أحدث الأخبار
الجمعة 19 نيسان/أبريل 2024
كاتبات الجنوب : من قسوة القبيلة إلى غواية الكتابة!!
بقلم :  خالد حمّاد  ... 30.04.2016

أن تكتب امرأة في مجتمع ذكوري يقوم على العادات والتقاليد البالية، أمر بالغ الصعوبة حتى أنه يمكن تشبيهه بالنضال أو المغامرة المجنونة التي تتحدى فيها امرأة كافة أطياف مجتمعها لتكتب بصوتها وذاتها عنه وعنها. وغالبا ما تعامل كتابة المرأة كنوافذ للولوج إلى شخصها وتمحيص التطابق بين ما تكتبه وذاتها وفق نظرة أخلاقية متكلسة، لكن هناك من الكاتبات اللاتي نجحن في وضع خطواتهن في عالم الكتابة الصعب ولو بعد معاناة كبرى، وربما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي بدور كبير في فك عزلة الكثير من المبدعات والكاتبات اللاتي يعشن في أكثر المجتمعات انغلاقا ومثلت لهن متنفسا للكتابة وتطوير تجاربهن.
تواجه الفتاة الجنوبية وحدها والتي غالبا ما تكون بدايتها، صراعا حقيقيا مع القبيلة لخلق مساحة من إثبات الوجود لتقديم ذاتها ككاتبة ومبدعة في جغرافيا لا تعترف بمعنى التخييل للمرأة، جغرافيا قاسية رغم أن المرأة فيها مفتاح الحياة، وقد يكون هذا مثيرا للدهشة والغرائبية، في الوقت الذي صارت فيه الكاتبة الجنوبية إحدى علامات وأيقونات الكتابة الإبداعية في المشهد الثقافي المصري.
الأمر ليس سهلا
القاصة الروائية سعاد سليمان تروي شهادتها عن بداياتها مع الكتابة تقول “عندما بدأت الكتابة كنت أكتب كي أعيش، فقط أعيش، وفي فترة المراهقة كنت أكتب لأحصل على التوازن النفسي والإعجاب والتميز في ظل صعوبة الحياة ومحاولة الجميع من حولي وصمي بـ’العادية’ كما كل البنات من حولي. نعم الكتابة تشعرني بأني أكثر من مجرد امرأة، مع الكتابة كنت أشعر بأنني أسبح مع الطبقة الأولى من السماء، أعدها اني سألحق بتلك السحابة التي تشكل ملاكا بأجنحة ووجه طفل مبتسم، يذكرني بأنه في انتظاري”.
وتتابع “لماذا احترفت الكتابة ولم تظل على هامش حياتي كما ذكرياتي وأشياء مارست ذاكرتي سحرها في التخلص منها ببراعة؟ لأني وجدتها السحر الذي أجيده ولم أكن أعرف، لأنها القدرة التي تمنحني الحياة والمحبة، أكتب لأفهم الإنسان بكل قوته وضعفه، بالكتابة والإبداع تسامحت مع من لم أستطع تصور التسامح معهم لحظة واحدة، بل وأحببتهم، تفتحت عيناي على أشياء لم أكن أدرك مقدار روعتها عندما أعجنها بملمس قلمي الخاص، عندما أهبها روحي ورؤيتي، فتتجلى العوالم وتصوغني قبل أن أصوغها قصصا وروايات ـ حولت حياتي الصعبة إلى جنة من القصص، رأيت أصولي “سوهاج” بعين مختلفة، عين لاقطة حافظة لأوجاعها ومشاكلها”.
أما القاصة والروائية منى الشيمي فتروي شهادتها عن المجتمع الجنوبي والكتابة المهنة الغامضة قائلة "في البداية عارضني الأهل، وأمام إصراري اقترح أحدهم أن أكتب كما تكتب عائشة عبدالرحمن باسم مستعار، كأن أسمي نفسي ابنة الصعيد، وثمة من اقترح أن أذيل قصصي بالحرفين الأولين من اسمي، لكن، ومع الوقت، وتحقيق بعض النجاحات الصغيرة رضخ المجتمع، وإن ظلت الشكوك تراود الكثيرين، حول أفكار قصصي، وهل أنا البطلة لكل هذه القصص أم هي حقا من وحي أفكاري”.
