أحدث الأخبار
الخميس 18 نيسان/أبريل 2024
كلما ازداد إدراك الإنسان للعبث ازداد حنينه إلى الموت !!
بقلم : عمّار المأمون  ... 27.11.2014

الكاتب راهيم حساوي يقدم في روايته "الشاهدات رأسا على عقب" مشاهد ومفارقات من حياة معطلة في بلد يبدو وكأنه ينتعش بهزيمة بنيه.
دمشق- أن تكون منفصلا عن ذاتك، لكنك في نفس الوقت تتأمل هذه الذات وهي تعيد اكتشاف ما حولها وتتساءل حول علاقتها بهذا الموجود نظيرا لها، ثم تبدأ بعدها بطرح أسئلة حول قيمة ما هو موجود، هذه المحاكمة الوجودية لما هو قائم يقدّمها الكاتب السوري راهيم حساوي في روايته الأولى “الشاهدات رأسا على عقب”، الصادرة عن “دار العين”، حيث يقدّم حساوي صيغة جديدة لشخصيات هشّة تحاول تفادي سطوة العبث وثقل حضوره.
تبدأ الرواية بفعل هامشي لتنتهي بفعل يقارب الانتحار، راسمةً عبر سير السرد معالم مدينة غير محددة الهوية وحكاية غير مهمة في سرد راهيم، هي قصة “جابر” في مدينة يموت فيها صديقه “رشاد” بصعقة كهربائية ويلتقي جابر أخت صديقه “منار” في العاصمة ثم يحاول الانتحار.
أزمة الوجود
يواجه جابر في مدينته عالما ساكنا قائما على الخسارات، تتخلله شخصيات تشتبه بوجودها وحقيقته، ليعيد إثرها طرح الأسئلة المتعلقة بوجوده، وكأنه مصاب بالخدر.فكل شيء يخضع لتأملات نفسه وأحكامها، وكأن الرواية تسير حسب ما ينقله الراوي بصوته إلى الحضور لا عبر تسلسل الحدث كسبب ونتيجة، لنراه محاطا بشخصيات مهددة بالغياب، تتأسس علاقته معها على روابط لا تمتلك معنى حقيقيا، ما عدا ذلك الآخر، “سارق دهن العقول” أو بديع الزاهر، هذا الآخر “تضيق المدينة حين يكون فيها” ويفرض سطوته على الآخرين ليعيد تكوين ماهيتهم.
صدام شديد العبثية والقسوة يحدث بين جابر وبديع، حيث يقوم هذا الأخير بحبسه في صندوق ويرغمه على تناول حبات المشمش التي ظن بديع أن جابر يسرقها، قد يبدو الحدث مفاجئا وغريبا إلا أنه يرسم معالم الآخر ذاك الموجود كي يؤسس لحضوره لا كجابر الذي يقف قَلقا وجوديا أمام كل ما يحدث، بل أنه يحاول حتى تغيير ماهيته مفكرا في التبرع بكليته، إلا أنه يجد نفسه دائما في المقبرة حيث الشاهدات، حيث الموت أكثر وضوحا.
هذا الموت يقول ألبير كامو عنه إنه كلما ازداد إدراك الإنسان للعبث ازداد حنينه للموت، ثم جعل من الانتحار حلا لهذا العبث غير أنه رفضه لاحقا. في الشاهدات نرى راهيم يقدّم حلولا مختلفة، إذ نراه يقف أمام شاهدات قبور أولئك الذين عرفهم والذين لم يعرفهم، صديقه رشاد مات، يقف بحياد، وكأن الموت حدث عابر أو مجاني، نراه يتردد لزيارته ولا يذرف دمعة، فهو يرفض التورط في ما حوله إلا بالقدر الذي يريد، ليبدأ بعدها حديثه عن تلك المصادفة الغريبة، فبعد حادثة الصندوق التي أنقذته منها كنانة زوجة بديع الزاهر نراها تنتحر، لتنضمّ شاهدتها إلى شاهدات أولئك الذين ألفهم جابر واعتاد حضورهم -الموتى- لكن يبقى أثرها منتشرا في تصرفات جابر.
الكتاب يكشف متعة السقوط وغواية الهاوية
التغير في هذا السكون ينقطع حين تطلب منه نينار أخت منار أن يأتي ليزورها في المدينة، هناك، تشتدّ سطوة العبث، ويبدو ظهوره أكثر وضوحا، وكأن الجميع موتى، فالهويات كالشاهدات لا تحمل أيّة صفات مميزة للشخص ولا ما فعل في حياته، بل فقط تحدّد اسمه ومواليده، هناك في المدينة، نرى جابر أيضا يتورّط مع ذلك الآخر، فبديع يحضر، ويسرق دهن عقول منزل النسوة الذي تعيش فيه نينار والتي فقدت زوجها وتريد الآن أن تحصل على بديع، ذاك المارد القادر على خلخلة السكون وإعادة تكوين المعاني.
السقوط والانتحار
هناك ملامح للموت حاضرة دائما لدى شخوص الرواية، فهم دائما قريبون منه، لتحضر غواية الهاوية منادية جابر في النهاية، ليقف على حافة الجسر، محاولا السقوط، لا الانتحار، الانتحار ماهيته مدركة في عقل من يريده، أما السقوط فهو نشوة في حدّ ذاته، هو إثبات للحضور في لحظة الآن/هنا، إلا أن أصابع جابر تتشبث بالجسر، رافضة السقوط بل وتتمنى العودة إلى تلك السكينة الأولى، إلى تلك الاكتشافات الأولى لوظائف الجسد الذي يتيقن من وجوده فينتشي، فيتمنى بعدها العودة إلى الصخرة التي ذكرها في البادية حيث يكون “للتبول متعة وفلسفة جديدة”.
يعلو صوت الراوي بوضوح في الشاهدات، بل ونرى أفكاره حول الكون وحول جدواه واضحة تتخلل السرد، لتكون أصوات الشخصيات متشابهة أحيانا كأنها كلها تقف على حافة العبث أو ترفض الاعتراف به.في السقطة يقول كامو: “أمن المعقول أن يكون قرد هو الذي يتحكم بمصير هذا المكان”، أمّا لدى جابر فنرى أن القرد هنا هو معذبه، هو ذاك الذي حبسه في الصندوق وأحكم سيطرته على المدينة ثم العاصمة، الجميع مهمّش في حضور بديع الزاهر، في حضور سارق دهن العقول، السكون يكتسب حركة جديدة، وتصبح للأماكن ذكريات أعمق وللانتظار معان أخرى لتعلو قيمة اليقين الذي يمثله بديع أمام هشاشة الآخرين. فكل شيء يتغيّر بل حتى الطريق يختلف، هذا القلق الوجودي يتلخص في عبارة من محتوى الرواية تقول “تختلف الدرب عن الدرب وإن كانت هي ذات الدرب” فالأنا تعي تغيّرها في هذا الكون الثابت، أما الآخر فهو من يحدّد التقاسيم الجديدة التي من الممكن لهذا الكون ذاته أن يفيض بها!!

1