أحدث الأخبار
السبت 20 نيسان/أبريل 2024
«بعض» السعوديين والخطايا الثلاث لـ «خطاب التخلي» عن فلسطين!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 23.05.2020

خطاب بعض، وفقط بعض، الإعلاميين والمغردين السعوديين والذي يمكن ان نطلق عليه وسم «خطاب التخلي» عن فلسطين قد يُعتبر مقولات عابرة لا تمثل الا قائليها، وظاهرة صوتية قصيرة العمر ليس اكثر. بيد ان فجاجته وشعبويته كانا سببا في انتشاره بشكل كبير، على حساب مقاربات رصينة كان نصيبها الحد الأدنى من الانتشار، ذلك ان سرعة انتشار المضمون الشعبوي والتحريضي لا تقارن بسرعة ومدى انتشار الجاد والعقلاني. بكل الأحوال، لا يمكن التقليل من تأثير مضمون «خطاب التخلي» على كثيرين وخاصة الجيل الشاب في السعودية او غيرها، ممن لا يعرفون تاريخ المنطقة الحديث، ولم يقرأوا بعمق جذور وسيناريوهات الصراع مع إسرائيل والصهيونية. يقع هذا الجيل، في عصر التسطح الثقافي والمعلومة السريعة المجزوءة، ضحية الابتسار والإنتقاء وارباع الحقائق التي يتصف بها أصحاب «خطاب التخلي» بما فيه التحريض والكراهية ضد الفلسطينيين. يتصدر هذا الخطاب أصوات تحسب نفسها على التيار الليبرالي وتعتقد ان الليبرالية تعني التحلل من قيم العدالة والخضوع لمنطق الغالب والمنتصر، وتخلق تناقضا وهميا بين الإنتماء الوطني لدولة ما والالتزام بموقف أخلاقي وقيمي وانسانوي ليس من قضية فلسطين فحسب بل ومن كل القضايا العادلة في العالم. الأهم من ذلك هو ان «النزعة البراغماتية» القائمة على «المصلحة الوطنية السعودية» والتي يستند إليها أصحاب هذا الخطاب هي ذاتها تكشف هشاشته، وكيف يضرب هذا الخطاب تلك المصلحة السعودية، كما توضح هذه السطور ادناه، ويتبدى المتصايحون على المصلحة السعودية كمن يصفع نفسه بنفسه من حيث لا يدري.
في هذه المُقاربة تفكيك أولي لثلاث خطايا يتصف بها «خطاب التخلي» عن فلسطين، وهي: الخطيئة السياسية، والخطيئة التاريخية، والخطئية القيمية، وتتناغم جميعا وتتداخل محاولة الاستقواء بعضها ببعض لتعويض الخواء الذي يحتل جوهر كل منها على حدة. قبل تناول هذه الخطايا بالتحليل والنقاش تتوجب الإشارة هنا مرة اخرى إلى ان هذه السطور ابعد ما تكون عن التعميم واتهام الجميع، لأن ذلك ببساطة لا يتفق مع الواقع اولاً, التعميم في هذه المسألة غير موضوعي ولا علمي، فالأغلبية الساحقة من السعوديين والخليجيين بعامة والشعوب العربية من الماء إلى الماء، وكما تشير دراسات اكاديمية واستبيانات متتالية، تقف وبجلاء واضح إلى جانب فلسطين وعدالة قضيتها، وإلى جانب كل القضايا العادلة في هذا العالم.
اولاً، الخطيئة السياسية، وتتجسد أوجه هذه الخطيئة في بعض منطلقات «خطاب التخلي» التي تزعم انها تريد من الدولة السعودية ان تركز على مصالح الشعب السعودي ودولته فقط، وبالتالي فإن التخلي عن فلسطين (وربما غيرها من القضايا) سوف يوفر الاهتمام والموارد وسوى ذلك ويكرسها لخدمة «الوطن» داخليا. اما خارجياً، فإن المصلحة السعودية العليا تكمن في فتح مسارات جديدة في السياسة الخارجية والاقليمية يجب ولوجها حتى لو تصادمت مع الالتزام السعودي التقليدي بقضية فلسطين، ومنها مسار التطبيع مع إسرائيل والاستفادة من العلاقة معها. لنتأمل جوهر وجوانب هذه الاطروحة من زاوية براغماتية صرفة (هي التي ينطلق منها «خطاب التخلي») بعيدة عن استخدام شعارات الاخوة والعروبة والدين لأنها مُسترذلة من قبل أصحاب هذا الخطاب.
