سريعة وقاطعة لكل المعضلات ودفعة واحدة: الفقر، البطالة، الفساد، العدالة الاجتماعية، مواجهة التدخلات الخارجية... الخ. وهي بهذا تتحول إلى "برنامج سياسي" أو أيديولوجية مطلوب منها تحقيق قائمة طويلة من المطالب التي تراكمت في عهود وعقود الاستبداد المنقضية.
وواقع الأمر أن وظيفة الديمقراطية هي غير ذلك، ولا تتجاوز توفير الأجواء الصحية والسلمية للبرامج السياسية المختلفة كي تتنافس فيما بينها وتصل إلى السلطة. ووقتئذ، أي حال تسلم الفائز منها السلطة، يصبح مطلوباً منه تطبيق البرنامج السياسي الذي يريد من خلاله معالجة المعضلات التي تواجه المجتمع. وفي هذه المرحلة، أي مرحلة ما بعد الانتخابات، يتحول دور الديمقراطية إلى تعزيز المحاسبة وترسيخ مجتمع الشفافية وإسناد القضاء المستقل والإعلام الحر بهدف محاصرة السلطة بالرقابة الدائمة وقطع الطريق على أي سوء استغلال للسلطة. ويحدث ذلك في سياق سيادي دستوري ومستقل وضمن سيرورات سياسية طبيعية، وذلك كله مختلف عن الوضع الفلسطيني.
فلسطينياً، تتم الانتخابات تحت سقف الاحتلال الإسرائيلي وفي غياب سيادة تامة، وفي ظرف تاريخي لا يزال الشعب الفلسطيني يناضل فيه من أجل التحرير والحرية والاستقلال. وبهذا فإن "المشروع الديمقراطي" في فلسطين يواجه معضلات بنيوية هائلة لا يواجهها ذات المشروع في البلدان الأخرى التي تمر بعمليات انتقال ديمقراطي اعتيادية. ولا يعني ذلك بأي حال التسويغ لإدارة للديمقراطية والعملية الانتخابية في فلسطين، إذ على رغم كل المعوقات الناشئة عن الوضع غير الطبيعي تبقى ممارسة "نصف ديمقراطية" أفضل ألف مرة من غيابها كاملة. ولكن الوضع غير العادي يستلزم مقاربة مختلفة وغير عادية للديمقراطية وللانتخابات التي هي مكونها الأساسي.
لا يتحرك الفلسطينيون في فضاء حر يستطيعون فيه ممارسة حرية الانتخابات وتخويل صندوق الانتخابات للقيام بحسم الصراع والتنافس السياسي الداخلي بطريقة طبيعية كما يحدث في أي وضع عادي آخر يتسم بالسيادة والاستقلال. العالم كله يقف على أطراف أصابعه إذا نظمت انتخابات فلسطينية، وكل طرف يستعد للانقضاض على النتيجة: إسرائيل، الدول الإقليمية، الولايات المتحدة، أوروبا، الأمم المتحدة، وهكذا. يصبح "صندوق الانتخابات الفلسطيني" كأنه صندوق عجائب، يخضع للمراقبة الدولية ونتيجته تؤثر في معادلات وسياسات وقد تقلب أموراً كثيرة رأساً على عقب.
