أحدث الأخبار
السبت 20 نيسان/أبريل 2024
رواية الأنثى: أظفار ناعمة تجرح ثقافة الذكورة!!
بقلم : عبد الدائم السلامي ... 28.08.2014

لا تُخفي ملاحظةُ معيشنا الراهن حقيقةَ تآكل مؤسّسة الرُّجولة العربية واستفحال هَدْر ما فيها من صفات الفحولة والقوّة والبأس. لا، بل هي مؤسّسة تشهد الآن أبشع أنواع نهب خزينها الرمزيّ الذي تراكم في مخيالنا الجمعيّ منذ أيام جدّنا يعرب بن قحطان. وإذا ما تماهينا، إلى حين فقط، مع ثقافتنا الذكورية في تصوّرها للأنثى، قلنا إنّ من أجْلى صور هذا النهب الرجولي هو اكتظاظ أقطارنا العربية بمظاهر التأنّث السياسي والاجتماعي والإبداعي. وهو تأنّث جعل الرجالَ «مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ»، وكشف للعيان أنّ وعينا الثقافي بكيان الأنثى ليس في جوهره إلا نتيجَ معيارِ ذكورة تتغيّا حماية فحولتها الزائفة.
ولئن كنّا نعرف أن الجهر بهذه الحقيقة، إذا صحّت فيها صفة الحقيقة، سيكون صادما للكثير منّا وجارحا لإحساسنا البيولوجي برجولتنا، فإن الرأي عندنا أن تلك الصدمة، وذاك الجرح، إنما هما سبيلان إلى إعادة النظر في منظومة قِيَمنا المسترجلة، و»تقشيرها» من طبقات صدئها الثخين. وإذ نقارب هذه المسألة بالتحليل، نعلن أن تفريقنا في الحديث فيها بين الأنثى والذكر (أو المرأة والرجل) لن يُخفي إيماننا بـ»وحدة الهوية الجنسية» لكليهما على حدّ عبارة ألفة يوسف.
ولكي ننزّل مقولة التأنّث منازل إجرائية، فضّلنا النظر في تجلّياتها الإبداعية، والروائية منها بالخصوص، وذلك بسبب ما لاحظنا من هَبّة أنثوية كبيرة إلى نجدة الفعل السردي العربي من كسله الدَّلاليّ. وهي هبّة حشدت فيها الكاتبة العربية كل غنجها الاستعاري والكنائيّ، وجميع عتادها اللغوي وكل رغائبها في التخلّص من دونيتها الاجتماعية والثقافية، لتكون روايتها رافدا تخييليا وفنيا يجدّد دماء السرد ويشحنها بحرارة الحياة. وهو ما لم يَبق معه من وظيفة للرجال الروائيّين، نعني المُكرَّسين منهم، سوى تمثّل دور شهريار، والاستماع الاستمنائي إلى «شهرزاداتنا» وهن يروين حكايات بطولاتهن في ساحات السرد.
يصعب علينا مقارنة عدد الإصدارات الروائية العربية المكتوبة من قبل الإناث بتلك المكتوبة من قبل الذكور ما بعد «زينب» لمحمد حسين هيكل، ولكننا نميل إلى القول إنّ نسبة إصدارات الرواية النسائية ما تزال ضعيفة مقارنة بإصداراتها لدى الرجال. بيد أن ضُعف تلك النسبة لا يجب أن يُخفي عنّا حقيقةَ التسارع الملحوظ لظهور عناوينها منذ تسعينات القرن الماضي إلى الآن، بل وانتشارها على كامل جغرافيتنا العربية. إذْ لمعت في سماء الحكي أسماء روائيات استطعن لفت انتباه القراء والنقاد إلى كتاباتهن، نذكر منهن على سبيل المثال رجاء عالم من السعودية، وليلى العثمان من الكويت، وهيفاء البيطار ولينا هويان الحسن من سوريا، وسميحة خريس وليلى الأطرش من الأردن، وهدى بركات من لبنان، ورضوى عاشور من مصر، وآمال مختار من تونس، وأحلام مستغانمي وآسيا جبار من الجزائر، وفاتحة مرشيد من المغرب، وغيرهن كثيرات.
