أحدث الأخبار
الخميس 25 نيسان/أبريل 2024
ليلى خالد واعترافات تثقب الورق!!
بقلم : رجاء بكريّة* ... 22.04.2014

.. لم تملك من الهدوء ما يكفي لتكتب، ولكن من الإنفعالِ ما يكفي لأسجّل عنها رواية. تفاصيل كثيرة. نظرات حانية صاخبة غاضبة ملوّعة. بحّة عميقة وتنهدات جارحة، وسيجارة لا تنطفىء.كانت جمرة تبعثر رمادما كلّما عصفت ريحُ المدينة بقلبها.سجّلتُهَا كلاما وورقاً أضعتُهُ في مَعبرِ السّلامِ حين قرّرَ محقّقو ‘وحدة النّبش’ على حدودنا العامرة بين المملكة وبيننا بالحمامات البيض، نبش كلّ قصاصة.
أن تعنون لقاءك مع الأرض في سيرة امرأة هوَ الجديد في قلبكِ، وأن تُسَابِقَ الأَحداثَ، وهي تسبيكَ سطرا وورقا هُوَ المُختَلِفُ فيمَا تُسجِّلُهُ النّساءُ عن حُضُورِهِنَّ فكرا وجسداً. لقد اعتدنا حضورَ النِّسَاءِ في المنظومة الرّسمية عبر قنواتِ العرضِ خَتماً أو فُرجَةً، أمّا الجديدُ في حضور ليلى خالد عبر سيرتِها الأيقونة فهو انطِباعُ الصّورةِ وَشماً في روح المكان الفلسطينيّ قَلباً وقَالِباً.
أن تتخلّل امرأة تاريخ شعب هوَ العابرُ للمُتَداوَل،في أدبيّات القرن، والمُدهِش في سياسيّاتِ السّرد، والمُربِك في اجتِمَاعِيّاتِ الفرد.
وللحقيقة أنّي أعدتُ الانشغالَ بسيرتها يوم الأرضِ تحديداً، وأعني أنّي أعدت تسجيلَ الكلامِ صورا. وسأعترفُ لكم أنّي، غالبا، لا أتعامل بجديّة مع السير الذّاتية كاستراتيجيّة توثّق لحضور الشّخوصِ على مرّ التّاريخ إلا في القليل النّادر، بل واعتبرتها إحدى قنوات الرّبح السّريعِ، لولا أنّني فوجِئتُ بصِناعةٍ جديدة من العيارِ الثّقيلِ لأبعاد الشخوص، ومحطّات الحدث. فحينَ تتحدّث خالد بالأنا الحاضرة والغائبة تتخلّل الواقع ومجرياته. تحلّل أمكنته، وتستدعي أزمنته على نحو أثارني أنا، الّتي تنتقي قراءاتها بعناية مُربِكة للمكتباتِ ورُفُوفِهَا. ولتوخّي الصّدق أعترف أنّني أعدت السيرة مرّتين إلى رفّها في المكتبة. عدلتُ عنها، واستعدتها بنفس العجلة، إذ ألحّ صوت خالد البعيد في ذاكرتي، وأنا أقرّر الوفاء لموعدٍ واحد مع المدينة الّتي تحبّها بطلة سيرتنا، حيفا، فوح القلب والذّاكرة. وكَمَا وَفت نشوة في روايتي ‘امرأة الرّسالة’ لغسّانِها بالعودةِ إلى عكّا وفيتُ بوعدي للحيفا، وعدتُ إليها مُضوَّعةً بحنّونِ عاشِقةٍ ثائرة اختطفت طائرة كي تُلامسَ بحرَ مدينة خرجت منها لنزهة مَارقة فصارت إلى مشروع لاجئة مختومة بشعار وكالة الغوث.
لا أعرفُ كم نصدّقُ، ونحنُ نسجِّلُ سِيَرَنا، وكم نكذبُ، ونحنُ نُعرِّفُ النّدبة الصّغيرة تحت الأنف كأثرِ دبابير أرادت أن تنالَ منّا، تجاوزاً لتشوّهٍ خُلُقي ولدّ مَعنا، وكبرَ بعددِ مرّاتِ كذبنا كأنف بينوكيو تماما. ولن أجرؤ في هذا المقام على القول إنّ كذب النّساء قليل واحتيال الرّجال أكثر! ولكنّها لحظات الإعترافِ المُرعِبة بالفِعلِ وضدّه هي ما يأخذنا، غالبا، لهذا النّوع من الكتابةِ الغيريّةِ المُغامِرة في أدبيّات السّيرة الذّاتيّة.