وما زالت الشروط البنيوية المسيطرة على الوضع الفلسطيني هي ذاتها: احتلال إسرائيل والتغول الدائم لغطرستها، وتهديدات الولايات المتحدة، وانحياز الغرب، والضعف العربي، إضافة إلى غياب السيادة الفلسطينية والإرادة الحرة التي توفر للفائز بالانتخابات المناخ الصحي والحر لتطبيق برنامجه السياسي. وفي نفس الوقت هناك حاجة فلسطينية ماسة للانتخابات لأن الشرعية السياسية للوضع القائم سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة قد تقلصت إن لم نقل انتهت. وفترة رئاسة "أبو مازن" انتهت منذ أمد، وفترة "حماس" انتهت هي الأخرى، وبالتالي هناك ضرورة ملحة لشرعية جديدة. ولكن الخطورة هنا أن "صندوق الانتخابات الفلسطيني" قد يأتي بنتيجة تعيد تأزيم الأمور (نظراً للمعضلات البنيوية التي ذكرت) في نفس الوقت الذي يؤسس فيه لشرعية جديدة. بمعنى آخر، ماذا لو فازت "حماس" مرة أخرى في الانتخابات، وبقيت مسيطرة على قطاع غزة، فما الذي سيختلف؟ وماذا لو فازت "فتح" في قطاع غزة، هل ستتخلى "حماس" عن بنيتها الأمنية وسيطرتها هناك؟
كيف نعمل إذن على التمسك بالممارسة الانتخابية التي تمنح شرعية للسلطة القائمة، وتجذر الخيار الديمقراطي ولكن في نفس الوقت نمنع الانتخابات من توريطنا في مأزق جديد؟ بعض الأفكار المطروحة فلسطينياً تقول إن السبيل إلى ذلك يتمثل في الاتفاق المُسبق بين القوى المتنافسة، وتحديداً "فتح" و"حماس"، على مبدأ المشاركة وليس المغالبة بعد الانتخابات، أي أن يكون في جوهر اتفاق المصالحة توافق على أن سلطة وحكومة ما بعد الانتخابات ستكون سلطة وحكومة ائتلافية تضم كل الأطراف ولا ينفرد فيها فصيل لوحده حتى لو فاز بالأغلبية. وهذه فكرة معقولة تحاول تدجين النتيجة الانتخابية مُسبقاً. وجانب الضعف الواضح في هذه الفكرة يتمثل في إمكانية عدم الالتزام بها بعد الانتخابات في حال اكتسح أحد الأطراف الانتخابات وأخذته نشوة النصر، أو فشلت مفاوضات تشكيل حكومة ائتلافية، أو تطورت ظروف وضغوط خارجية تعيق تشكيل الائتلاف الحكومي المتفق عليه.
والخيار الآخر الذي تطرحه هذه السطور للنقاش يبنى على فكرة التحالف الائتلافي السابقة ويتمثل في "هندسة" العملية الانتخابية والسيطرة على نتيجتها مسبقاً حتى لا تنفلت بأي اتجاه غير ائتلافي. ويتم ذلك عن طريق خوض الانتخابات بقائمة وطنية موحدة عمودها الفقري "فتح" و"حماس" يتم الاتفاق عليها عبر الحوار والنقاش المُسبق، وتوزيع الأحجام والنسب. وإذا اتفقت الحركتان على قائمة موحدة وبرنامج سياسي مرحلي يقوم على توافقات الحد الأدنى فإن نتيجة الانتخابات لن تحمل أي مفاجأة إذ ستفوز بها "قائمة الوحدة الوطنية". والاتفاق المسبق على مثل هذه القائمة (وحتى على الحكومة الائتلافية اللاحقة) سيوفر الوقت الكافي لدراسة كل عناصر المعادلة السياسية الداخلية والإقليمية وردود الفعل المحتملة من كل الأطراف، والاستعداد لها والالتفاف عليها، بحيث تتفادى أي مطب مستقبلي سواء من المقاطعة الدولية، أو عدم الاعتراف، أو سوى ذلك. وجانب الضعف الأهم في مثل هذه الفكرة أنه يفرغ العملية الانتخابية والديمقراطية من جوهرها التنافسي، وربما يعود بالسياسة الفلسطينية إلى ممارسة "المحاصصة"، وهو جانب يجب الإقرار به. ولكن في نفس الوقت توفر علينا هذه الفكرة تلافي التورط في مخرجات انتخابية قد تعيد تأزيم الوضع بدل أن تقدم حلولاً له. والانتخابات الديمقراطية الحرة التنافسية هي النموذج الأساسي والصحيح، ولكن اشتراطاتها في الحالة الفلسطينية غائبة. وغياب الاشتراطات لا يعني تفادي الانتخابات والتحول الديمقراطي لأن ذلك معناه الاستبداد والسلطوية. وثمة "منزلة بين المنزلتين" هي "هندسة الانتخابات" للاستفادة من شرعيتها، ولكن من دون المغامرة بانفلات نتيجتها في أي اتجاه تأزيمي. إنه حل "نصف ديمقراطي" لكنه يتناسب مع الوضع "نصف السيادي" الذي نحيا فيه.

1