وتضيف “الجنوب لديه صورة راسخة عن المرأة، حتى العاملة، بأنها لا يجب أن تظهر، ولو باسم أسفل قصة أو على غلاف كتاب، نحن مجتمع يعاير الشاب الذي يعرف الآخرون اسم أمه، فاسم الأم يجب أن يظل سرا مكنونا كالعورة بالضبط، وأنا صارت عورتي على الأرصفة والطرقات، مع كل قصة تنشر لي، ومع كل رواية تطبع، لن أقول إن ما قابلته كان عاديا، بل كنت أشعر بالضيق، لكن غواية الكتابة كانت أكبر من أن أتوقف. ولكن ليس رفض المجتمع أيضا هو كل الصعوبات، بل الوصول إلى القاهرة عاصمة الثقافة ومركزها أصعب، في زمن لم يكن للإنترنت فيه وجود، والمسافة بين مدينتي في الجنوب والقاهرة تصل إلى تسع ساعات. إضافة إلى فوقية النقاد واستعلائهم، وندرة دور النشر الخاصة وقتذاك تكتمل صعوبة الصورة. صدقني، كان إقناع الجنوب بموهبتي أسهل من محاولة ترسيخ اسمي وسط مجتمع لا يرى إلا كتابا وسط البلد في القاهرة”.
معاناة التحليق
تحدثنا القاصة والروائية أسماء هاشم عن الوجوه الملونة بلون طمي النيل وحكايات الجدات التي حولتها إلى روائية، تقول “نساء قريتي انشغلن عن القهر بغزل الحكايات ويدفعن بحكاياتهن الطائرة الورقية لمواصلة التحليق .. طائرة ورقية هي قصتي الأولى التي نشرت في كل الدوريات الثقافية وصفحات الإبداع بالصحف. وكان نشرها مصحوبا بمقدمة تبشر بقدوم كتابة مختلفة. على صغرها كانت قصتي تحمل قدرا كبيرا من روحي، بنت الجنوب المسكونة بحلم التحليق المقيدة بحبل وثيق الصلة بالمكان .. على صغرها قصتي طائرة ورقية إلا أنها كانت تعبر عن روحي المسكونة بهاجس التحليق تسعى إليه بمفرداتها الخاصة وشخصياتها التي تعرفها وفقط تحديدا نساء قريتها”.
وتتابع “من من هؤلاء كان السبب في غياب طائرتي الورقية؛ العمل والبيت؟ أم مهام الزوج والأولاد؟ ربما أحدهم وربما كلهم وربما تواطأ الجميع بقصد أو دونه لتغيب تماما. هل كان التحليق مزعجا بالنسبة إليهم. أم هو القلق من وهم الانفلات بعيدا؟ أين غابت طائرتي الورقية الملونة وكيف تخلت عن ألوان بهجتها؟ وكيف تركتها تغيب هكذا من فضاء روحي حتى فقدت قدرتي على صياغة الحكايات؟ أتحسس كلمات قصصي المنشورة وأتأمل حروف اسمي المطبوعة وملامح وجهي أمام المرآة ما الذي يربط بين كاتبة تلك القصص وصاحبة هذا الاسم وهذا الوجه؟ ماذا تبقى من طائرتي الورقية؟ هل غابت تماما تلك المبهجة المبتهجة؟ وما الذي يدفعني الآن إلى البحث عنها؟.. أفرغت حقائب الروح وصناديق الذكريات فتناثرت حكايات وحكايات حاولت تجميعها مرة أخرى وكان … هل كنت أحتاج لعشر سنوات لأجدها ؟ هي قسوة الخيط الذي يربطها بمكان هو الأشد قسوة على الإطلاق. لا بأس ما دام الحلم يراودها وما دامت قادرة على التحليق”.
وترى ريهام مبارك الطبيبة والقاصة أن تجزئة الأمور هي أول سبب في عدم الوصول إلى حلول أي مشكلة أو تخفيف أي معاناة، الكاتبة الجنوبية لا تختلف كثيرا عن معاناة الكاتب الجنوبي، إذا اعتبرنا الأدب يحتاج إلى سوق وعلاقات وتسويق، والتسويق مهارة لا يشترط توافرها في الكاتب، هنا يأتي دَوْر دُور النشر التي من المفترض أن تكون المسؤولة عن هذا التسويق الثقافي، بدل استغلال شباب الكتاب. الإعلام أيضا له دور، في بلاد أخرى يتم الحديث عن كتاب جديد في السوق ولقاء كاتبه في برنامج اجتماعي ليس هدفه التثقيف إطلاقا، في حين يهتم إعلامنا بقضايا ساذجة بدل أن يساهم في تثقيف الناس والرقي بهم.
