أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
نيوزيلندا‭ ‬خيمتنا‭ ‬الأخيرة !!
بقلم :  سهيل كيوان  ... 21.03.2019

رحل‭ ‬ملايين‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬من‭ ‬أوطانهم،‭ ‬مثل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬الثالث،‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬الرزق‭ ‬والأمن‭ ‬والأمان،‭ ‬لم‭ ‬تبق‭ ‬زاوية‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الله‭ ‬الواسعة‭ ‬لم‭ ‬يبحثوا‭ ‬لهم‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬موطئ‭ ‬قدم،‭ ‬رغبة‭ ‬وأملا‭ ‬منهم‭ ‬بأن‭ ‬يمارسوا‭ ‬حياتهم‭ ‬بصورة‭ ‬طبيعية،‭ ‬فالحياة‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬ومن‭ ‬حق‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬أن‭ ‬يختار‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭ ‬العيش‭ ‬فيه،‭ ‬من‭ ‬حقه‭ ‬أن‭ ‬ينشد‭ ‬الراحة‭ ‬والرفاهية،‭ ‬والعيش‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تهديد،‭ ‬أو‭ ‬ملاحقة‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬فكرية‭ ‬له‭ ‬أو‭ ‬لأبناء‭ ‬أسرته،‭ ‬من‭ ‬حقه‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إعلان‭ ‬ولاء‭ ‬بالإكراه‭ ‬لهذا‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬البشر،‭ ‬أو‭ ‬لهذا‭ ‬الفكر‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬اضطرار‭ ‬لتقديس‭ ‬أصنام‭ ‬باتت‭ ‬تظن‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الآلهة،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬هي‭ ‬الآلهة‭ ‬بذاتها‭. ‬جاء‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬‮«‬ألم‭ ‬تكن‭ ‬أرض‭ ‬الله‭ ‬واسعة‭ ‬فتهاجروا‭ ‬فيها‮»‬‭. ‬ويقول‭ ‬الشاعر‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الوردي‭ ‬في‭ ‬لاميته‭: ‬
حُبُّك‭ ‬الأوطان‭ ‬عجزٌ‭ ‬ظاهر‭ ‬
فاغترب‭ ‬تلق‭ ‬عن‭ ‬الأهل‭ ‬بدَل‭ ‬
أعتقد‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬استشهدوا‭ ‬في‭ ‬نيوزيلندا‭ ‬كانوا‭ ‬محسودين‭ ‬على‭ ‬اختيارهم‭ ‬لهذا‭ ‬البلد‭ ‬الآمن‭ ‬المتسامح،‭ ‬وربما‭ ‬كانوا‭ ‬يحسدون‭ ‬أنفسهم‭ ‬ويحمدون‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬قيامهم‭ ‬وقعودهم‭ ‬على‭ ‬نعمة‭ ‬الأمن‭ ‬والعمل،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يشعرون‭ ‬بالحرية‭ ‬والراحة‭ ‬النفسية،‭ ‬وربما‭ ‬كانوا‭ ‬يتندّرون‭ ‬ويتحسرون‭ ‬على‭ ‬أنظمة‭ ‬بلدانهم‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬ذوات‭ ‬التهم‭ ‬الجاهزة‭ ‬والاعتقال‭ ‬الإداري‭ ‬والسجن‭ ‬لسنوات‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬محاكمة،‭ ‬والحرمان‭ ‬من‭ ‬زيارة‭ ‬الأهل‭ ‬أو‭ ‬المحامي‭. ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬بُعيد‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬أطلق‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬رائعته‭ ‬بيروت،‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬فيها‭:‬
بيروت‭ ‬خيمتنا‭ ‬الأخيرة‭ ‬
