أحدث الأخبار
الجمعة 26 نيسان/أبريل 2024
في مديح رأس الحيّة… !!
بقلم : سهيل كيوان  ... 17.01.2019

ما إن تعلمنا لفظ الكلمات حتى لقنونا شتم أمريكا، فهتفنا في أحياء بلداتنا النائية المنسية، «علّمنا جيفارا وقال، أمريكا راس الحيّة»، رأس الحيّة هذا، يعلّمنا كذلك دروساً في الجمال والحريّة.
نعم إنها رأس الحيّة، التي تحلل احتلال بلدان وتقمع شعوباً، رأس الحية التي تسوّد سيرتها وتاريخها لأجل أنظمة الظلم والعار، إنها أم الخيرات اللامتناهية، ولكنها تطمع في خيرات الشعوب الضعيفة، وهي أيضاً نفسها رأس الحية التي يهتف فيها صحافي في وجه رئيسه وعلى رؤوس الأشهاد، أنت مشكوك في أمرك، أنت مشبوه كعميل لصديقك بوتين، أنت مواطن مثل أي مواطن أمريكي، ومن حقنا أن نعرف مصادر أموالك، وما الذي دار ويدور بينك وبين بوتين أو غيره.
كم جميلاً أن يضطر من يحكم حوالي ثلاثمئة مليون إنسان وخمسين ولاية، مساحتها حوالي عشرة ملايين كيلو متر وتنتج حوالي ربع الإنتاج العالمي وبيده مفاتيح أعظم ترسانة أسلحة في العالم، أن يقف أمام الصحافة ويكاد يرتجف مثل ولد مشاغب ضبطوه متلبّساً، ويحاول إثبات براءته.
هذا المتجبّر المتنمّر الذي يهدد الفرس والترك والكوريين والروس وحتى الصينيين، ويسخر من أمة العرب، هذا الذي بتغريدة منه يُخفِض قيمة عملة ما، في بلد ما، ثم يعود ويغرّد من جديد فيرفعها، هذا الذي ينقنق كضفدع ببضع كلمات وهو مخمور، فتنتعش شركات وتكتئب أخريات، هذا الذي ترتجف أجنحة البورصات من تهويماته، يضطر إلى الدفاع عن نفسه في مواجهة صحافي يسأله ببرود أعصاب عن علاقته السرية ببوتين.
هذا هو الوجه الآخر لرأس الحيّة، الصحافي غير قلق على مصيره، وليس مضطراً لإخفاء اسمه أو وجهه، الصحافي مؤمن بعمله، بل وربما ينشد الشهرة على حساب الرئيس،
الله أعلم، ولكن على من يتسنم موقع الرأس في رأس الحية أن يسعى لإثبات براءته، وليس الأمر بإعداد خطة لاغتيال الصحافي، أو تلفيق تهمة التخابر مع جهات إرهابية.
في أمريكا، وهي رأس الحيّة كما تعلمون، يتفصد جبين الجنرال الرئيس الضيف عرقاً أمام صحافي جادٍ سأله عن ستين ألف معتقل في بلاده! فيضطر الجنرال الضيف أن ينافق لكسب ود الصحافي، فيزعم أنه لا معتقلين سياسيين في بلاده إنما هو يحارب الإرهابيين، ولكن الصحافي المشاغب لا يكل ولا يمل من إحراجه، وعلى الجنرال الرئيس على مئة مليون إنسان عربي، أن يبحث عن كذبة ريثما يتخلص من هذا الكابوس، ثم يبحث عن وساطة لمنع نشر المقابلة، ظناً منه أنه قادر على ذلك، كما هو الحال في بلده ومنطقتنا التعيسة.
يعود الصحافي إلى بيته أو مكتبه مختالاً، فقد أدى عمله وأراح ضميره بلا خوف من طارق يجرّه مكبلاً مهاناً إلى السجن قبيل الفجر، حيث سيخاف ذووه من مجرد السؤال عن مصيره.
