أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
البعد الإسرائيلي في الصراع الإيراني الأميركي!!
بقلم : حسن نافعة* ... 27.11.2021

تتسم العلاقات الإيرانية مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل بعداء شديد، بدا واضحا منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وجسّده حدثان بالغا الدلالة: الأول: وقع حين أقدم الطلاب الإيرانيون في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1979 على احتجاز أكثر من 50 دبلوماسيا وموظفا في السفارة الأميركية في طهران، وأبقوا عليهم رهائن 444 يوما. ومعروفٌ أن الإدارة الأميركية، برئاسة جيمي كارتر في ذلك الوقت، لم تجد من سبيل آخر للإفراج عنهم سوى القيام بعملية عسكرية شديدة التعقيد، أطلقت عليها اسم "عملية مخلب النسر Operation Eagle Claw"، وشاركت فيها قوات جوية وقوات خاصة وقوات تابعة لمشاة البحرية الأميركية، لكنها فشلت، وتم إلغاؤها بعد تحطم طائرتين وسقوط ثمانية جنود أميركيين قتلى. ويُعتقد على نطاق واسع أن فشلها كان من بين أهم أسباب خسارة كارتر الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1980، فقد رفضت طهران أن تتعامل مع كارتر، وفضّلت تقديم الإفراج عن الرهائن هدية خاصة للرئيس ريغان، منافسه في تلك الانتخابات، في أول يوم من دخوله البيت الأبيض! الحدث الثاني: وقع حين قرّرت إيران قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وقد دعي رئيس المنظمة، ياسر عرفات، إلى طهران بهذه المناسبة، وذهب على رأس وفد فلسطيني كبير، ليتسلم بنفسه "مفتاح السفارة الإسرائيلية"، في إشارة رمزية بالغة الدلالة إلى حجم التغير الذي طرأ على سياسة طهران تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وخصوصا تجاه القضية الفلسطينية.
على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على الحدثين الكبيرين، جرت خلالها محاولاتٌ متعدّدة لتحسين العلاقات بين إيران، من ناحية، وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، من ناحية أخرى، عبر اتصالات سرّية جرت إبّان الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت أكثر من ثماني سنوات، وأيضا قبيل الغزو الأميركي لكل من العراق وأفغانستان، إلا أنها ظلت مقطوعة، بل وازدادت توترا بمرور الأيام.
هل يعني ذلك أن إيران تتعامل مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، ومن ثم تفترض أنهما يتبنيان تجاهها سياستين متطابقتين كليا؟ هناك شواهد تدل على أن إيران كانت ولا تزال تعتقد أن الولايات المتحدّة، والتي يحلو لإيران أن تطلق عليها لقب "الشيطان الأكبر"، هي العدو الأول والرئيسي لثورتها الإسلامية، وأنها لا ترى في إسرائيل سوى مجرّد تابع صغير قابل للاستخدام أداةً من أدوات السياسة الخارجية الأميركية، ومن ثم لا يملك لنفسه إرادة أو سياسة مستقلة. ومع ذلك، يشير مسار العلاقات بين الدول الثلاث، بوضوح، ومنذ اللحظة الأولى، انطلاق الثورة الإسلامية في إيران، إلى أن العداء الإسرائيلي لهذه الثورة كان الأكثر حدّة وعنفا. دليلنا على ذلك أن إسرائيل كانت ولا تزال تبذل جهودا مضنيةً لجرّ الولايات المتحدة إلى حربٍ مفتوحة مع إيران، وهو ما فشلت فيه، ما يوحي بأن الولايات المتحدة تبدو أكثر حرصا على ممارسة قدر أكبر من ضبط النفس، وتعمل على تجنّب الدخول في صدامٍ عسكري مباشر مع إيران، ولا يستبعد احتمال وجود تباين في المصالح بين إسرائيل والولايات المتحدة، على الأقل حول الأسلوب الأنسب أو الأكثر فاعلية في التعامل مع إيران.