بيروت‭ ‬نجمتنا‭ ‬الأخيرة‭.‬
وقد‭ ‬ظننا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬هجرة‭ ‬من‭ ‬بيروت‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬نجمة‭ ‬بيروت‭ ‬أن‭ ‬خبّت‭ ‬وتحطّمت،‭ ‬وأُحرقت‭ ‬الخيمة‭ ‬واضطر‭ ‬من‭ ‬بقي‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬خيام‭ ‬أخرى،‭ ‬وأمواج‭ ‬تحملهم،‭ ‬فأنشد‭ ‬مديح‭ ‬الظل‭ ‬العالي‭. ‬وظننا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬الهجرة‭ ‬بلغت‭ ‬مآلها،‭ ‬ولا‭ ‬هجرة‭ ‬بعدها‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬ولكن‭ ‬الهجرة‭ ‬لم‭ ‬تبق‭ ‬مقتصرة‭ ‬على‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬مسلوبي‭ ‬الوطن،‭ ‬فقد‭ ‬تشظى‭ ‬العرب،‭ ‬وبعدما‭ ‬كانت‭ ‬الهجرة‭ ‬خياراً‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬ما،‭ ‬باتت‭ ‬مُلحّة‭ ‬لدى‭ ‬كثيرين‭ ‬ممن‭ ‬شوتهم‭ ‬نيران‭ ‬أوطانهم،‭ ‬فدفعتهم‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬خلاص،‭ ‬حتى‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬بقعة‭ ‬ممكنة‭ ‬ومتاحة‭ ‬في‭ ‬البر‭ ‬والبحر‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭. ‬جاءت‭ ‬مجزرة‭ ‬المسجدين‭ ‬في‭ ‬نيوزيلندا‭ ‬لتقول،‭ ‬بأن‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬وطنه‭ ‬وبين‭ ‬أهله‭ ‬وأناسه‭ ‬وفي‭ ‬بيئته‭ ‬الطبيعية،‭ ‬لن‭ ‬يجدها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬خصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬خلال‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬وانعكاساته‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬للعرب‭. ‬لقد‭ ‬تبدلت‭ ‬نظرة‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬بصورة‭ ‬حادة،‭ ‬من‭ ‬الحياد‭ ‬إلى‭ ‬الشك،‭ ‬ومن‭ ‬الشك‭ ‬إلى‭ ‬العداء‭ ‬ومن‭ ‬سيئ‭ ‬إلى‭ ‬أسوأ،‭ ‬وقد‭ ‬أسهمت‭ ‬بهذا‭ ‬الوسائل‭ ‬الوحشية‭ ‬التي‭ ‬قُمعت‭ ‬بها‭ ‬الشعوب،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأنظمة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬تنظيم‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬الإرهابي،‭ ‬فقد‭ ‬رأى‭ ‬العالم‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬يرى‭ ‬استباحة‭ ‬الدم‭ ‬العربي‭ ‬وهوانه‭ ‬على‭ ‬أبناء‭ ‬جلدته‭. ‬نأمل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مجزرة‭ ‬نيوزيلندا‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬نوعها،‭ ‬ولكن‭ ‬بين‭ ‬التمنيات‭ ‬والواقع‭ ‬مسافة‭ ‬كبيرة،‭ ‬وللأسف‭ ‬قد‭ ‬نسمع‭ ‬ونرى‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحوادث،‭ ‬وبأحجام‭ ‬مختلفة،‭ ‬وهذا‭ ‬قد‭ ‬يجر‭ ‬ردوداً‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬بعض‭ ‬المتطرفين‭ ‬المسلمين،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬نجاح‭ ‬الأقلية‭ ‬المتطرفة‭ ‬من‭ ‬الطرفين‭ ‬إلى‭ ‬جرّ‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬قليل‭ ‬التسامح‭ ‬وأشدُّ‭ ‬ضيقاّ،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أنظمة‭ ‬عربية‭ ‬وأجنبية‭ ‬تمارس‭ ‬عملية‭ ‬شيطنة‭ ‬منهجية‭ ‬للمسلمين،‭ ‬وروّجت‭ ‬لما‭ ‬يسمى‭ ‬الإرهاب‭ ‬الإسلامي‭ ‬خدمة‭ ‬لأهدافها‭. ‬
