أحدث الأخبار
الجمعة 19 نيسان/أبريل 2024
«راعي الفرح» للمغربي عبدالجواد عوفير: القلب يلمس الأسى بالأصابع!!
بقلم : محمد بنميلود ... 07.07.2015

الشعراء يقولون ما لا يفعلون، لكن أكثر ما لفت انتباهي في تجربة عبد الجواد العوفير الشعرية، هو أنه يكسر هذه القاعدة من أساسها، إنه يقول في الشعر ما يفعله في الواقع، رغم أن الشعر في حد ذاته هو الفعل، وأن الشاعر ليس مطالبا بذلك دائما، وربما ليس مطالبا بذلك على الإطلاق، لكن المطابقة هنا إضافة نوعية يتأسس على ضوئها ما يأتي، إنها الحسية في الصورة وتكثيفها شعوريا ولا شعوريا، لتأخذ ملمحا إنسانيا حتى في حالة التجريد، وهي في النهاية توليفة صعبة بين الحقيقة والخيال وإبداع شكل كتابي خاص ومتجاوز منفصل عن المباشرة والتكرار، لكنه مرتبط في الوقت نفسه بشيء ما في الأرض يتنفس ويرى ويلمس باليد وبالقلب: في السماء نرى الطائرة الورقية تحلق، رغم أننا لا نرى الخيط الذي يربطها بيد الطفل، إنها القصيدة في منتهى تحليقها الفاتن وشفافيتها وقدرتها على إيهامنا بأنها بلا خيط يربطها بثقل الأرض، توهمنا أنها للا أحد، إنها لنا.
قد يكون هذا مدخلا حذرا للاقتراب قليلا من تجربة الشاعر، وليس للإحاطة بها ووضعها في إطار، بل هو مدخل فقط للإطلالة بحذر على ذات الشاعر الخفية. مفردات قصيدة عبد الجواد العوفير هي مفردات حياته، ببساطة شديدة.هي عتبة واضحة وبيضاء يقف عليها ليطل على اللامتناهي في ذاته في الوجود وفي اللاوجود، إنه يكتب ما يراه، ما يلمسه، وما يعيشه، من دون مبالغة أو افتعال، فحتى حين يبدو منجذبا أكثر لوصف حدائق سرية لا أحد يراها أو يعرف الطريق إليها، أو عوالم مخفية بلا حدود وبلا منطق مألوف:
أذكر معبرا سريا
تحت البيت
حيث كائنات بوجوه ممسوخة
تقرأ بوقار
قصائد شعراء
لم يخلقوا بعد
نساء يغسلن أقدامهن
في نهر شبقي
حديقة البيت القديم ص 54
فهو لا يكون بصدد الحديث عن شيء خارجي بعيد عن ذاته وحياته، بل هي جزء من الواقع بالنسبة له، إنها كنوز الطفولة، صور منفلتة ومشعة تطارده أينما حل أو ارتحل، يتحدث عنها للأصدقاء، يصف ممراتها وردهاتها وأسوارها بدقة، ولا يبدو من صوته ونظراته أنه يبحث عن شيء في خياله، إنه يصف ما يرى، مشيرا بإصبعه في الفراغ إلى لا شيء، مؤكدا صدق رؤاه، إن صار عبد الجواد العوفير صديقك يوما، فستطاردك أنت أيضا حدائقه السرية وعوالمه المطمورة فوق صناديق بلا نهاية من الذهب الوهمي النادر، ولن تشعر حينها بغرابة أو شك في الأمر، بل بالألفة والثقة في الخيال الخالق القادر على تأكيد مخلوقاته وتدبير شؤونها في اللامرئي:
بيد الطفولة نلمس كل جامد
فيصير كائنات لطيفة
«حديقة البيت القديم» ص 53