تفيد نظرة مقارنة بين موقف كل من الولايات المتحدة وإسرائيل تجاه تطوّر البرنامج النووي الإيراني بأنهما غير متطابقين، على الرغم من اتفاقهما في الأهداف، وأن الفجوة التي تفصل بينهما حول الأسلوب الأمثل في التعامل مع برنامج إيران النووي قابلةٌ لأن تضيق وتتسع، حسب رؤية النخبة الحاكمة في كلا البلدين المتحالفين، فالولايات المتحدة، أيا كان شكل النخبة الحاكمة فيها، تدرك خطورة البرنامج النووي الإيراني، من منظور مسؤلياتها قوّة عظمى، يتيعن عليها أن تكون حريصةً على منع انتشار السلاح النووي في العالم، وأن تتعاون مع القوة العالمية الأخرى، من أجل تحقيق هذا الهدف، خصوصا حين يتعلق الأمر بالطموحات النووية لنظمٍ حاكمةٍ، تعتبرها الولايات المتحدة متطرّفة ومعادية لها، كالنظام الإيراني. ولأنها تدرك، في الوقت نفسه، أن لدى النظام الإيراني أوراق قوة تمكّنه من حماية نفسه ومصالحه، فقد بدت الولايات المتحدة، في أحيان كثيرة، مستعدّة للتعامل مع هذا النظام من موقع الندّية. ومن ثم لم تمانع في الدخول في مفاوضاتٍ مباشرة معه، بمساعدة القوى الدولية الأخرى، إلى أن تمكّنت إدارة أوباما من التوصل معه عام 2015 إلى اتفاقٍ اعتقدت أنه سيحدّ كثيرا من قدرته على امتلاك السلاح النووي، أو تحصيل المعرفة النووية اللازمة لتصنيعه. أما إسرائيل، أيا كان شكل النخبة الحاكمة فيها، فترى النظام الحالي في إيران من منظورٍ مختلف، وذلك لسبب بسيط، أن القضية الأهم بالنسبة لها لا تتعلق ببرنامج إيران النووي، بقدر ما تتعلق بقدرتها هي، أي إسرائيل، على تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، وفرض تسويةٍ بشروطها على كل دول المنطقة. ولأنها تعتقد أن النظام الإيراني، وبحكم ما يمتلكه من قدراتٍ عسكريةٍ كافيةٍ لتمكين محور المقاومة الذي تقوده بنفسها في المنطقة من الصمود في وجه الطموحات الإسرائيلية، أصبح يشكّل العقبة الوحيدة التي تحول دون تمكين إسرائيل من تلك الطموحات، أي تصفية المقاومة وفرض تسوية بشروطها على دول المنطقة. بعبارة أخرى، يمكن القول إن إسرائيل ترى في النظام الإيراني نفسه، وليس فقط في برنامجه النووي، تهديدا وجوديا لها. ومن ثم، يكمن الحل الأمثل في إسقاطه وتغييره، حتى لو تطلّب الأمر مواجهة عسكرية شاملة.
كلنا يتذكّر كيف تعامل رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، مع الرئيس الأميركي أوباما، بمجرّد أنه شعر بقرب التوصل إلى اتفاقٍ حول برنامج إيران النووي، فقد ذهب الرجل، في معارضته هذا الاتفاق، إلى حد السفر إلى الولايات المتحدة، رغم أنف رئيسها، ليلقي خطابا أمام الكونغرس بمجلسيه، شارحا فيه ما ينطوي عليه الاتفاق من تهديداتٍ لأمن إسرائيل ووجودها. وعلى الرغم من فشله في حمل أوبابا على العدول عن هذا الاتفاق، إلا أنه لم ييأس في محاولاته الرامية إلى إسقاطه، إلى أن تكللت جهوده بالنجاح مع ترامب الذي قرّر الانسحاب منه. ومع ذلك، يلاحظ أن نتنياهو فشل في جرّ الولايات المتحدة، حتى في عهد ترامب، إلى حربٍ لإسقاط النظام الإيراني، وهو ما سعى إليه دائما، وبإلحاح. صحيحٌ أن ترامب، حليف نتنياهو الأول، تبنّى خيار "العقوبات القصوى" ضد إيران، بديلا لحربٍ يصعب التكهن بنتائجها، لكن القادة الإسرائيليين الذين جاءوا بعد نتنياهو، ويتوقون لإثبات أنهم ليسوا أقلّ منه تشدّدا في مواجهة إيران، يدركون، في الوقت نفسه، أن إيران ليست لقمةً سائغةً يمكن ابتلاعها بسهولة، فقد تمكّنت هذه الدولة العنيدة والصلبة ليس فقط من الصمود في وجه العقوبات الأميركية القصوى أكثر من أربع سنوات، بل وجدت أيضا في الانسحاب الأميركي من الاتفاق فرصة لمواصلة برنامجها النووي بمعدّلاتٍ أسرع مما كانت عليه قبل الاتفاق. ومن ثم تمكّنت من تخصيب اليورانيوم بمعدّلاتٍ أعلى، وبكمياتٍ أكبر بكثير مما كان يمكن أن تصل إليه في أي مرحلة سابقة، حتى لو لم توقع على اتفاق 2015، ما يضع الولايات المتحدة وإسرائيل معا في مأزقٍ لا أحد يعلم كيف سيمكنهما مواجهته.