وتتابع الكاتبة “الإعلام أيضا كرّس فكرة التعالي مع الأدب خاصة والثقافة عامة بأنهما أمر خاص بفئة معينة و”عزلهما” في قنوات ثقافية لا يشاهدها أحد، وصحف ومجلات لا يقرأها أحد هي فكرة خاطئة، المزج مهم للغاية، عدم تعاون الجهات المختلفة يؤثر أيضا، لم لا تتزين مدينة ما لاستقبال حدث ثقافي مهم في أثر مهم هنا أو هناك، كما يحدث أن استقبلنا ضيوفا من بلدان أخرى، بدل حبس الأحداث الثقافية داخل جدران قصورالثقافة ونوادي الأدب، فيأتي الحدث ويذهب دون أن يعرف أحد، أذكر المعاناة حين كنا أعضاء في نادي أدب طب أسيوط لنستقبل أديبا لننهل منه ما استطعنا، و كيف أننا كنا نتحمّل معظم النفقات، غير التعقيدات الأمنية، لو أن وزارة الثقافة تدعم هذا النوع من الأنشطة ما كابد الطلاب عناء ولتحقق الوصل بين الأجيال المختلفة”.
التكنولوجيا لفك العزلة
تقول القاصة تيسير النجار “وجدتني أخربش بالقلم وأعكر بياض الصفحات، أكتب حتى لا أختنق بالصمت، وحيدة بلا أصدقاء، أقرأ في مكتبة المدرسة حينا وأكتب دائما عن جهل ورغبة في المقاومة وإن كانت بلا جدوى في تغيير حياتي. أن تولد في قرية في أقصى الصعيد ذلك يعني الاختناق بالموت قبل أن يحاصرك العيب والحرام وأي طموح يتم وأده في قائمة الممنوعات. في القرى عندما تتوافر مقومات الحياة الأساسية فذلك يعتبر منحة تستوجب الشكر، أن تذهب إلى النادي أو تمارس أي نشاط هذا ترف يجب ألا تطمح إليه، ولا يندرج ضمن اهتماماتك، أما إن سعيت إليه فذلك درب من الجنون ولا تنسى صعوبته من الناحية المادية وتعقيده من باقي النواحي، تعاني دولتنا من قصور بكل شيء وقد طال الثقافة فهي هزيلة وسقيمة وتفشى بها الفساد أيضا؛ وما يصل إلى الأقاليم قليل جدا وحتى ذلك القليل محرومة منه داخل سراديب العادات والتقاليد”.
وتتابع “ما عسى من مثلي أن تفعل سوى الالتفات للسوشيال ميديا، فتحت نافذة الفيسبوك تجولت داخله، ما من مستخدم له إلا وردد سلبياته، أعجبني تعليق صديق قال “الفيسبوك عالم أزرق والواقع عالم أسود لا تفرق كثيرا”، لكني أعشق زرقته أنقذني من الموت ظمأ وصمتا، ليس لدي عدد كبير من المتابعين ولكن بفضل الله لدي بعض الصادقين ساعدوني وعلموني أشياء ما كنت أعرفها دونهم وأنا في منفاي، قرأت أعمالهم التي لا تصل إلى أسوان، تطورت كتابتي بفضلهم ولا أبالغ إن قلت إنهم عائلتي المختارة”.
وتضيف “أن تجد من يشبهك ولو خلف شاشة وبينكما مسافة شاسعة شيء مفرح جدا، يتهمني البعض بالسلبية ولا أجيب فالكلمات تعجز أحيانا عن نقل المعاناة وتوضيح ما يحويه الواقع. الكلمة بداية كل شيء، أول لبنة في تشييد صرح التغيير وقد كتبتها لا لليأس .. لا لفقدان الأمل، ما كان الله أن يعلقني بحلم ويقطعه، الفيسبوك مدرستي التي اخترت بها منهجي وأساتذتي. الفيسبوك ملهمي بشكل كبير؛ يشعر الإنسان بالثقة في الآخر عند معرفته جيدا وعن قرب، وهناك سبب آخر هو بعد الآخر واحتجابه وهذا ما يوفره الفيسبوك حيث من السهولة أن تشارك أحزانك مع شخص آخر لا يهدد خصوصيتك فهو لا يعرف إلا وجودك الافتراضي من السهل جدا أن تمحيه بضغطة زر. أنا ممتنة جدًا لكل من عرفتهم حتى أولئك الذين عرفت بعض الأمراض النفسية بسببهم، قد أجعلهم مادة رواية لي في المستقبل من يدري؟”.

1