نافذة أخرى نستطيع أن نطل منها على تجربة عبد الجواد العوفير، هي أيضا نافذة في بيته وليست اصطناعا لغويا، أو مجازا للزخرفة الزائدة، إنها نافذة العزلة، هذه النافذة تفضح روح الشاعر أمام العالم، تعريه وتغتصبه:
المنعزلون في سلال القش في الصبيحات الحادة كسيف
يجمعون ريح الصباح
ويعودون وفي سلالهم ذواتهم العالية
تطل كعصفور دوري
«المنعزلون» ص9
إنها وحدة الكائن القاسية مقابل مصير وجودي غامض. العزلة في شعر عبد الجواد العوفير هي ثيمة لا تنتهي ولا يؤنسها شيء، إنها الأم التي يختلط حليبها في فمه بكلامه، الأم التي لا تفطم. عندما يكتب العوفير عن العزلة يقصدها في ذاتها وفي ذاته، لا يدعيها، إنه وحيد بالفعل، داخل ذاته وخارجها، ماديا ومعنويا، وحيد ومنعزل باختياره ورغما عنه، إنه عائلة نفسه وأقرباؤها، لقد فقد الجميع باكرا، أبواه ماتا وهو في بداية شبابه، ومن فقد أبويه فقد فقد الجميع، ولم يبق له سوى الكتب والكتاب الموتى والمجهولين ليصيروا عائلته الغائبة، تزوج في سن الثامنة عشرة محاولا تعويض دفء العائلة بزوجة وبيت، لكن حنان الأم لا يعوضه حتى المطر الغزير، دام الزواج سنتين على الأكثر، بعدها لم يعد محتاجا لتعويض شيء بشيء آخر، فالعزلة والشعر القليل أفضل من حياة طويلة داخل مؤسسة وطقوس والتزامات كثيرة بلا هدف، وبلا مجد، والنساء بالنسبة للشاعر هن شبقيات الأحلام السحيقة:
هن الجدران
قلت في حلم الطفولة
هن أبواب غرف سفلية
هن الدهليز الذي يقود للروح
هن الشرفات
هن الكنبات
هن العتمات الصغيرات التي تجلس على أفكار الشاعر
وهن من سيجلس على قضيب الليل
«شبقيات الأحلام السحيقة» ص29
روح الشاعر مثل نحلة تطير من وردة إلى وردة، وحين تلسع تموت، روح عبد الجواد العوفير تطير من امرأة إلى امرأة، من أم إلى أم، قاتلا الأم فيهن، إنهن الجمال الأبدي المرهف الخائن جبريا، هكذا يحافظ عبد الجواد العوفير على عزلته العميقة ويحميها بكل جوارحه ضد أي اطمئنان. البحر يتكرر أيضا هديره بقوة في كل ما يكتبه عبد الجواد العوفير:
دودة البحر التي تخرج الأسماك إلى النزهة
على اليابسة
وتبتلع الكون
«دودة فتحت بابا في الفراغ» ص14
لكن البحر في قاموس العوفير ليس استعارة مجانية لارتباط الشعراء الكلاسيكي بالبحر وضرورة الهيام به والكتابة عنه، بل هو وفاء الجار لجاره، فبيت الشاعر في حي المحيي في الرباط يبعد عن البحر مسافة مئة متر على الأكثر، حيث يستطيع أن يسمع هديره آتيا عبر الجدران حين تصمت المدينة أو تسهو، همهمات البحر هي الشعر الذي يسرقه عبد الجواد العوفير من الهواء المالح الذي يستضيفه كل ليلة، إنه يأتي من ثرثرات الأمواج، وعبر خطوات الصيادين وهم متجهون قبيل الفجر بصمت إلى العاصفة، بقصبات هزيلة، وسعال متقطع في الضباب، وخطوات لا تنزلق.