وافقت إيران، أخيرا، على استئناف مفاوضات فيينا، لكنها ستذهب إلى الجولة السابعة من هذه المفاوضات، وفي يدها أوراق تفاوضية كثيرة، فالعقوبات، على الرغم من قسوتها لم تسقط نظامها أو تضعفه، وهي تشعر أنها ليست في عجلةٍ من أمرها للتوصل إلى اتفاق جديد، أو حتى للعودة إلى الاتفاق القديم بالشروط نفسها، فكلما امتدّت فترة التفاوض اقتربت أكثر من العتبة النووية، ولديها أهدافٌ ليست فقط واضحة، وإنما مشروعة أيضا، وهي: رفع جميع العقوبات المفروضة عليها حاليا، بما في ذلك العقوبات المفروضة على الشركات والأفراد، وتقديم ضماناتٍ بعدم تكرار ما قام به ترامب مرة أخرى. وحتى بافتراض أن إدارة بايدن ستكون قادرة سياسيا على تذليل العقبات الفنية التي تعترض الاستجابة لهذين الشرطين، وأن إيران ستتحلى خلال جولة المفاوضات المقبلة بما يكفي من المرونة لضمان عودة الولايات المتحدة إلى اتفاق 2015، فمن الواضح تماما أن إسرائيل لن تكون سعيدةً أبدا بهذه العودة، وستبذل كل ما في وسعها لإفشال هذه الجولة، خصوصا أن رئيس حكومة إسرائيل، بنيت، صرّح، أخيرا، بأن إسرائيل ليست طرفا في هذا الاتفاق، ومن ثم لن تلتزم به، وستتصرّف وحدها بما تمليها مصالحها.
تدرك إسرائيل أن محور المقاومة للمشروع الصهيوني في المنطقة سيكون الأكثر ارتياحا واستفادة من نجاح مفاوضات فيينا، وعودة كل الأطراف إلى الالتزام باتفاق 2015. أما الولايات المتحدة فتذهب إلى الجولة السابعة من مفاوضات فيينا محمّلة ليس فقط بعبء الأخطاء المترتبة على انسحاب ترامب من هذا الاتفاق، وإنما أيضا بعبء الهواجس الأمنية لأهم دولة حليفة لها، إسرائيل، وهي هواجس لا تملك إلا أن تأخذها في الاعتبار. غير أن المشكلة التي تواجه الدولة الأقوى والأكثر ديمقراطية أن أهم دولة حليفة لها في المنطقة عاصية ومتمرّدة على قواعد القانون الدولي. المشروع العنصري الاستيطاني الذي تقوده، وتريد فرضه على المنطقة، مستحيل التحقيق في الواقع على النحو الذي تريده إسرائيل، حتى لو بدا، في بعض الأحيان، وكأنه يحقق انتصاراتٍ مرحليةً مبهرة. وهنا يتجلّى المأزق الأميركي بكل أبعاده.
ما سيجري في الجولة المقبلة من مفاوضات فيينا سيلقي بظلاله على قضايا الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وربما في العالم كله، فعدم التوصل إلى اتفاق معناه أن الولايات المتحدة ستلجأ إلى خيارات أخرى لوقف البرنامج النووي الإيراني، وفقا لتصريحات أدلى بها، أخيرا، وزير الخارجية الأميركية، بلينكن، الأمر الذي قد يوحي بعدم استبعاد استخدام القوة المسلحة، وهو ما تريده إسرائيل بالضبط. أما إذا حدثت المعجزة، وتم التوصل إلى اتفاق، فلن تقبله الحكومة الإسرائيلية، وسيكون عليها إما أن تبتلعه مضطرّة. وحينئذ عليها أن تغير من سياساتها الراهنة في المنطقة، أو أن تذهب بمفردها في اتجاه التصعيد مع إيران. وفي كلتا الحالتين، ستصبح منطقة الشرق الأوسط بعد هذه الجولة مختلفةً إلى حد كبير عما كانت عليه قبلها.

1