ابتداء، ومن منظور فلسطيني، لا شك بإن تخلي حتى بعض السعوديين عن قضية فلسطين (تحت شعار فلسطين ليست قضيتي) يؤثر على فلسطين والفلسطينيين ويؤدي إلى خسارة جديدة تُضاف إلى خساراتهم، بيد انها تظل خسارة هامشية مقارنة مع الجمهور العريض الرافض لهذا الشعار وحامليه. لكن ومن منظور سعودي مصلحي، فإن الخسارة الأكبر والأكثر وطأة جراء هذا الخطاب تقع في جانب السعودية نفسها، وخاصة في هذا الوقت تحديداً. ولأن محفزات «خطاب التخلي» ونبرته تشير إلى مراهقة سياسية وفكرية وعدم نضح تاريخي، فقد غاب عن أصحابه سؤال (براغماتي) مزدوج يجب عليهم الإجابة عليه بصدق ذاتي وهو: ماذا ستستفيد السعودية من تعزيز هذا الخطاب سواء داخليا او في المنطقة، وماذا ستخسر وكيف سيتأثر موقع ونفوذ السعودية بل وحتى تماسكها الداخلي؟ ما ستكسبه السعودية من وراء «خطاب التخلي» هو الكثير من المديح الإسرائيلي والامريكي، النفاقي في جوهره والمشجع للمزيد من ذات الخطاب، لكن من دون ان يترتب على هذا المديح بالضرورة أي مكتسبات عملية براغماتية لأن اشتراطات تلك المكتسبات تدخل في نطاق حسابات مختلفة عند إسرائيل وامريكا. والسنوات القليلة الأخيرة قدمت دلائل صلبة ومدهشة على عدم تأثر الحسابات الإسرائيلية والامريكية بالمديح الإعلامي الظرفي، كما دللت على غياب المكتسبات الحقيقية سعوديا، حيث ان الردود الإسرائيلية تقوم على مبدأ ان إسرائيل لا تحارب عن الآخرين ولا تخوض معارك للدفاع عن مصالحهم، بينما الردود الامريكية على التنازلات السعودية لترامب والصفقات الضخمة وحتى المنح المالية، لم تنتج سوى المزيد من العنجهية الامريكية ومضاعفة طلبات الدفع المالي من اجل الحماية وسوى ذلك، كما تبدى في التخلي عنها إزاء ضربة آرامكو العسكرية وما لحقها من سحب للقوات. في المقابل فإن «خطاب التخلي» هذا سوف يعزل السعودية عن محيطها العربي والإسلامي ويموقعها ذهنيا ووجدانيا إلى جانب إسرائيل. ولن يجد أصحاب «خطاب التخلي» امامهم سوى شعوبا عربية ومسلمة ما يزال وجدانها الوطني والديني والانساني صلبا ومتوهجا مع فلسطين وضد إسرائيل، وبالتوازي تحتقر موقفهم وتسترذله، وسوف يترتب على خطابهم هذا زيادة أعداء وخصوم السعودية. فهل هذه النتيجة، كما يتعقلها البراغماتيون، تصب في «المصلحة الوطنية السعودية»؟ حيث لا السعودية ظفرت حقاً بالحليف الأمريكي-الاسرائيلي المرغوب او»استفادت» من اسرائيل، ولا هي بقيت ولا نفوذها في دائرتها العربية الإسلامية. وامامنا تجربتي مصر والأردن وسلامهما مع إسرائيل، تقدمان شاهدا دامغاً يشير إلى ان فائدة البلدين من إسرائيل هي اقرب إلى الصفر في كل المجالات، بل هي سالبة وعكسية إن اخذنا بالاعتبار التمدد والتوغل الأمني الاسرائيلي وميادين هذه الملفات ومنعكساتها. اندفاعة «خطاب التخلي» السعودي يجب ان يتأملها أصحاب الخطاب في السياق الاقليمي الاوسع. وفي هذا السياق حاولت السعودية وخلال العقدين الماضيين على الاقل ايقاف نفوذ ايران في المنطقة منذ ان اطبقت هذه الأخيرة على العراق وقد قُدم لها هدية على طبق من فضة بعد حرب تدميره سنة 2003. وفي مواجهتها الطويلة مع إيران خسرت السعودية العراق اولاً، ثم سورية وتبعتها اليمن، بسبب الحروب والتحالفات الخاطئة والمدمرة التي اطلقتها او التحقت بها. وفي ضوء تلك الخسارات المُتتالية فإن السؤال التالي الذي يجب ان يتأمله بعمق عقلاء السعوديين هو كيف يُمكن ان يُسمح لحفنة مُتوترة وضحلة التفكير من الكتاب والمغردين ان يدمروا ما تبقى للسعودية من دور ورصيد في المنطقة العربية شعبيا ورسميا، عبر الهجوم على فلسطين والفلسطينيين، وعبر السماح ل «خطاب التخلي» بأن يتصدر الإعلام السعودي؟
ثانياً: الخطيئة التاريخية، وهذه تجسد مقدار التسطيح وقصر النظر التاريخي والسياسي التي ينطوي عليها «خطاب التخلي»، خاصة في تعبيراته القصوى التي تمجد إسرائيل ودولتها وقادتها الذين اوغلوا في استباحة الدم الفلسطيني. أصحاب «خطاب التخلي» يتحسسون السطح البراق للمستنقع الصهيوني المتوحش الذي لن تتردد تماسيحه في ابتلاعهم وابتلاع بلدانهم ضمن المشروع الإقليمي الاوسع حين تأتي اللحظة الملائمة. المحيط العربي لفلسطين بما فيه السعودية والخليج بأكمله ومصر وسورية والعراق يُنظر له إسرائيليا على انه المجال الحيوي للمشروع الصهيوني، والذي يجب ان يبقى متخلفاً ثقافيا وعلميا وتكنولوجيا واقتصاديا، بما يُحافظ على استمرارية تفوق إسرائيل وديمومة مركزها واعتبارها القوة البارزة والقائدة في المنطقة. في هذا المجال الحيوي المتسع يقع شمال السعودية وبعمق يمتد في الجنوب الغربي إلى مكة والمدينة المنورة وخيبر ضمن خارطة «من النيل إلى الفرات» التي تتصدر مواقع منظمات صهيونية إسرائيلية وامريكية ويمكن بسهولة متابعتها على شبكة الانترنت. يتوضح ذلك على سبيل المثال وبشكل لا يترك مجالا للشك في كتاب «العودة إلى مكة» لمؤلفه الأمريكي الصهيوني ايفي ليبكن وفيه يقول إن السيطرة اليهودية على مكة والمدينة هي نقطة الحسم في الصراع بين الحضارة اليهودية-المسيحية والإسلام (Avi Lipkin, Return to Mecca, 2015).