في قصيدة «مقهى 6 زنقة روما» قد يظن القارئ أن الشاعر يعشق روما، وروما ترمز إلى ذلك العالم الحالومي خلف البحر، عالم يغري الشباب المغربي بعبور البحر حتى الموت، لكن من يعبر ذاته لا يعود بحاجة لعبور البحر، وروما في القصيدة ليست بالصدفة شيئا آخر سوى اسم زقاق بحي المحيط يفضي إلى شاطئ صخري متلاطم، فلا شيء يربط العوفير بما لا يراه ولا يلمسه سوى عالم صوفي سري يتجاوز فيه الحدس المرئي والملموس، أما ما عدا ذلك فالاستعارات واضحة وملموسة، وهذا هو سر سحريتها داخل نصوصه، ينطلق من الواقع ليحوله بلمسة الساحر إلى خفة وفراشات وفقاعات صابون تلمع بحدة في الهشاشة، زنقة روما هي الشارع الذي تطؤه أقدام الشاعر كل يوم، والمقهى المقصود هو مقهى بسيط في نهاية الشارع على اليمين:
الرابعة صباحا
يفتح المقهى حزنه لي
المقهى الهابط جهة البحر
يجالسني فيه هواء
زارني في طفولتي الناعمة
لا يوجد فيه نادلون
المقهى الخريفي الذي زاره الخريف قبل أوانه
«مقهى 6 زنقة روما» ص 113
وأنا أقرأ هذه المقاطع التي تصف مكانا ما ملموسا ومرئيا بالنسبة لي هو مقهى في حي المحيط في الرباط هو مقهى 6 زنقة روما أو مقهى الأشباح، كما يحلو له أن يسميه، ولهذه التسمية قصة طويلة مع شخصيات شبحية تأتي من مقبرة البحر من القلعة المهجورة على الشاطئ ومن العالم السفلي، كما يقول لي، مشيرا إلى بعض رواد المقهى غريبي الأطوار، وأنا أصدقه في ما يزعم، من دون أن أشك، رغم أننا معا نخفي وراء الحديث عن هؤلاء الغرباء بجدية مفرطة ضحكة مجلجلة.
وأنا أقرأ مقاطع القصيدة يتحول ذلك المقهى الصغير الذي أعرفه، يتحول في خيالي إلى مقهى دافئ وأبدي يوجد في كل مكان وزمان وخصوصا في الحلم. إنها حياة الشاعر البسيطة والسحرية يحولها بخفة الساحر الذي يخرج فيلا من قبعة، يحولها إلى خفة كثيفة كل شيء فيها ممكن وأبدي.

في قصيدة باب في الفراغ نقرأ:
الباب المعلق بحبل سري في الفراغ
يحدق بعينين واسعتين ومرعبتين
ص 89
هذا الباب الذي يفتحه الشاعر على مصراعيه أمام القارئ ليس هو بشكل من الأشكال في الحقيقة سوى باب بيته المفتوح دائما للأصدقاء واللصوص على حد السواء، هل تستطيعون أن تتصوروا معي أن باب بيت عبد الجواد العوفير هو فعلا من دون قفل؟ إنه كذلك، وهذا ليس مجازا أو مبالغة متحمسة في الوصف، بل هي الحقيقة، فبابه من دون قفل منذ أكثر تقريبا من سنة وهو يغلقه فقط بورقة، إن أراد أحدكم أن يسرق شيئا من أشياء عبد الجواد العوفير، ما عليه سوى التوجه إلى الرباط، حي المحيط، زنقة روما، المنزل رقم 6، ادفع الباب بكتفك أو بقدمك وستجد نفسك في الداخل، الغريب هو أن لا أحد يفعل ذلك، فاللصوص يخافون من الأبواب المفتوحة، والقلوب المشرعة، وأصلا لا أحد يجرؤ على سرقة شاعر، لا أحد يجرؤ على سرقة الوهم، وعبد الجواد يستمتع بالمخاطرة ويصر على ترك كل شيء من دون قفل.
إذن الاستعارات والمجاز الذي يكتبه عبدالجواد هو حياته، وليس شيئا آخر مفتعلا، إنه يحول حياته إلى شعر، ويحول شعره إلى حياة.
هذه المجموعة الصادرة عن بيت الشعر في حلة أنيقة من الحجم المتوسط بـ26 قصيدة، بعنوان راعي الفراغ، تلخص تجربة الشاعر بكثافة وشفافية نادرة، إنه شاعر حديث بامتياز، متحرر من كل ما يثقل القصيدة وينحرف بها عن طريقها من قافية وأوزان وشعارات إيديولوجية وسياسية، وملتزم فقط بجوهر الشعر، وفي الوقت نفسه متحرر حتى من موجة الحداثة التي قد تهدم فقط من أجل الهدم، بل يكتب عبد الجواد العوفير من داخل حداثة رزينة ورصينة، تهضم روح الشعر والتراث الثقافي العربي والعالمي، وتعكسه في قصائد قصيرة، متخففة من حيث اللغة والبناء، لكنها عميقة، متجاوزة، ومتحررة كهواء، إنه بالإضافة إلى قلة من الشعراء المغاربة يؤسسون لحداثة حقيقة نابعة من عمق الذات.

٭ شاعر وكاتب من المغرب
1