أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
«مبرومة» اللبناني عماد حمزة… أيّام تجترّ نفسها!!
بقلم : علي نسر  ... 21.04.2015

ليس من العدل أن نحصر رواية «مبرومة» للكاتب اللبنانيّ عماد حمزة- دار الفارابي- ضمن دائرة العمل الروائي التقليدي، نظرًا إلى الجبلة اللافتة التي تشكّلَ منها نسيجُ عالم هذا العمل، على صعيد الشخوص والأحداث من جهة، ومن جهة أخرى، على صعيد التعدّد في ملامح الأنواع النثرية المتوافرة في النص، التي قدّمت لنا ما يريد الكاتب تقديمه حول صورة مجتمع تتناسل فيه الأجيال فتجترّ أعمالها من دون تعديل ملحوظ على النفسيات، وكأنّ جيلًا واحدًا يتوالد فتتغيّر الأسماء والأشكال ويبقى المعدن الداخلي هو نفسه.
يقدّم الكاتب جردًا نقديّا لحوإلى قرن من الزمن، شهد فيه المجتمع اللبناني أو العربي أحداثًا وملمّاتٍ أسهمت في بلورة شخصيات الأفراد وثقافة الجماعات، فاستحال الإنسان خبيرًا في امتهان الرّذيلة والخطايا، مسوّغًا أعماله، معطيًا نفسَه الحقَّ في ما يفعله عبر شواهد فيها الكثير من التلاعب على الأخلاق الاجتماعية والقانون والشرع الديني.. بدءًا بالتهريبات عبر الحدود، مرورًا باحتيال أصحاب الحملات إلى الحجّ، بالإضافة إلى تسليط الضوء على بعض الصالونات الأدبية التي لا تعرف من الثقافة سوى الاسم، وصولا إلى تعرية بعض الوسائل الإعلامية والثقافية الاستغلالية التي تعمل على إيصال من لا يستحق الوصول مقابل مبالغ طائلة من المال..
ثلاث شخصيات فقط، تجعل القارئ يشعر بأنّ في الحياة طيبة وأخلاقًا وتسامحًا، وهي (مأمون الدبّاغ وسهجنان الحماة وزوجها الدكتور مطرود)… لكن هذه الشخصيات شكّلت نقطة مغمورة في خضم الشخصيات الأخرى.. إذ استطاع الكاتب عبر العديد من أبطال نصه أن يُشعرنا بأننا على تخوم (سدوم)، حيث الشرّ المسوّغ يفوق الخير الخجول، والرذيلة تهشّم بأظفارها المتنوّعة الفضيلة اليتيمة، فيتنحّى الحبّ العذري ليسيطر الحبّ المادّي الغريزي مولّدًا صدمة شبه وجودية لمن كانت الحبيبة لديه حلمًا وطيفًا، فيفاجأ في لقائها بعد سنوات، حين تسخر من طهارته، محاولة مراودته والتقرّب منه جسديًّا.. هذا ما اضطّر الكاتب إلى أن يقحم شخصية شبه دخيلة لتجسيد هذه الحالة محمّلًا إياها اسمه الحقيقي.