هل أشكر الصّدفة إذن، أم إصرار هاجسي على اختطافي العاجل لكمشةِ العطرِ تلك؟ لا أعرف تماما، ولكنّي حتماً سأشكر الصّدفة الّتي جمعتني قبل سنوات بليلى خالد في منزلها في عمّان كروائيّةٍ ضيفة حلّت شهادةً على أدبيّات المكان في جامعة فيلادلفيا. ولمفارقات الصّدفة أن يكون المكانُ، مَكَاني، شهادة ليلى ذاتها على نكبة 48. شهادة تلاحقها منذ سنوات في الوجوه والصّور، كنتُ أنا ضالّتها غير المنتظرة. كنتُ حيفا السّنوات المُنتزَعة. ولغريبِ الحيثيّاتِ ذاتها في شكلِ اللّقاءِ أنّي لم أكُن على معرفة غزيزة بتاريخها الشّخصي، واعتبرتُ زيارتي دعوة غذاء لا أكثر برفقة أصدقاء . حين احتضنتني بذلك الشّغف الحار، وأحاطتني برعايتها غير العاديّةِ هامسةً، ‘من ريحة لِبلاد’ كانت تدسّ ذاكرتها سرّاً في عبّي، فتنتفخُ رأسِي وتدفعني مُجدّدا لاكتشاف مدينتي. يومها فهمتُ أنّني أمام حالة.
فرحتُ بِها كعادتي حينَ تُدهِشُنِي الوُجوهُ، فما لا أنساهُ أبدا أنّني اكتشفتُ مذاقَ القَهوةِ في بشرتهاواستسغتُ هالهَا على نحوٍ فاجأني، فنظراتها الّتي تسجِّلُ اكتشافا في كلِّ لفتة ظلّت تلاحقُ ابتساماتي، وخجلي النّسبي بينَ أناسٍ أراهم للمرّة الأولى حينذاك. في كلّ لحظة ينبّهني شرودها اللّحظي لحضورها بينَ عينيّ على المائدة.
مذاق القهوة توّهني لساعات. لا مشروب آخر يقدر عليّ كلون الكستناء ذاك. التفتّ إلى مضيفي، وهمست:كأنّها تعرفني. عقّب: تعرف حيفا. وخلال حديث مقتضب جرى في غيابها فهمتُ أنّني أمام فرصة نادرة لحوار نوعي مع وجه حيفا الآخر.
لا أنسى نكهة الحوار، ومساراته الكثيرة. لم تملك من الهدوء ما يكفي لتكتب، ولكن من الإنفعالِ ما يكفي لأسجّل عنها رواية. تفاصيل كثيرة. نظرات حانية صاخبة غاضبة ملوّعة. بحّة عميقة وتنهدات جارحة، وسيجارة لا تنطفىء.كانت جمرة تبعثر رمادما كلّما عصفت ريحُ المدينة بقلبها.سجّلتُهَا كلاما وورقا أضعته في معبر السّلام حين قرّر محقّقو الوحدة الخاصة على حدودنا العامرة بين المملكة وبيننا بالحمامات البيض، نبش كلّ قصاصة. ففي أعقاب مسيرة التّعذيب تلك كَرهتُ الورق، وكرهتُ عمّان وكرهتُ الجُسُور وسيناريوهات السّلام، واعتبرت السلام مفردة مُغرضة هدفها التضليل والمحو.فهم لن يقبلونا أبدا بأسطورة المكان الّذي نتقاتل معا، نحنُ وهم، على حقّنا فيه. أذكر أنّني دفعتُ دفاتري لكابينات فضاءاتهم كأنّني أختبر أجنحة طائرات ورقيّة متخيّلة في فضاءاتهم الحرّة. وهكذا خرّ الورق بين الأقدام مقتولا برصاص التهديد والوعيد.
