أحدث الأخبار
السبت 20 نيسان/أبريل 2024
انتفاضة الشباب العراقي للبحث عن الهوية العراقية المفقودة !!
بقلم : أمير المفرجي  ... 13.10.2019

إن من أكثر عوامل الاضطرابات والتفتيت التي يمر بها العراق منذ عقد ونصف من الزمن، هو في دفع العراقيين على الاختلاف حول الهوية الوطنية، من خلال تقسيم المجتمع إلى مكونات أثنية متناحرة انسجاما مع العبارة المشهورة “فرق تسد”. وهذا بلا شك هو نتيجة للإرادة الخارجية المتعمدة في إرجاع بلاد الرافدين إلى عصور التناحر والظلام والتخلف، لتسهيل عملية غزوه ومن ثم الشروع بإرساء نظام سياسي قائم على هذه التناقضات القومية والدينية التي لا ترتبط بأسس الدولة الحاضنة والراعية لجميع أبنائها من شيعة وسنة، بل بين زعماء الكيانات السياسية وأحزابها الحاكمة، التي فرضت وجودها من خلال التقسيم الطائفي، والذي كانت نتائجه الخطيرة، دفع هذه الحشود الكبيرة من المتظاهرين للخروج في بغداد ومدن الجنوب، إضافة إلى العشرات من نواحي مناطق الفرات الأوسط، مؤكدة أهمية استعادة حقوقها التي تفرضها الهوية الوطنية العراقية المغيبة.
ولفهم طبيعة هذه المعطيات التي تعزز هذه القراءة ومعرفة أسبابها، لا بد من قراءة موضوعية في طبيعة الأهداف التي حملها المتظاهرون من خلال الشعارات التي رفعت، ناهيك عن الاختيار الواضح والمعلن للرموز الطائفية المستهدفة التي أعلنها المنتفضون.
فبعد أكثر من أسبوع من التظاهرات والاحتجاجات المدنية في بغداد، بدى واضحا، أن أولى أهداف المتظاهرين، عمدت إلى إحراق مقرات الأحزاب الحاكمة ومقرات الميليشيات التابعة لها، إضافة إلى اقتحام مباني الحكومة المحلية في محافظات البصرة وميسان وذي قار وواسط والنجف وبابل ومدينة الصدر والشعلة في العاصمة بغداد، وهذا ما أعطى لهذه الانتفاضة بعداً وطنيا عراقيا، إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة النظام السياسي الحاكم وأهدافه المعلنة المتمثلة في أقامه نظام الأغلبية الطائفية، وعلاقته بما سمي “بالمظلومية” وعلى حساب الهوية الوطنية العراقية. وهذا بحد ذاته يمكن اعتباره إشارة مهمة لطبيعة الثقافة الوطنية التي تحملها هذه الانتفاضة، وقدرتها الواسعة في شمول مطالب وتأييد جميع العراقيين، للعمل على تغيير الأسس والموازين، التي فرضت على المجتمع العراقي وقسمته، وبالتالي إعادة تحويله إلى مجتمع منسجم مع مزايا وأسس الهوية الوطنية التي يحملها العرب السنة والشيعة وباقي الأقليات على حد سواء.
وهنا لابد من التأكيد على ان التصريحات التي حملتها حناجر الشباب المنتفض في “إنهم ليسوا شيعة ولا سنة ولا صدريون أو بعثيون بل إنهم قبل كل شي عراقيون يطالبون بحقوقهم” قد أعطى لهذه الانتفاضة شرعية الدفاع عن حقوق العراقيين وليس حقوق طائفة معينة، وهذا ما أثار مخاوف النظام الحاكم من أن تتوحد الأصوات وتعمل على عودة اللحمة إلى النسيج الاجتماعي، نتيجة لتشابه المطالب التي تجمع العراقيين، في وجه مؤسسات الفساد والتبعية وإذلال العراقيين، لاستعادة بلدهم من السراق والمتآمرين مع الأجنبي والتبعية لإيران وجعل صوتهم فوق الطائفة والتبعية كعلو صوت العراق.