يذكّرنا الكاتب في استعراضه هذا، برواية «الزيني بركات» للكاتب جمال الغيطاني، حيث استغلال الحدث التاريخي القديم لتسليط الضوء على صورة الواقع، فرأى الغيطاني أنّ التاريخ يعيد نفسه، وما كان سببًا في هزيمة مصر المماليك تكرّر في ستينيات القرن الماضي ليولّد نكسة لمّا نخرج منها بعد.. وكذلك فعل (حمزة)، عبر استعراض بعض الممارسات التي تعود إلى ما يعادل المئة من الأعوام، للتحذير من أنّ الحياة دورة حلزونية ودائرية يلتقي التاريخ فيها في نقطة واحدة… فمن (أبي دعاس) الذي يرمز إلى حارس الحدود الفاسد، المرتشي الذي أسهم في دخول الناس بطريقة غير شرعية إلى أراضٍ مؤتمن عليها، عالمًا بتهريبهم وتزويرهم، إلى أبي القاسم الذي واجه الشرَّ بالشرِّ، من دون أي إشارة إلى ندمه، وفي ذلك اعتقاد خاطئ بأنه ينتقم لأحد مرافقيه في القافلة التجارية وزوجته، فكانت النتيجة جريمة مروّعة ضحيتها ابنة أبي دعاس، التي لا ناقة لها ولا جمل في المؤامرة على أبيها، فقتلت على يده قبل انتحاره.. وصولا إلى انعدام الأخلاق لدى عائلة الكرّام، بدءًا بالجدّة التي جمعت ثروة عبر الربا والفوائد، وكانت النتيجة موتها تحسّرًا على ضياع تلك الثروة، مرورًا بأبنائها الذين تخلّوا عن والدهم الذي ذاع صيته على طول الوطن، حيث اهتمام رئيس الحكومة به، وصولًا إلى الأحفاد والحفيدات الذين أعادوا الكرّة ثانية. وكأن الكاتب يريد الإشارة إلى أنّ العقاب جاهز لمن يرتكب مثل هذه الأعمال الدنيئة، علمًا بأنه شبه مصرّ على ضربة الحظ التي قد تنتشل المرء من بئر الحرمان والفشل، كما هي الحال مع سهجنان الصبية التي لم تترك فرصة للوصول إلا واستغلتها، ومنها توظيف جسدها المستباح لمن ترى فيه بابًا للوصول وجني المال… وهذا يدحض رؤية الكاتب ونظرته إلى ضربات الحظ، لأنّ البطلة الأساس لم تنتظر حظها ولعبة الأيّام عبر الصدفة، بل عرفت كيف تستغل مهاراتها، وهذا يشير إلى أنّ الحظ سلاح يتمسك به الفاشل ليرمي عليه حمولة فشله.. فالحياة لعبة شطرنج لا طريق واضحا وأساسيًّا للحظ نحوها.
وبطريقة روائية، يشدّك فيها النفس الكوميدي في بعض الحوارات العامية التي أتخمت بها الرواية، وبأسلوب فيه من فن المقالات الكثير، ومن خلال تدخّلات الكاتب غير المسوّغة أحيانا، إذ لم يكتف بإطلاق المعرفة لراويه العليم، بل غالبًا ما كان يكسر فنية السرد بتدخلاته عبر ضمائر المتكلم الواضحة، وعبر توجهه نحو المتلقي وكأنه في محاضرة أو خطبة، محللا ومستنتجًا، وعبر مزج التخييل بأحداث واقعية يشير بعضها إلى أن الزمن السردي يدور في السنة الأخيرة عبر عرض قضية الفضيحة التي كشفتها إحدى الموظفات مع محافظ المدينة، وعبر ذكر بعض المؤسسات المعروفة بأسماء فيها من التمويه والطريق الملتوية الكثير. عبر كل هذا، استطاع الكاتب أن يشدّ القارئ لمعرفة مصير الشخصيات، حاشدًا بعض الأحداث التي تشير في البداية إلى أنها دخيلة تشبه الحمل خارج الرحم الروائيّ، وكأنّ أيّ هزة قد تجهضها من دون أن تؤثّر في مسار الأحداث، لكن سرعان ما يتبيّن أنّها استطراداتٌ لا بدّ منها، عرف الكاتب توظيفَها وربطَها بالأحداث الأساسيّة، مقدّمًا من خلالها بعضَ المعارف والفوائد العلمية والفلسفية والاجتماعية..
أمّا من الناحية البنيوية، فقد سيطر العنصر الزمني
بصورة واضحة، عبر مفارقة الاسترجاع الخارجي القريب والبعيد، بالإضافة إلى تقنيّات التسريع والإبطاء، وأكثر ما كانت متوافرة تقنيتا الوقفة الوصفية للتفاصيل الدقيقة التي كان يمكن الاستغناء عن بعضها، والمشاهد الحوارية التي عطّلت السرد… بالإضافة إلى الشخصيات وما يحرّكها من حوافز شكّلت ترسيمة (غريماس) العاملية بشكل جليّ.. أمّا الراوي، فكان برّانيّ الحكي ينتمي إلى صوت الناظم الخارجي، لكنه سرعان ما كان يتدخل فيستحيل ناظمًا ذاتيًّا مولّدًا إحراجًا للكاتب نفسه الذي لم يترك للقارئ أحيانًا كثيرة لذة الاكتشاف والاستنتاج نتيجة تدخّله وامساكه بزمام التحليل وكشف ما يودّ المتلقي كشفه بنفسه…

كاتب لبناني
1