أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
«حماس» وطلبنة غزة!!
بقلم : د.خالد الحروب  ... 13.05.2013

ليس من حق "حماس" ولا أي جماعة إسلامية أو غير إسلامية أن تتحكم في سلوكيات المجتمع وحريات الأفراد وتتجبر فيها بالقوة والقانون طالما أن تلك السلوكيات والحريات لا تعتدي على حقوق الآخرين. ما تقوم به "حماس" في غزة، ويناظره هوس الأحزاب الإسلاموية الأخرى بالسلوكيات الفردية وأسلمة وطلبنة مجتمعاتها، يدلل على أمور كثيرة جديرة بالنقاش والكشف والنقض. في الأشهر القليلة الماضية تسارعت وتائر وتوترات الطلبنة في قطاع غزة بشكل غريب، وأعادت الناس إلى المربع الأول من زمن حكم "حماس" للقطاع عندما شعر الناس بضغط المناخ الطالباني يهبط فجأة على حياتهم وحرياتهم الفردية. بعدها تعقلنت "حماس" وتراجعت بعض الشيء عن تعليمات وقوانين أثارت السخرية مثل قانون منع المرأة من تدخين الأرجيلة وسؤال كل امرأة ورجل في أي مكان عام عن إثبات رسمي لطبيعة العلاقة بينهما، وكأن الجميع مُتهم إلى أن يثبتوا العكس، وهي سلوكيات رسمت صورة كاريكاتورية عن حركة المقاومة أكثر من أي صورة أخرى.
بيد أن الهوس والتوتر في السلوك الاجتماعي والفردي للناس عند "حماس" والجماعات الدينية في قطاع غزة عاد ليفرض ذاته على المناخ المخنوق أصلًا في القطاع. ففي الفترة الأخيرة هناك أخبار متلاحقة عن ممارسات قسرية تتدخل في خصوصيات الأفراد وتفرض عليهم أنظمة شمولية وأبوية تريد أن تراقب علنيتهم وسريتهم. وتتنوع تلك الممارسات بين صدور قوانين وتعليمات واضحة إلى تبني توجهات عامة غير مكتوبة لكن يُناط بالأجهزة الرسمية تطبيقها (وبحيث يتم التنصل منها في حال اشتد الرفض لها وجوبهت بمقاومة واسعة)، وصولًا إلى خلق المناخ العام الذي يتيح لأفراد الشرطة والمباحث فرض رؤاهم هم على مسلكيات الناس، منطلقين مما فهموه من إشارات وتعليمات عامة للحفاظ على "الفضيلة" أو على "الأمن الفكري" للمجتمع.
في سياق ذلك المناخ تعدد منظمات حقوق الإنسان قائمة طويلة من انتهاكات حقوق الإنسان التي قامت بها حكومة "حماس" في قطاع غزة، سواء بحق النساء، أو الفنانين، أو الكتاب والأكاديميين، وأخيراً بحق مرتادي المكتبات العامة حيث أغلقت بلدية غزة نادياً لتعليم اللغة الإنجليزية بسبب الاختلاط، ومنعت جلب واستخدام الكمبيوترات الشخصية إلى المكتبة (بسبب سوء استخدامها!). كما عادت إلى الفضاء العام الممارسة البغيضة المتمثلة في سؤال أي امرأة ورجل عن إثبات "العلاقة الشرعية" التي تخولهما مرافقة بعضهما بعضاً في أي مكان. وبُعض هذه الممارسة لا يتمثل في سوء النية المُفترض في كل اثنين، بل يتجاوزه في الاتصال بأهل المرأة وإخبارهم عن "إلقاء القبض" على من تخصهم وهي في رفقة رجل ما، وهي ممارسة تجسسية صبيانية تخلو من الحد الأدنى من المروءة. ولا نعرف على أي أساس يمكن تبرير هذا التصرف الفوقي الذي لا علاقة له بما عُهد من مروءات مسلكية في تاريخنا تنهى عن التجسس على أسرار حياة الناس الخاصة، وحتى عن دخول الرجل على زوجته في بيته من دون إعلامها مسبقاً!