أفكار السيطرة الصهيونية على المنطقة وقيادتها ليست تهويمات «نظرية المؤامرة» ولا ترتكز على عواطف وانفعالات بل هي ما تقوله الوثائق وسلاسل الكتب والاتفاقيات والتصريحات المتواصلة بدءا من نصوص التوراة وصولا إلى بنود «صفقة القرن» وما بينهما، وكلها تريد تكريس إسرائيل كقائدة للإقليم اقتصاديا وعسكريا. ولنتتبع هذه النزعة القيادية المتأصلة في المشروع الصهيوني للمنطقة برمتها والسيطرة عليها اقتصاديا وعسكريا ونفوذا، والتي تستهدف السعودية والخليج كما تستهدف فلسطين ومصر والمنطقة:
إحدى المقولات المركزية التي ضمنها ثيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية، في مذكراته تشير بوضوح إلى أن الدولة اليهودية التي يطمح إليها في الشرق سوف تلعب دور الموقع المتقدم للغرب وتكون وظيفتها الوقوف في وجه البربرية والتخلف. احتلت هذه المقولة «القيادية» مكاناً مركزيا في قلب المشروع الصهيوني ونظرته إلى المنطقة. في سنة 1941، وبعد توغل الصهيونية في فلسطين برعاية المستعمر البريطاني، وتصاعد الثورات الفلسطينية ضد الطرفين، ارسل الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت مبعوثاً إلى فلسطين لدراسة وضع الصراع على الأرض هو الجنرال باتريك هيرلي، وطُلب منه تقديم تقريره إلى الرئيس مباشرة بعيدا عن تعديلات وتأثير اللوبي اليهودي الذي كان مسيطرا على الخارجية ونافذا في الكونغرس منذ ذلك الوقت. لخص هيرلي تقريره المحفوظ في الارشيفات الامريكية في ثلاث نقاط: الصهيونية تريد فرض قيادة يهودية على كامل الشرق الأوسط على صعيدي السيطرة والاقتصاد. وتريد إقامة دولة يهودية في كل فلسطين وربما شرق الأردن. وتريد طرد السكان العرب من فلسطين إلى العراق (من كتاب Alan Hart, Zionism: The Real Enemy of the Jews, 2005, part 1, page 138). بعد قيام إسرائيل، وفي حقبتي خمسينيات وستينيات القرن الماضي ارتكزت احدى استراتيجيات إسرائيل في المنطقة على مبدأ «التحالف مع الأطراف»، وبناء عليه اقامت علاقات وثيقة عسكرية واستخباراتية واقتصادية مع ايران الشاه وتركيا، وأيضا مع بعض اكراد العراق وبعض الجماعات في جنوب السودان واثيوبيا. والهدف من هذه العلاقات والتحالفات كان الضغط على منطقة القلب العربي وتفكيكها واضعافها. وقد تم لها ذلك مع آخر السبعينيات بعد إنهاك مصر واخراجها من الصراع، ثم تالياً لبنان عبر الضربات المتتالية والتي انتهت بإحتلال جنوبه، ولاحقاً في التحريض الكبير على حربي العراق في سنوات 1991 و2003 من خلال الدور المركزي المُثبت توثيقيا، سواء عبر اللوبي الصهيوني في واشنطن او لوجستيا وميدانياً (هذا طبعا من دون تبرئة صدام حسين وقراراته الهوجاء واحتلاله الكويت). احتاجت إسرائيل إلى تدمير المنطقة وتسويتها بالأرض كي تظل هي وحدها الأقوى والأكثر تفوقا ليس عسكرياً فقط (عبر التحالف العسكري الاستراتيجي مع أمريكا) بل واقتصادياً وعلمياً وقيادياً.
