أحدث الأخبار
الثلاثاء 23 نيسان/أبريل 2024
"حمامة القنصل" شهادة مبكرة على جرائم الاحتلال الأميركي!!
بقلم :  جميل الشبيبي  ... 22.07.2015

الاحتلال لا يخلف وراءه إلا جراحا لا تندمل، يترك علاوة على دمار البلد المحتل دمارا لا يمحى كوشم أبدي في الذكريات والنفوس المنكسرة، الاحتلال الأميركي للعراق لم يشذ عن تخليد الوجه القبيح للغزاة، هذا الوجه الذي نكل بالعراقيين في ظلمة السجون وأسلمهم فرائس للمهانة واليأس، لكن ماذا لو كان المعتقل كاتبا، يخرج ليكتب لنا ما كابده؟ هكذا فعل القاص العراقي محسن الخفاجي الذي دون في كتابه “حمامة القنصل” جرائم المحتل وأهوال الاعتقال.
ينتمي القاص العراقي محسن الخفاجي إلى جيل وسط بين الستينيين والأجيال اللاحقة له، فقد نشر قصصه عام 1967 وهو في سن مبكرة، ثم واصل عطاءه بعد السبعينات من القرن العشرين، وهو مثل العديد من المبدعين العراقيين الذين يعيشون على الهامش في مدينة الناصرية، لم ينل حظا وافرا من الأضواء التي سلطت على تجربته القصصية والروائية، وهو إلى جانب كتابته السردية مترجم وناقد.
تعرض القاص محسن الخفاجي إلى الاعتقال التعسفي من قبل القوات الأميركية عشية احتلالها العراق في شهر نيسان عام 2003، وأودع سجن بوكا، جنوب البصرة، لأكثر من ثلاث سنوات بتهم ملفقة، وخرج من السجن محطما بسبب شلل نصفي أصابه بعد الإفراج عنه جعله حبيس الدار إلى حين وفاته منذ سنة تقريبا.
ما أشبهني بخروف
كتب القاص محسن الخفاجي عن تجربته في سجن بوكا مجموعة قصصية بعنوان “حمامة القنصل” تخلى فيها عن “أسلوبه الأنيق الذي عرف به، من أجل أن يقول كلمته عن تجربة استثنائية تفرد بها كأديب عراقي يتعرض للاعتقال من قبل القوات الأميركية”، كما يقول أحمد ثامر جهاد في العتبة: وكان “يأمل أن تكون شهادة حية عن تجربة لم يعشها سواه من الأدباء والكتاب العراقيين”.
تبدأ قصة “قطرات من ماء السراب” بمقطع بانورامي يحشد فيه القاص تكثيفا دالا لما يجري في السجن “إذا وصلت إلى بوكا فتذكر أنك في الوادي المقدس؛ هنا تعذبت أرواح، وتوقفت أعمار طوقها الغزاة بسيل رصاص متواصل”، ثم يعدد عذابات السجناء من قتل برشقات رصاص، وحياة مهينة مع الذباب والفئران والعقارب والأفاعي من كل صنف، ودرجات الحرارة القاسية، ووقائع صراعات طائفية مميتة، قائلا “تحتاج هذه الرمال إلى صلاة”.
تعتمد تقنية القصة على مقاطع مشهدية تستفيد من خارطة السجن الذي قسم إلى مجموعة من الخيام الكبيرة، كل منها تضم مجموعة من السجناء، ويؤكد ذلك استثماره لضمائر متنوعة في السرد، يتصدرها ضمير الأنا باعتبار القصة شهادة عيانية للقاص، فيما تسرد الأحداث الأخرى بضمائر الغائب والمخاطب، وهي تقنية انفتحت على فضاء السجن الكبير الذي أقيم في صحراء ناحية أم قصر العراقية الحدودية لأسباب لا تخلو من مغزى يتعمده الأميركيون غالبا، فقد قاومت هذه المدينة الصغيرة المحتلين الإنكليز مقاومة شرسة، ولم يستطيعوا الدخول إليها إلا بصعوبة، وبهذا سيكون سجن بوكا فيها، رمزا لاحتلال بلد وشعب، خصوصا وأن السجن قد ضمّ البدوي، وابن المدينة والعسكري، والوزير.
وفي نهاية المقطع الأخير من هذه القصة يجد القاص نفسه في غرفته يتنهد بعمق ويسمع إطلاق نار ابتهاجا بعودته إلى بيته، لكنه حين يرى قصابين يقطعون ذبيحتين بسكاكينهم يقول “ما أشبهني بخروف مزقته السكاكين”.
