أحدث الأخبار
السبت 20 نيسان/أبريل 2024
جاكلين سلام: سنوات الثورات الخمس ستنجب كتابة جديدة !!
بقلم : إبراهيم حسو  ... 09.10.2015

الخارج من بلده إلى المنفى البعيد يحمل حقيبته المثقلة ويمشي في جنازة نفسه، فيتكرر موته كل لحظة بينما عيناه شاخصتان وهو يدرك في قرارة ذاته أنه لن يعود للعيش في وطنه، هذا الوطن الطارد لأبنائه، هكذا هي حال الهارب من أرضه الأم. “العرب” حاولت رصد وقع الهجرة على كاتبة عانت منذ ما يقارب العشرين عاما هولها ونارها وجليدها مدوّنة تفاصيلها، الشاعرة السورية المقيمة في كندا جاكلين سلام، التي التقينا بها وأجرينا معها هذا الحوار الذي أتاح لنا اكتشاف عوالم الشاعرة والغوص أكثر في تجربتها الشعرية والنثرية.
الشاعرة السورية المغتربة جاكلين سلام تركت مدينتها “المالكية” في أقصى الشمال السوري وأقساه، في سنوات متأخرة من حياتها، لكن مدينتها لم تتركها، فقد عاشت مدينتها في قصائدها وأحلامها وألبوم صورها، هاجرت إلى كندا سنة 1997، لتستقر في مدينة تورنتو وتبدأ رحلتها مع الكتابة والصحافة والترجمة، لتخلف أربع مجموعات شعرية “خريف يـذرف أوراق الـتوت”، و”كريستال” و”رقص مشتبه به”، ثم يليها كتابها الرابع “المحبرة أنثى”.
على الرغم من هذه السنوات الطويلة بقيت جاكلين تكتب عن سوريا وعن “المالكية” وعن ناسها، عن الحرب والخوف وسنوات القهر وويلات القتل المجاني والتهجير القسري، تكتب كل ذلك شعريا وقصصيا ونثريا، سواء في الصحافة أو مختلف المنابر الإعلامية، فهي تكتب بروح أنثى تخوض معركة البقاء لأجل انتمائها، أو لنقل بروح تقاتل لفرض اشتراطاتها الوجودية، إنه صراع خفي في مواجهة الأنا لكشف الذات المتأججة، روح تطلق العنان لتمردها وانفلاتها فكتابة جاكلين ما هي إلا رحلة البحث عن الذات الأخرى المهاجرة التي تخلت عن كل شيء في سبيل إيجاد جاكلين أخرى، فاكتشفت طفولتها الممحاة ونوافذها المفتوحة على الأبدية والعالم للتخلص من تلك الوحدة والعزلة التي رسمتها في مجمل كتبها الشعرية.
امرأة بين عالمين
تبدأ الشاعرة جاكلين سلام حديثها عن هجرتها: كسبت هامشا من حرية التعبير، كسبت مسافة تمكنني من النظر إلى الأحذية والأجساد والمكانس بنفس الحساسية الشعرية، كما كسبت قلقا إيجابيا يحفزني على إعادة النظر في أفكاري المكتوبة في القصيدة والمقالة، فعثرت على طيات صوتي. تعلمت أن أقرأ الأدب الإنكليزي والكندي وأحاور كتابا وفنانين من كل العالم مهاجرين مثلي، لذا كتبت كامرأة على حافة العالم. كتبت في الصحافة وفي كل مجالات الإبداع أكثر بكثير مما نشر وطبع لي ورقيا. ولولا العلاقات الشائكة مع دور النشر لصدرت لي حتى كتابات متفرقة في المقال والقصة والسيرة وأدب الرحلات والترجمة. كذلك تعلمت أن أكتب السخرية المرّة.
تضيف: خسرت بيتا وعائلة ولغة وكتبا وعلاقات عامة وخاصة قديمة، وأيقنت أن في سوريا بيتا لم يعد لي. تعلمت أن كندا ركن آخر من هذا العالم القصي يتسع لمداد محبرتي.