على الصعيد النظري، أعاد شمعون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق التأصيل لفكرة قيادة إسرائيل للمنطقة ولو بشكل موارب وبراق في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» الذي صدر عام 1993، وفيه تموضعت السعودية والخليج كأسواق للاقتصاد الإسرائيلي. منطقة الخليج برمتها والسعودية في قلبها لم تكن في هذا المشروع سوى الصيد الثمين الذي لا بد من الحصول عليه والتهام ثرواته. ديفيد بن غوريون وغولدا مائير، قادة إسرائيل الذين تم تبجيلهم عبر بعض الأقلام السعودية الطفلية، كتبوا بوضوح كالشمس إن شرط بقاء إسرائيل قوية هو اضعاف كل الدول العربية وتفتيتها، ومشروع التفتيت يضع السعودية على رأس القائمة. ففي سنة 1982 اصدر مركز دراسات إسرائيلية ما وصفه «استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات» اشتهرت لاحقا بإسم «خطة ينون»، تبعا لمؤلفها عوديد ينون الذي عمل آنذاك مستشارا لشارون وخدم في وزارة الخارجية. اقترحت الاستراتيجية تلك على الحكومات الإسرائيلية المُتلاحقة العمل على ضرورة تقسيم وتفتيت الدول العربية لأن هذا التفتيت هو الضمان الأكبر لمُستقبل إسرائيل. تضمنت توصيات الخطة العمل على تقسيم مصر إلى دولة مسلمة وأخرى قبطية، لبنان إلى دويلات طائفية، والعراق إلى ثلاث دول، واحدة سنية، وثانية شيعية، وثالثة كردية، وفصل جنوب وغرب السودان إلى دويلات اثنية، والجزيرة العربية، كما تصف الاستراتيجية، إلى أجزاء متنافرة. ولاحقا في 28 سبتمبر 2013 نشر الملحق الأسبوعي لصحيفة نيويورك تايمز خارطة لما توقعت الصحيفة ان تؤول اليه المنطقة من تقسيم، وهو تقسيم لم يكن بعيدا عن تصورات «خطة ينون»، وتضمنَ تقطيع السعودية إلى خمس دويلات في شرق، وجنوب، ووسط، وغرب وشمال الجزيرة. المنطقة الشمالية، وكما تشير إليها كتب وادبيات المنظمات المسيحية الصهيونية هي الجزء الذي يجب ان يُضم إلى إسرائيل الكبرى تبعاً لنبوءة التوراة التي تصرح بحدودها وهي من ضفاف النيل إلى الفرات بما فيها شمال الجزيرة العربية. هذه الاستراتيجيات بعيدة المدى هي التي يجب ان تكون في قلب اهتمامنا جمعيا، سعوديين، وفلسطينيين، وعرب، وليس المناكفات الشعبوية التي تخدم تلك الاستراتيجيات بالجهل وقصر النظر.
تنطلق التنظيرات الصهيونية، وما اشير إليه أعلاه مجرد عينة منها، دوما وابداً من خليط عنصري يجمع النظرة الاستعمارية التقليدية وسيل عريض من الإستبطانات التوراتية الكثيفة، وكلاهما يقومان على نظرية السيد والعبيد التي ترى ان شعوب المنطقة ليسوا سوى اجراء لدى السيد الاسرائيلي المسيطر، المؤيد توراتياً واستعمارياً وعسكريا وتكنولوجياً. شعوب المنطقة ودولها مفروض عليهم جميعاً سقف مُحدد تبعاً لهذه النظرية، وتحت ذلك السقف تتلخص وظيفتهم في امرين: تقديم العمالة الرخيصة للإقتصاد والآلة الإنتاجية الإسرائيلية، وفتح الأسواق الاستهلاكية والشرائية لما تنتجه تلك الآلة، وفي الحالتين يجب ابقاءهم في وضع اللهاث الدائم وراء انتاجات السيد الإقليمي المُسيطر، بحيث يظلون يركضون وراء إنجازاته وانتاجاته، ويخافون جبروته العسكري طبعا، ويسلمون له القيادة. على ذلك، فإن ما يجب ان يتعقله الجوار العربي لفلسطين بما في ذلك السعودية هو حقيقة وقوف فلسطين والفلسطينيين في خط الدفاع الأول (عملياً وبراغماتياً!) عن العرب وعن السعودية نفسها، واذا ما التهمت الصهيونية فلسطين كاملة وانتهت منها فإنها سوف تتفرغ للجولات التالية من توسعاتها.