على بعد سنوات تتنفس أوراق ليلى بين يديّ اعترافات وخرائط؟ فما يجري بين أوراق مغامراتها استعراض واسع لتاريخ النّضال الفلسطيني من أوّله، صعودا نزولا أماما خلفا وسط. تحليل نفسي دقيق لملامح أبطال يسطّرهم النضال الفلسطيني نجوما في ليل الصراعات الآنيّة على القيادة. والنّوعي فيما دوّنت بعمق انسانيّة خلفيّاتها أوّلا عبر استحضارها لشخوص نابضة بأبعادها الإنسانية الزخمة. هي في أذهاننا صور لأشكال نضال مسلّح، ولعلّ إيقاعها الإنساني العالي هو ما شرّع خطّ نضالها؟ فوديع حدّاد وجورج حبش ونايف حواتمه وأحمد جبريل، وياسر عرفات وسواهم أسماء تكوكب في عمق السّطور، وتكرج دمعا مثلما تكرج رصاصا. إخفاقا وانتصارا. غزواً وهزيمة، فرحا وموتا على حدّ سواء. بل يأخذنا الحدث الغيري إلى تفاصيل عمليات نضالية مركّبة هزّت عمق الضمير العالمي طالعت بعض تفاصيلها في رواية مروان عبد العال الأخيرة شيرديل الثّاني. ألفرق بينهما أنّ الرّؤيا التّاريخيّة لدى عبد العال تفنّنها الرّواية لتسحبك إلى الإنساني جدا في شرعيّة الحدث، والفِكري النّضالي لدى خالد في مصداقيّة ما حدث. تلك العمليّات غيّرت وجه القضيّة الفلسطينيّة آنذاك وشرعنتها، حيث فرضت منطقا نوعياّ لأشكال النّضال،. فاستراتيجيّة خطف الطّائرات في السّبغينيّات شكلت تكتيكا غير مسبوق في إيقاظ ضمير العالم الأجنبي والغربي على خطأ التّاريخ في تقسيم الخارطة، ووضعته أمام استحقاقات حتميّة يفرضها الحق والضمير والمصداقيّة. لقد استيقظت فلسطين كوابيس يوميّة في فضاءات مسلّحة بالإنتقام ما لم يتمّ إقرار حقّ شعبها في العيش بكرامة، كما سطت القنابل الفضائيّة الموقوتة على ما عداها من عناوين ولفتت الأنظار إلى أحزمة موت متحرّكة ستنسف الجميع بذات القدر من الإصرار واللامبالاه. ولعلّ المثير في حيثيّات الحدث أنّ شابّة فاتنة في مقتبل العمر قادته ببسالة ولباقة وثقة ومن خلفها سرب رجال. وبرأيي أن مرجعيّتها الجنسيّة كانت سببا في الحضور الطّاغي للقضيّة على محكّ السياسات والدّول. فشجاعة خالد وإقدامها شكّلا نموذجا يُحتذَى لأخريات تسلّحنَ بمنطق الكفاح المسلّح. والنّوعي فيما حدث أنّها نجحت باختراق عالم واسع كي تحلّقَ لدقائق وعلى ارتفاع منخفض فوق مسقط رأسها حيفا. هو تجاوز لم يدخل في حسابات الخطّة الأصلية لعمليّة الإختطاف. نفّذت العملية بدقّة وتمرّس تحسد عليهما خالد ورفائها، ودون إراقة نقطة دم واحدة، وأعني طائرة TWA بوينغ 840، في رحلتها المتّجهة من روما إلى أثينا ثمّ تل أبيب. على غرار ما فعله ثوّار البيرو حين اختطفوا أوّل طائرة عام 1931 .
في عجالة هذا الإستعراض تستوقفني الدّموع الّتي امتلأت في عينيها، واختناق صوتِها، يوم وصفت لي حول فنجان القهوة لحظة تحليقها المنخفض فوق حيفا. لا أذكر كم سيجارة انقتلت في صوتها، لكنّني أذكر تماما أنّ الّتي تحدّثت أمامي كانت منفضة محترقة بالحنين للبداية. هو ذات الصوت الّذي خرق أذني بين سطور الورق. كان تحليقها فوق مدينة طفولتها استفزازا للطيّار ولأجهزة دولة بطواقمها وعتادها. ودون شك مقامرة غير مأمونة العواقب، وهي تعلّق على ذلك قائلة ‘لحظة لا تشبه أيّ شيء آخر في حياتي’.
وصحيح أنّ الجبهة الشعبيّة استغلّت جسارة هذه المرأة لتجني مكاسب سياسيّة وحضورا رسمياً عبر الإعلام الغربي والعربي لكنّ هذا الحضور كان ملحّاً وفق تقديرات المرحلة. ذيوع صيتها جعلها فريسة سهلة للمتربّصين، ولعلّ ذعرها من تبعات ظهورها العلني شكّل سببا مضاعفا لدهشة مضاعفة، لكننا سنصاب بذهول بالغ إذ نكتشف أنّ ذعرها مصدره خشيتها من تعذّر استمرارها في العمل المسلّح.
هي جسارة غير مسبوقة لامرأة في ظلّ الشّروط السياسيّة آنذاك تنظيميّا واجتماعيّاً. وصحيح أنّ خالد غيرت رؤياها فيما يتعلّق بشروط الحوار مع الآخر الإسرائيلي عبر انفتاحها على حركات يساريّة محدودة تعترف بحق الشعب الفلسطيني في النّضال استعادة لأرضه، لكنّها لم توجّه بوصلة حنينها لخلافِ فلسطين.
رحلة شيّقة في عالم مناضلة ساحرة، حرارة خطابها يسابق كلامها، وربّما لهذا السّبب بالذّات يتنافس الواقع والمتخيّل على من يصل فيهما أوّلا إلى عرشِ حنينه.
حتّى وقت قريب اعتبرت انفعالاتي الغزيرة حين أعرض لشخوص رواياتي غير مسبوقة، لكنّي وجدتُ ليلى خالد تسجّل سبقاً، وهي تبلّل الورق بشظايا انفعالاتها، فمعها فَهِمتُ أنّ الوطن الّذي يصيرُ إلى كلامَ ينتحلُ الرّصاصَ ليثقبَ الورَق والوجوه والفضاء.

*حيفا..كاتبة فلسطينية
1