معظم الشعر السوري النسوي بشكل خاص لم يحظ بالمفاجآت كما هي حال الشعريات العربية الأخرى كالشعرية اللبنانية، تعلق الشاعرة قائلة: لم يترك الأدب العالمي على مرّ العصور موضوعا إلّا وتناوله بمختلف اللغات والأساليب، وأمّا الطفرات الإبداعية فسرعان ما تصبح نسقا مملا. الكيفية التي نقدم بها صورة شعرية عن الحرب، أهم من موضوع الحرب. وقس عليه الحلم والحب وغيرهما من المواضيع. لذلك فقليل من الإيروتيكا اللبنانية، وكثير من السوريالية الخليجية لم تضف تجديدا جماليا خلاقا يعتدّ به حسب رأيي. أما السوريون المبدعون فكانوا ولا يزالون على الهامش في علاقاتهم مع الصحافة العربية والسورية تحديدا، فالتجارب السورية لم تحظ بالقراءة وبعض الأصوات التي تعلو هنا وهناك بحاجة إلى مراجعة نقدية أمينة.
اشتغلت ضيفتنا على الترجمة من العربية وإليها، وكانت عضوا بارزا في جمعيات الترجمة عالميا كمؤسسة الجذور الثقافية وجمعية شعراء قلم كندا، وتؤكد جاكلين أنها حين بدأت الاطلاع على الأدب الكندي الغائب عن الساحة العربية، تحمست لترجمات كثيرة.
ووجدت نفسها منهمكة في تقديم الأدب الكندي الأصلي للهنود الحمر. ثم انتقلت إلى تقديم قصائد ومقالات وعروض كتب من “الأدب الأسود: الأفارقة الكنديين”، ثم قدّمت ترجمات لمهاجرين من العالم إلى كندا، فقامت بترجمة قصائد أطفال إلى العربية، ما أتاح لها أن تتجول في حديقة الإبداع العالمي وتكتب نصوصا على هويّة عالمين وبلغتين. لكنها تعتبر أنها لم تتحرر كما ترغب من حيث هي امرأة وبالتالي القصيدة، وكذلك بالقدر الذي تحلم به وتشتغل من أجله.
الواقع البذيء
مجموعتها الشعرية الثانية “كريستال” كانت نصوصا في الاشتياق والوحشة والهزيمة الروحية للإنسان السوري كما أنها كانت جسرا للأسئلة الصعبة للمرأة السورية الشاعرة في البحث عن ذاتها، عن ذلك تقول جاكلين: كريستال، مجموعة قصائد فيها الكثير من القسوة والحب والبحث عن إنسانية الإنسان.
أما كتابها “المحبرة أنثى” فتعتبر الشاعرة أنها كانت فيه متمردة لمجرد أنها اختارت أن تكتب واعية بدورها كامرأة تحررت من سلطة الرجل، ثم تحررت نوعا ما من السلطة السياسية والثقافية. واستعادت كيانها كجسد وروح، ولم تجعل جسدها بيرقا لقصيدتها تلوح به في ضجيج واستهلاكية. بالصبر والأسى والنشوة كتبت قصائد عن الجسد في الأربعين وعن الحب والجسد في الخمسين. فقد تعلمت الشاعرة أن ترفع من مقام الأنوثة في التعبير والأسلوب، ولم يكن سهلا، في رأيها، أن تخرج من قوالب “اليسار العربي” وصورة المرأة “المناضلة” التي تلبس كالرجال وتدخن مثلهم وتقرأ كتب الحرية والمساواة، ثم تنام كجارية، تقود سيارة وتعمل في المكتب ثم تعود إلى “الحرملك”. إنها تنحاز إلى أنثاها الخلاقة وتحب المرأة التي في رأسها وبين كتبها.
عن كتاب المهجر الذين لم يعد يجمعهم مكان أو جماعة بعد أن شردهم الزمن تقول ضيفتنا: لقد هاجر جميع الكتاب تقريبا فلم تعد التقسيمات عادلة، المنفى مقيم في كل فرد هنا وهناك ويتسع بوحشية. هاجرت كل اللغات إلى العالم كما هاجر الأفراد، فاختلت المصطلحات الأدبية والإبداعية. ثم إن السنوات الخمس الأخيرة بحروبها وثوراتها ستفرز لغة وكتابة جديدتين.
وتضيف عن نفسها: بالنسبة إليّ لم تكن لغتي الأولى لغتي الأم، ولم يكن الوطن أمّا طيبة، لذلك فالشعر صار لي وطنا وبيتا وأمّا، ويروق لي هذا البيت الذي يتسع للسخرية والصعود والتحليق. وهذا ما أراه مستقبلا؛ مكانا روحيا وفكريا ورومانسيا. فالواقع مرير وألف محبرة لن تكفي لغسل وجه التاريخ والمكان العربي من البذاءة وفجوره السلطوي والديني والجنساني.

1