من أكثر الحكايات دلالة تلك التي تتعلق بشخصية البدوي، الذي استنشق الحرية في فضاء الصحراء الرحب، ثم وجد نفسه في فضاء ضيق. أحد هؤلاء البدو احتج بصوت عال على اعتقاله قائلا إنه راعي غنم، و”رموا عليّ شبكة كما لو كنت سمكة”، ثم يتساءل: هل الخراف أسلحة دمار شامل؟ وهل الناي قاذفة قنابل؟ وتوكيدا لسخطه واحتجاجه رمى حذاءه على المسؤول الأميركي الذي لم ينجح في تفادي الضربة. أما المقطع الثامن عشر فيسرد حيرة بدوي آخر اعتقلوه وصادروا جمله، وهو يعلق على مشهد كلب يدخل ويخرج من الأسلاك الشائكة “أترى هذا الكلب؟ إنه أسعد مني إذ سيعود في المساء إلى بيته حتى لو كان مزبلة”.
في القصص الأخرى من المجموعة أضواء كاشفة عن الإرهاب الذي يمارسه المحتل على السجناء الذين أودعوا السجن بتهم أكثرها باطلة أو غير محددة، وفي عبارات موحية من عدة قصص نلاحظ ذلك الخوف من مصير مجهول يتنفسه المجندون وهم يرون أنفسهم في أرض غريبة.
وجه المحتل القبيح
يقول أحد المجندين “أنا تركت البحيرات الصافية في الوطن وجئت إلى بلد العقارب والأفاعي”، ويقول آخر “نخشى أن يقوم السجناء بشغب مفاجئ ولا نستطيع السيطرة عليهم بعددنا القليل هذا”، وفي نفس القصة يصرح آخر “الموت لديهم هيّن، لدينا ما يمنعنا من الموت بهذا الشكل المضحك (…) نحن مسلحون وهم عزل”.
في قصص أخرى سرد لمعاناة السجناء العراقيين وظروف حياتهم القاسية والتهم الباطلة التي تطوّق رقابهم.
في قصة “المحكمة المفترضة للمتهم البريء” لقطات حية عن أجواء التحقيق مع المتهمين، وتعنت القضاة الأميركيين في إلصاق تهم بالسجناء دون أدلة أو شهود عيان، وفي هذه القصة يصرح السارد/ القاص “المحققون رموا عليّ تهما عديدة بلا أدلة ولا شهود ولا يمكن الفكاك منها”، وفي المحكمة التي رآها في الحلم -وهي ضمن الواقع فعلا- يرى هيئة المحلفين “جوقة من نسور صلعاء يقلبون أوراقا لا بدّ أنها تعنيني، ويشتد زعيقهم ورفيف أجنحتهم”، أما التهمة فهي إهانة مجندة، والمجندة المقصودة هي المجندة جيسيكا لنش التي وقعت أسيرة بيد القوات العراقية في الناصرية، ولم يكن للقاص علاقة بها والأهم من ذلك أنها نفت تعرضها للإهانة من قبل القاص “وهددت أنها تحمل المحققين أي خطأ يقترفونه ضدّ سمعتها بعد أن أصبحت بطلة قومية”.
في إجابته على أسئلة المحققين يؤكد السارد/ الكاتب أنه سيكتب عنهم ويفضح “هذا الزيف، ينبغي أن تعرف الأجيال هذه الجرائم التي لحقت بأبرياء لتتم محاكمة جثثكم في المستقبل”.
وفي قصة “حمامة القنصل” مفارقة إنسانية بين سجناء يعيشون وسط ظروف قاسية جدا وبين الجنود المحتلين، حين أمسك الشرطي السجين عاشور بحمامة زاجلة وهي تتمشى قرب الكرفان، خلال ذلك حاول ومن معه من السجناء ترتيب وضع مناسب لها وخصوصا بعد أن اتضح لهم أنها حمامة القنصل الفخري البريطاني في جدة، وأنه طلب ممن يعثر عليها عدم إيذائها وترك رسالة تحدد المكان الذي وصلت إليه وزمن الوصول، ووقت إطلاقها، الأمر الذي جعل الجميع يقدمون لها أفضل الوجبات المقتطعة من طعامهم الشحيح، انتظارا لنمو ريشها الذي انتزعه عاشور قبل أن يطلع على رسالة القنصل.
يحاول المجندون أن يستأثروا بالحمامة خشية من استغلالها لإيصال صوت المعتقلين إلى العالم من خلال القنصل الإنكليزي، وفي نهاية المطاف ينقل المعتقلون إلى سجن آخر وتبقى الحمامة بأيد غير أمينة لها، لتكون نهاية الحمامة على أيديهم الملطخة بالدماء “في طريقنا مررنا بحلقة من الجنود الأميركيين يطوقون الحمامة ويطلقون النار عليها من كل صوب وهم يتسلون ضاحكين”.
وفي رسالة محسن الخفاجي البليغة إلى الرئيس بوش تبدو الإدانة واضحة لأقوى دولة في العالم وهي تخشى كاتبا مسالما لا يملك سوى قلمه وأوراقه البيضاء.

1