أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
غيبيّون ووسطيّون وعاجزون!!
بقلم : سهيل كيوان ... 02.04.2020

أظهرت أزمة كورونا سلوكيات مختلفة للبشر، ظهر غيبيون منفصلون تمامًا عن الواقع، يعيشون في قوقعاتهم وقناعاتهم التي لا تتزعزع، وينسبون ما يجري إلى الفساد وانحراف البشر والفسوق والابتعاد عن الدين، واقتراب نهاية العالم، هؤلاء من مختلف الديانات والعقائد.
ظهر تسجيل لرجل في أحد شوارع نيويورك الخاوية، وهو يصيح ويدعو الناس إلى العودة للمسيح ملك الملوك «إنه غاضب عليك يا نيويورك، فخطاياك ملأت كأس الرّب»، هل تعلمين يا نيويورك أن أطفالك يُزالون من الأرحام في عمر أربعين يوما»، «إذا هربت إلى المسيح فهو لن يرفضك»، «وهو يستطيع أن يشفي الأرض من الأوبئة». مثل هذا الرجل توجد عشرات الملايين، وربما أكثر ممن يعتقدون بأن الوباء من علامات قدوم المسيح.
أما اليهود الحريديم فيعتقدون بأنه غضب إلهي لابتعاد الناس عن التوراة، ولعدم احترام السبت، والزنا، وتناول لحم الخنزير، ولهذا فهم لم يطيعوا التعليمات، وواصلوا التجمع في الكنس للصلاة، وفي المناسبات الاجتماعية، وبدون أي حذر، وهذا أسفر عن أن واحدًا من كل ثلاثة جرى فحصهم في مدينة (بْني بْراك) قرب تل أبيب وعددها 200 ألف نسمة، وجُد حاملا للفيروس، وتُظهرُ الفحوصات أن الفيروس منتشر أكثر من المعدل العام بكثير في المستوطنات والبلدات الحريدية، في داخل مناطق 48، وفي مستوطنات الضفة الغربية، كذلك في نيويورك، فنسبة الإصابات في الحي الذي يقطنه اليهود الحرديم أعلى من النسبة العامة في بقية أحياء نيويورك، ومن المفارقات أن وزير الصحة الإسرائيلي من هذه الطائفة، وقد رفض أي إجراءات لفرض القانون الصارم على هذه الشريحة، وأعلن عن إيمانه بأن المسيح المنتظر سيصل قبل عيد الفصح العبري القريب، وسوف يخلّص البشرية والشعب اليهودي، يعني لم يبق لهذا العالم سوى أسبوع.
وهذا ما أكّدته علامات مثل العثور على أعداد كبيرة من الخفافيش ميتة في الحدائق العامة، في منطقة رمات غان جنوب تل أبيب، وقد فسرها بعضهم توراتياً، بينما قال آخرون بأن هناك من رش مبيدات في أمكنة تعيش فيها الخفافيش. من المفارقات، انشغال الشرطة وحرس الحدود بإقامة الحواجز في بلدات وأحياء الحريديم، ومطاردتهم، وتسجيل الغرامات المالية ضدهم، لمنعهم من دخول الكُنس للصلاة، أو التجمع في الشوارع، بينما يقف بعضهم على شرفات بيوتهم ويصرخون برجال الشرطة: نازيون نازيون.
من ناحيته يرى المسلم الأصولي أن سبب المحنة هو ابتعاد الناس عن الله، والفساد، وظلم الناس، وفقدان العدل، وكشف العورات، وشرب المنكر والزنا، وغيره من خطايا، ويتخذ البعض إجراءات وقاية والبعض يلجأ إلى الغيبيات أكثر وأكثر، فقد نُشر تسجيل على يوتيوب من العراق- واسط- النعمانية- يقول الرادود في الحسينية «مِن الزّيارة البعث ما مِنْعونا..لا والله ما تمنعنا الكورونا. «المرَض ما يوصلنا مِش بكيفه، والكاظم كريم وما يمرّض ضيفَه». الشبان الهائجون الذين يردون مع اللطم، يتمتعون بلياقة بدنية وصحة جيّدة، ولكن ممكن لهؤلاء أن يحملوا وينقلوا المرض إلى ذويهم من ضعفاء ومرضى ومسنين، بدون أن يشعروا بذلك. إلى جانب هؤلاء نجد المؤمن الذي يأخذ بالأسباب، ويتصرف بحذر، ويلتزم بالتعليمات الصادرة عن الجهات الرسمية خشية المرض وانتقال العدوى، رغم إيمانه بأن مصيره مكتوب، «فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون»، وكذلك أن الحذر لا يمنع من قدر، ولكنه يعمل بالآية الكريمة «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»، وبالحديث الذي يحث على استعمال قليل من القطران إلى جانب الدعاء.
هذه قناعة الوسطيين، الذين يجمعون بين العلم والإيمان، وأعتقد أن هؤلاء يمثلون الشريحة الكبرى من الناس المسلمين وغير المسلمين، وأبرز منظّريهم هو المرحوم مصطفى محمود، ومن مقولاته الشهيرة «إذا نزل مؤمن وكافر إلى البحر فلا ينجو إلا من تعلم السباحة، والله لا يحابي الجهلاء، فالمسلم الجاهل سيغرق والكافر المتعلم سينجو». مثل هؤلاء يتحملون مسؤولية أنفسهم، انطلاقا من قناعة بأن الله منحهم عقلا كي يستخدموه، فالعقل يشبه الحكم الذاتي في السياسة، أنت تدير أمورك وشؤونك الشخصية وتتحمل مسؤولية تصرفاتك وخياراتك، أما الشأن الخارج عن نطاق عقلك وقدرتك وسيطرتك فهو شأن إلهي، هؤلاء يبادرون إلى العمل لإيجاد الحلول للمشاكل التي تواجههم في الحياة، وهو ما يسمّونه الأخذ بالأسباب.
إلى جانب هؤلاء وأولئك توجد فئة من المنضبطين العقلانيين، بدون علاقة بأي دين فلا ضرر ولا ضرار، وكذلك يوجد فوضويون ومستهترون أيضاً، بعيداً عن أي دين، لدى بعضهم ثقة زائدة بنفسه وبحصانته البدنية، ولا يهتم ولا يتّخذ أي إجراء لمنع انتقال الفيروس له أو لغيره، ويوجد نازيون يعتقدون بأن البقاء للأقوى وعلى الضعفاء أن يرحلوا. إضافة لكل هؤلاء، يوجد من يدركون أهمية الحذر، والتعامل الواقعي مع الوباء، لكنهم عاجزون في ظروف معيشتهم وسكنهم وإمكانياتهم، أن يطبّقوا ما يجب فعله، وقد يكون كثيرون منهم في السجون والمعتقلات، بدون الحد الأدنى من مقوّمات الوقاية، سواء من ناحية مواد التعقيم والماء والصابون، أو من ناحية الاكتظاظ وراء الجدران والقضبان، خصوصاً في أنظمة الظلام التي لا تقيم وزناً لحياة الإنسان أو سلامته.

1