ثالثاً: الخطيئة القيمية، وهذه مرتبطة بفكرة ترك العدالة ومناصرة المظلوم والقضايا العادلة، والاصطفاف بوعي ام بدونه إلى جانب المجرم والجلاد، وهي احدى سمات «خطاب التخلي» عن فلسطين وقضيتهم. تتمحور هذه الخطيئة في تصيد أخطاء وسلوكيات بعض الفلسطينيين، او حتى الكثير منهم، او اقتباس مقولة هنا او تغريدة هناك لبعض الفلسطينيين الذين لا تقل رعونتهم عن رعونة قرنائهم من بعض السعوديين، واستخدام هذه المقولات لتفريغ نقمة على فلسطين وعدالة قضيتها، والانتقام من ذلك كله عبر تصريحات تؤيد إسرائيل وتتغزل فيها. في هذه الاقتباسات التي يوظفها أصحاب «خطاب التخلي» هناك شتم وتعميم متوتر صادر عن افراد فلسطينيين بحق السعودية والسعوديين يتذرع بالدفاع عن فلسطين في وجه الاتهامات العديدة وسوى ذلك، وكله مرفوض وسقيم ولا يجب البناء عليه او تعميمه. جولات الشتم المُتبادل هذه بين افراد من الطرفين ينتمون في غالبيتهم إلى نفس مربع الضحالة تحقق عملياً ما تريده إسرائيل من تسميم للعلاقات بين الشعب الفلسطيني والشعب السعودي، بل والشعوب العربية كلها. لا يحتاج أي عاقل للتذكير بأن أصوات الرعونة من الطرفين لا تعبر عن موقف ملايين الفلسطينيين والسعوديين من بعضهم البعض. مع ذلك من الضروري هنا التوقف عند مسألة مهمة هي خطيئة الموقف القيمي الذي يعلن التخلي عن عدالة قضية معينة لأن بعض افراد تلك القضية تافهون. طبعا هناك فلسطينيون تافهون وهناك من جندته إسرائيل عميلا لها، وبعضهم قتل عقابا له على عمالته، وكلهم لفظهم الشعب إلى مزابل التاريخ. وكما هي الحالة في كل شعب من شعوب الأرض هناك افراد تافهون وسفلة وعملاء تشهد عليهم السجون المحلية في كل بلد، وفي السعودية كما في غيرها. لكن وجود هذه العينات لدى شعب لديه قضية عادلة لا يؤثر في جوهر عدالتها. هناك افارقة شاركوا الغزاة الأوروبيين في استرقاق بني جلدتهم وسهلوا عمليات اقتناص وبيع اشقائهم إلى تجار العبيد. هل هذا معناه ان تجارة العبيد أصبحت مُبررة، وان عدالة النضال ضد العبودية انتقصت؟ هناك الوف من السعوديين انخرطوا في حركات إرهابية في طول وعرض العالم من القاعدة إلى داعش وغيرها، فهل هذا يعني مثلاً عدم الوقوف مع عدالة الموقف السعودي الرافض للتعميم على الشعب كله، وقبول طروحات المحافظين الأمريكيين وحلفائهم المسيحيين الصهيونيين إزاء السعودية وشعبها (وكان احد متطرفي أولئك المحافظين قد اقترح ذات مرة ضرب السعودية بالقوة النووية للتخلص منها ومن ارهابها دفعة واحدة، على حد تعبيره). في كل حالات الاستعمار والاحتلال كان هناك افراد يتعاملون مع المُحتل، ومن اشهر الحالات في العصر الحديث تعاون عشرات الألوف من الفرنسيين مع الاحتلال الألماني النازي لفرنسا في الحرب العالمية الثانية. فهل قاد ذلك إلى سحب التأييد لعدالة جهود ديغول في تحرير بلده من هتلر؟ في وسط الأجواء المسمومة التي يثيرها «خطاب التخلي» عن فلسطين لأن هذا الفلسطيني او ذاك قام بكذا او كذا، يحتاج المرء إلى إعادة التوكيد على أمور ربما هي من البديهيات. خلاصة المسألة هنا هي ان أسوأ ما قد ينحدر إليه خطاب معين هو الاصطفاف مع الجلاد والمجرم بسبب خطأ هامشي او حتى غير هامشي ارتكبته الضحية. ان ذلك يعني ان نبرر لمجرم يسطو على بيت ويقتل أصحابه ويسرق ما فيه ويحتله، لان واحدا من افراد العائلة التي تملك البيت وتسكنه يتنمر على أخيه الصغير او يسيء الخلق تجاهه.

1