من هنا كشفت الانتفاضة عن حقيقة استمرار الأزمة العميقة التي يعيشها النظام السياسي الطائفي الذي أُسس سنة 2003 وتلاشي قدرته في الصمود والبقاء، نتيجة فشله في تقديم طبقة سياسية وطنية تملك قدرة الحفاظ على الهوية العراقية وحماية مكتسباتها. وكما ان تداعيات الانتفاضة ساعدت على رفع الغطاء عن طبيعة الركائز التي بنيت بها الدولة لإدامة وبقاء النظام السياسي الذي اُريد منه زورا أن يعمل لنصرة وتحسين أحوال الطبقة الشيعية الكادحة، ليكون في النهاية عراق الأحزاب والميليشيات الإيرانية الداعمة للاستراتيجية الإيرانية ومصالحها الاقتصادية، وعلى حساب مستقبل بلدهم الغني بالثروات ومصالح شعبه في العيش الكريم.
وهذا ما دفع بالشارع العراقي للرجوع إلى البحث عن هويته العراقية بعد ان أيقن ان هويته المذهبية التي بنى هذا النظام أهدافه على مظلوميتهم، لم تكن إلا عملية ذر الرماد في العيون للاستحواذ على البلد وثرواته، وحصر الانتساب بها لأحزابه، بغياب وصمت الرموز الدينية، التي استحوذت على تمثيل الشارع العراقي منذ 2003 وهذا يمثل إشارة مهمة على فشل الاستراتيجية الطائفية التي اعتمد عليها النظام الطائفي في العراق من خلال تدوير الرموز الدينية كصمام للأمان للبقاء في الحكم، ومن ثم الاستحواذ على ثرواته، ليكشف في النهاية هؤلاء الشباب الكادح، أن اختيار نظام المظلومية الطائفية من قبل المراجع والأحزاب، لم يكن إلا غاية للوصول للسلطة ووسيلة لسرقة ثروات العراق، بعد ان تم حصر وتكريس الفرص والمكتسبات للمسؤولين والمتنفذين في الأحزاب الحاكمة، وأن لا حل سوى الاحتجاج لاسترجاع حقوقهم المشروعة في المواطنة والمساواة في بلدهم.
في المقابل ترجم رد العناصر المسلحة والميليشيات لإخماد هذا الصوت العراقي الكادح الذي أفقدته العملية السياسية حقوقه في العيش الرغيد، عن مدى خطورة غياب الدولة ودستورها الذي ضمن للشعب حق التظاهر وحماية المواطن، والسماح لميليشيات الأحزاب المسلحة إطلاق الرصاص الحي، لإسكات ووأد انتفاضة الشباب العراقي، المطالب بالقضاء على الفساد وإيجاد فرص عمل لأعداد كبيرة من العاطلين، والضغط على حكومة عادل عبد المهدي، لإجبارها على تنفيذ الوعود التي قطعتها منذ وصولها للسلطة قبل أكثر من عام.
ان الأهمية التي اكتسبتها هذه الانتفاضة تكمن في الإرادة الشعبية المطلقة للعودة للهوية الوطنية، والتي هي بمثابة الزلزال الذي هز كيان النظام السياسي، وكما إنها بعيدة كل البعد عن مخططات المؤامرة التي حاول البعض إلباسها على أجساد العراقيين، وحقيقة علاقتها الواضحة مع السلبيات الخطيرة التي خلفتها الحكومات المتعاقبة على النسيج الاجتماعي، بعد ان كشفت الأحداث عن انتهاء الأعذار التي تقدمها عن أسباب الخلخل الذي يعثر قيام النظام السياسي، بواجباته تجاه الشعب بما فيها رفضه القضاء على حيتان الفساد وانتهاء أعذار الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية.
لا شك ان السياق الأهم الذي أدخلته انتفاضة اكتوبر، لم يكن محصورا في المجال الاقتصادي وحالة الفساد والفقر فحسب، بل تعداه إلى المجال الاجتماعي الناتج من مخططات التفكيك الطائفي التي تم فرضها على العراق، حيث كان لهذه الانتفاضة القدرة على إعادة ترسيخ الانتماء الوطني الجامع، من خلال تمسكها بالهوية العراقية بوجه قوى وسلاح الأحزاب والميليشيات، الذي استخدم في قمعها للدفاع عن النظام الطائفي وحتمية السقوط المدوي والنهائي للثقافة الطائفية، من خلال الترسيخ العميق للهوية الوطنية بصفتها القوة الأبوية الرئيسية للعراقيين، القادرة على مجابهة الظلم والفساد والنفوذ الإيراني في العراق، لاسترجاع الهوية العراقية التي تتناقلها الأجيال وحملتها ضمائر وقلوب كل العراقيين!!

*المصدر : القدس العربي
1