والخطاب الرسمي لـ"حماس" وحكومتها يتجه دوماً لنفي أي سياسة لها علاقة بكل ما ذكر أعلاه، والإحالة على مبالغات خصوم "حماس" ومحاولاتهم تشويه سمعتها، وتضخيم "بعض" الأخطاء التي تتم على أساس فردي. وهذا رد فعل تقليدي لأي سلطة تدافع عن سياسات وسلوكيات صبيانية ترفضها الغالبية من المجتمع. والأجدى والأجدر بـ"حماس"، حتى لا نقول الأكثر رجولة، هو أن تواجه ذاتها وتُطلق نقاشاً فكرياً وسياسياً وفقهياً داخل دوائرها حتى تصل إلى إجابات داخلية أولًا ثم تناقش ذلك مع مجتمعها الفلسطيني وتعرض عليه رؤيتها كي يقبلها أو يرفضها بشكل حر وديمقراطي. أما سياسة "الفرض المتدرج" و"خلق المناخ" ثم التهرب من المسؤولية فهي فضلاً عن كونها مكشوفة ولا توحي برصانة وثقة، فإنها تدميرية للمجتمع و"حماس" معاً. وعلى "حماس" أن تواجه المعضلات الكبرى التي تواجهها كل الحركات الإسلامية التي تجد نفسها في مأزق خلط الدين مع السياسة، وتحاول أن تجد أجوبة خاصة بالسياق الفلسطيني وليست "مستوردة" من أي سياق آخر. وهذه المعضلات التي يفرضها خلط الدين بالسياسة على الصعيد الاجتماعي، ونرى تمثلاتها في سياسات التخبط في قطاع غزة، هي عملياً كعب أخيل الإسلاموية السياسية عاجلًا وآجلًا.
وتتعلق واحدة من أهم المعضلات النظرية والعملية بفهم الديمقراطية من قبل الإسلاميين، الذين يفهمونها من زاوية سياسية فحسب وكآلية لهزيمة الخصوم انتخابياً ثم الوصول إلى الحكم. ولكن الديمقراطية أوسع من العملية الانتخابية إذ هي نظام اجتماعي للعيش المشترك، فإن قلنا إن هناك "ديمقراطية سياسية" تنظم التنافس السياسي والتداول على السلطة سلمياً، فهناك "ديمقراطية اجتماعية" تقر بالاختلاف السلوكي والثقافي والديني والاجتماعي على قاعدة التعايش. وإذا تعدت الديمقراطية السياسية على تلك الاجتماعية تحول النظام إلى نظام شمولي أبوي على النمط الستاليني أو الكوري الشمالي، حيث تتدخل السلطة في التفاصيل الفردية للبشر وتتجسس على تنفسهم، وحيث تحاول أن تصهر المجتمع والبشر في قالب واحد يُنتج أفراداً متماثلين ونمطيين لا يقرون بالتعددية ولا يشعرون بـ"المواطنة" إلا مع الشبيه والمتماثل وفقط. وعملية الصهر وتوحيد الأفراد هي عملية مستحيلة وفاشلة حتى لو انطلقت من منطلقات دينية، لأنها ضد طبيعة الحياة وتنوعها، وإلى ذلك يشير النص القرآني الذي يقرر اختلاف البشر وعدم خلقهم على دين أو ملة واحدة.
و"الديمقراطية الاجتماعية" تقرر أن المجتمع طيف واسع من القناعات والسلوكيات والحريات الفردية التي لا دخل للسلطة فيها طالما أنها لا تؤثر على حقوق الآخرين. وعندما تنحدر السلطة، أي سلطة، إلى تسنم دور ضابط الشرطة الأخلاقي الذي يريد أن يراقب تفاصيل الحياة وانضباطها لملايين الناس، فإنها تحفر قبرها بذاتها، والتاريخ لا غيره يقدم مئات الشواهد على ذلك.

1