تشعر بالمعنى الحقيقي لحرية الصحافة والصحافيين، سلطة عليا لها هيبتها، لا تطبّل ولا تزمّر، بل يخشى كل مسؤول على جلده من أسنانها الحادّة.
قال أجدادنا «اكره عدوّك، ولكن الحق قله».
من حقنا أن نكره عدوّنا، ولكن علينا أيضاً أن نقول كلمة حق بحقه، قد يكون العدوُّ كريماً ومتعفّفاً، وقد يكون شجاعاً، وقد يكون نظيفاً ويحترم النظام والمعاهدات أكثر منا، وفيه خصال حميدة كثيرة، نتمنى لو أنها موجودة فينا وفي أشقائنا، وفي أنظمتنا.
كان عرب الجاهلية يرفعون من شأن أعدائهم أو منازليهم،
ولا ينكرون عليهم صفاتهم الحميدة، كما يقول عنترة:
فشككت بالرُّمح الأصمِّ ثيابَه-ليس الكريمُ على القَنا بِمُحرَّم
فهو ينازل كريماً وليس خسيساً وضيعاً.
نعم، نكره رأس الحية الرسمية الداعمة للدكتاتوريات، والتي تدوس على جراح الشعوب وتقهرها، نكره من يخلطون بترولنا بدمائنا ليربحوا المزيد، نكره من يدعم الاحتلال وجيشه، نكره من يحرض على العرب وعلى المسلمين، نكره العنصرية ضد الملوّنين، نكره من يعتبر البالون الذي يطلقه أولاد غزة معادلاً لطائرات الأباتشي، والـ «إف 35»، نكره من تقف في مجلس الأمن لتقرأ كالببغاء تبريراتها السخيفة في تأييد دولة الأبرتهايد والعنصرية،
ولكننا لا نستطيع أن نُنكر إعجابنا بنظام يسمح لصحافي أن يقول لرئيسه أنت مشبوه بالفساد وبالاعتداءات الجنسية وبالتجسس لروسيا، فيضطر الرئيس للسعي إلى إثبات براءته.
لا نستطيع أن ننكر إعجابنا برأس الحية، التي نصّبت عليها رئيساً من أسرة متواضعة، ربُّها من أصل كيني اسمه حسين.
نكره العنصرية، ولكن نحب رأس الحية التي استوعبت لعقود طويلة ملايين الغرباء واللاجئين، ومنهم كثيرون من أقربائنا وأصدقائنا وأهل بلادنا ووطننا العربي الكبير، حصلوا بعد سنوات قليلة من وصولهم على ميثاق الأمان، وهو جنسية رأس الحية التي يفخرون بها، فقد أصبحوا مواطنين متساوين في الحقوق مع من سبقوهم للعيش في جوفها، يفتحون المطاعم والحانات والشركات التجارية، يعلّمون أبناءهم، ويملكون بيوتاً وأراضي، وكل الطرق مفتوحة للمجتهدين منهم، من نادل في مطعم حتى أرقى معاهد الدراسات، وصولاً إلى ريادة الفضاء.
أحب عجائز رأس الحية الطيبين والطيبات، الذين يحنّون على الغرباء، ويصدّقون كذبة الفلسطيني القادم من قرية منسية في الجليل، عندما يقول إنه من بيت لحم وإن في حديقته شجرة زيتون استظل تحت أغصانها السيد المسيح، وهناك أعطى دروسه وأناجيله لبعض تلاميذه، فينظرون إليه بمحبة وعطف وإكبار، ويتوافدون إلى متجره أو مطعمه تقرّباً من هذا الذي ولد وترعرع في كنف المقدّس.
رأس الحية ليست أسلحة وعدواناً وترامبية فقط، بل هي حقوق المواطن وحريّته، واختراعات وفتوحات علمية في الطب والفلك والكيمياء والفنون والتكنولوجيا وسائر العلوم التي تخدم البشرية، التي لم يعد يحصيها لكثرتها إلا الله.

1