وإنّ ما يميز كتابات هؤلاء الروائيات هو الجرأة، تلك التي افتقدها الروائي الجوائزيّ؛ جرأة في إخراج المرأة من هامش الحكي إلى متنه، أي الانتقال بها من تاريخ كتابي ظلّت فيه محكومة بحال المفعولية والانفعال، إلى تاريخ إبداعي صارت فيه صاحبة حال فاعلة ومتفاعلة مع نفسها ومع مجموعتها الاجتماعية ومع العالَم. وقد توسّلت كلّ كاتبة منهن مسألة التجديد في ثيمات السرد وتخيُّر ما يناسبه من تقنيتات فنية سبيلا إلى تحقيق تلك الغاية. وفي خلال ذلك، لم ينِ اهتمامهنّ ينصبُّ على تهشيم صورة المرأة في الذهنية الذكورية التي لا تزيد فيها عن كونها حاوية لذّة، وحلية يتزيّن بها البيت، أو صورة تُوشّى بها مفتتحات قصائد الشعراء. وهي ذهنية ذات ثقافة قامعة لكل ما يتصل بحقوق الأنثى، وتُسندها في فعلها القمعيّ قداسات الشرف والعفّة والخنوع.
ولعل هذا ما نلفى له صورة في رواية «ستر» لرجاء عالم، حيث تضع المرأة المُطلّقة في مواجهة شرسة مع جوع الذكور، بل هي تنتصر فيها للمرأة وتنتقد رغبة هؤلاء في استلابها ماديا ومعنويا. لا، بل وتتحرّش بزيف الرجولة وتكشف عن مقتها لضعف الرجال، إذْ تصفهم على لسان بطلتها بالقول: «آدم، رجل مخلوق من طين، من مادة ميتة باردة مصمتة، بينما حواء المرأة المخلوقة من ضلع آدم، من مادة حية، من لحم ودم ونبض، لذا تجيء استجابتها مختلفة تماما للحب، استجابة اللحم والدم غير استجابة الطين».
ومن الجرأة في تجاوز الدونية التي تردّت فيها المرأة، ما نقف عليه في رواية «نازك خانم» للسورية لينا هويان الحسن، حيث تسافر بطلتها إلى باريس تتغيّا التحرّر من قيود الشرق بثقافته الاجتماعية المنتصرة دوما للرجل عبر ما تكتظّ به من «ضجيج الإشاعات ومتسوّلي النمائم»، وهناك تعيش الحبّ كما ترغب فيه، وهناك تجرؤ على التعرّي بجميع تاريخ قهرها وفتنتها أمام الرسّام بيكاسو، لتخطف من زمنها الفيزيائي المنهوب لحظة فنية حُرّة لا يمكن أن تصل إليها ثقافة «سي السيد» أو أن تمحوها.
وما نرتئيه اختتامية لمقالتنا، هو قولنا إن ما يلاحظه القارئ من نعومة سردية في الرواية الأنثوية تشي بها جملتها السردية الهادئة التي يصدق فيها قول امرئ القيس «عظيمة حِلْـم إذا استـُنْطِـقـت/ تُطيل السكـوت إذا لــم تُسَـلْ»، إنما هي نعومة تُخفي في مُضمَراتها أظافرَ فنية وحكائية تجنح إليها الكاتبة لجَرْح جسد واقع قاهر لحريتها، وتحرير صمت جسدها الذي أخرسه تاريخ حافل بسلطة ذكوريّة رعناء، وجَرح شهرَياريّينا من الروائيّين المَهُوسين بالسلطة حتى في الكتابة، وهو ما يجوز لنا أن نسمّيه، ببعض الحذر المصطلحي، «التأنُّث السردي».

1