التحريض‭ ‬المتزايد‭ ‬ضد‭ ‬المهاجرين،‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الأمن‭ ‬والأمان‭ ‬والرفاهية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تجدها‭ ‬في‭ ‬وطنك‭ ‬وبين‭ ‬أهلك‭ ‬وأناسك،‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إيجاد‭ ‬الحل‭ ‬لهذه‭ ‬المعضلة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬نفسه،‭ ‬كي‭ ‬تكون‭ ‬الهجرة‭ ‬خيارا‭ ‬وليست‭ ‬اضطرارا‭. ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬تعاطف‭ ‬الشعب‭ ‬النيوزيلندي‭ ‬وحكومته‭ ‬ورئيسة‭ ‬حكومته،‭ ‬الذي‭ ‬يعبر‭ ‬بالفعل‭ ‬عن‭ ‬تضامن‭ ‬إنساني‭ ‬حقيقي‭ ‬مع‭ ‬الضحايا،‭ ‬ورغم‭ ‬الطقوس‭ ‬المؤثرة‭ ‬مثل‭ ‬قراءة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬البرلمان،‭ ‬ومظاهر‭ ‬الحزن‭ ‬الصادقة‭ ‬وزيارة‭ ‬المسجدين‭ ‬والفضول‭ ‬في‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬النيوزيلنديين،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الرسالة‭ ‬القوية‭ ‬التي‭ ‬بثّها‭ ‬السفاح‭ ‬ووصلت‭ ‬للناس،‭ ‬هي‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬للمهاجرين‭ ‬مكان‭ ‬آمن‭. ‬العرب‭ ‬أمة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬أفضل‭ ‬للعيش‭ ‬فيه،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬غيّروا‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬أنفسهم،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استطاعوا‭ ‬تحويل‭ ‬بلدانهم‭ ‬إلى‭ ‬أمكنة‭ ‬آمنة‭ ‬يطيب‭ ‬العيش‭ ‬فيها،‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬مسالمة‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬بعضا،‭ ‬وأنظمة‭ ‬متصالحة‭ ‬مع‭ ‬شعوبها،‭ ‬فالعرب‭ ‬لا‭ ‬تنقصهم‭ ‬الأرض،‭ ‬فمساحة‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬مليون‭ ‬كيلومتر‭ ‬مربع،‭ ‬وهي‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بثلاثة‭ ‬ملايين‭ ‬كيلومتر،‭ ‬ولا‭ ‬تنقص‭ ‬العرب‭ ‬الموارد‭ ‬الطبيعية‭ ‬ولا‭ ‬المواقع‭ ‬السياحية‭ ‬ولا‭ ‬الشطآن‭ ‬والبحار‭ ‬ولا‭ ‬الآثار‭ ‬ولا‭ ‬الحضارات‭ ‬العريقة‭ ‬ليكونوا‭ ‬في‭ ‬أفضل‭ ‬حال،‭ ‬ولا‭ ‬ينقصهم‭ ‬سوى‭ ‬ذلك‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يحوّل‭ ‬العمل‭ ‬وحب‭ ‬الوطن‭ ‬إلى‭ ‬إبداع‭ ‬ومنافسة‭ ‬شريفة،‭ ‬تنقصهم‭ ‬تلك‭ ‬الساحرة‭ ‬التي‭ ‬اسمها‭ ‬الحريّة‭ ‬التي‭ ‬تفجّر‭ ‬طاقات‭ ‬الإنسان،‭ ‬إذ‭ ‬يشعر‭ ‬بالأمن‭ ‬على‭ ‬ماله‭ ‬وعرضه‭ ‬ورأيه‭ ‬وفكره‭ ‬ومعتقده،‭ ‬عندما‭ ‬يتحرر‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬بلدانهم‭ ‬لن‭ ‬يبحثوا‭ ‬عن‭ ‬الحرّية‭ ‬والأمن‭ ‬عبر‭ ‬المحيطات‭ ‬والصحارى‭ ‬والجزر‭ ‬البعيدة،‭ ‬ستتغير‭ ‬أمورٌ‭ ‬ومفاهيم‭ ‬ومعايير‭ ‬كثيرة،‭ ‬فهل‭ ‬تكون‭ ‬نيوزيلندا‭ ‬خيمتنا‭ ‬الأخيرة؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬خياماً‭ ‬أخرى‭ ‬لم‭ ‬نهتد‭ ‬إليها‭ ‬بعد؟‭

1