أحدث الأخبار
الجمعة 19 نيسان/أبريل 2024
"الموتى لا ينتحرون" لسامح خضر: تاريخ الضحيّة من المهد إلى اللحد!!
بقلم : شهلا العجيلي ... 31.08.2016

أغتبط كلّما قرات نصّاً روائيّاً ناجحاً وفقاً لمعاييري، التي هي معايير النقد بوصفه علماً تنضاف إليه ضربة الفنّ الساحرة، التي تمكّن الناقد من مقاربة روح الميتافيزيقيا، حين يلتقي مع ما سمّاه أفلاطون بالإلهام الذي لابدّ أن يتمتّع به النصّ الأدبيّ ، وعرّفها كاسيوس لونجينوس في المقالة المنسوبة إليه في القرن الثالث الميلاديّ بالباثيوس. ينكتب هنا نقد النصّ أثناء قراءته بمتعة، حتّى لو كان ذلك النصّ يصعد جماليّاً على أكتاف مآسينا.
في رواية الفلسطينيّ سامح خضر «الموتى لا ينتحرون»، الأهليّة- عمّان، 2016، ثلاثة رواة لقضايا أيقونيّة، بعيدة نسبيّاً عن حراكات الربيع العربيّ، لكنّها تمسّ التحوّلات المحوريّة التي أصابت الوطن العربيّ منذ النصف الثاني من القرن العشرين. إنّه يعود إلى تفنيد الأصول عبر حكايات كنائيّة، لبلدين دالّين، هما سورية وفلسطين، التي هي فلسطينان اثنتان، بواقعين وحّدتهما الغاية لوقت طويل، إحدهما تسمّى بفلسطين الداخل، والأخرى فلسطين الشتات، ولعلّه أمر طبيعيّ أن يلتقي الرواة الثلاثة عام 2016 في برلين.
ليست الحروب الأخيرة مسبّباً للقاء في برلين، فاللجوء الذي لم يكن قضيّة تمتلك هذه الكثافة في الكتابة الروائيّة العربيّة، يعود إلى أشكال القمع والاضطهاد التي أنشأت الشخصيّة العربيّة منذ مطلع الدولة القوميّة، والتي تعزّزت لحظة الاحتلال. تغادر (حياة) الفلسطينيّة قريتها، شابة يافعة، بسبب قصّة تخطف الأنفاس، لتخلّف فينا، بوصفنا متلقّين، قهراً وألماً، نمسك جرّاءه أعصابنا ونكتم صيحات الاشمئزاز، مغلقين أفواهنا بأكفّنا حين نتابعها وهي تتعرّض للاعتداء الجنسيّ من قبل جدّها، ونتابع علاقتها الملتبسة مع أمّها التي تتعرّض قبلها للموقف ذاته، لنفتح من جديد ملفّ العلاقة المتشابكة بين المقدّس والمدنّس، ولنشهد سرديّاً (الجليل) حينما ينهار مخلّفاً فراغاً طوطميّاً مرعباً، عبر قيام الجدّ، مختار القرية الذي يمثّل السلطة البطريركيّة باستباحة حرماته الشخصيّة داخل سور البيت المغلق، ثمّ ظهوره العلنيّ بمظهر حامي الحمى، إذ يموت ابنه الذي يعمل في إسرائيل، فيستبيح نساءه في حالة مرضيّة أرجعها فرويد إلى أصولها الأنثروبولوجيّة: «إنّ البشر خضعوا لسلطة الأب الطاغية الذي يملك نساء القبيلة وفق ملكيّته الفرديّة لكلّ شيء، فكان يخصي ابنه إذا أثار غيرته واقترب من حريمه، وقد تطوّر ذلك إلى فكرة الختان التي هي خصاء رمزيّ، بعدها تضافر الأبناء المقهورون وقتلوا الأب معاً، لكنّهم ندموا، وصار الندم الفظيع إنكاراً لعلاقتهم بحريم الأبّ، فحرّموا العلاقات الجنسيّة مع من حرّروا من نسائه فصاروا محارم». إنّ السطوة الذكوريّة التي نجدها في المجتمع، في العرف، والقانون تعود في هذه الحالة الروائيّة إلى أصولها البدائيّة الوقائعيّة عبر امتلاك الجسد النسائيّ في العائلة، بل النسويّ، حيث يصير الوعي بالجسد لدى حياة وأمّها ولدى المتلقّي، وعياً ثقافيّاً لا بيولوجيّاً فحسب.
نتتبّع تفاصل عيش القرية الفلسطينية التي تهمّش في نشرات الأخبار، والتي ستمثّل حياة المجتمعات العربيّة الأكبر، والأكثر ادّعاء للمدنية، والتي لا تخرج فيها الفكرة السياسيّة التي تمثّل الأخ القائد والأب القائد عن هذه الحالة البطريركية السفاحيّة، إذا ما أوغلنا في التأويل. هكذا تخرج (حياة) من فلسطين مطرودة من البيت بعد أن تمّت استباحة جسدها، وستلازمها عقدة السفاح حتى بعد زواجها من إياد في برلين، وسنبقى نتساءل كيف وصلت هناك؟ ليجيبنا الروائيّ بعد وقت طويل، وهو يعود بنا بحرفيّة سرديّة إلى رحلتها عبر خطوط التهريب من الجسر إلى عمّان إلى تركيّا بلغاريا فألمانيا، الرحلة التي تسرد في وقتها تماماً بعد إحدى عشرة سنة في الطائرة التي تعود بحياة إلى عمّان آمنة هذه المرة مع إياد.
يمثّل (إياد) الواقع الفلسطينيّ الآخر، فهو ابن مخيّم (تلّ الزعتر)، انتمى إلى المقاومة (فتح)، بعد فقدان أمّه واخته وردة في مذبحة المخيّم الشهيرة: «بدّي ايّاك تكبر بسرعة يا إياد مشان نرجع لفلسطين. إمّي بتقول إننا رح نرجع لفلسطين.. لمّا بسألها لإيمتى يمّا؟ بترد: لمّا يكبر إياد. أحلام وردة كانت تردّدها على مسامعنا كلّ يوم. أبقت وردة فلسطين حاضرة فينا، كانت الناطقة باسمها، الجرس الصغير الذي علّقه الله في رقابنا كي لا ننسى أين نحن، وأين يجب أن نكون».
حكاية إياد أيقونيّة أيضاً، إنّها تراجيديا خروج المقاومة من بيروت، بما فيها من إحباط أصاب شبابها، وثروة أصابت بعض القيادات، وردود فعل مختلفة حسمتها (أوسلو). صار إياد (أوديسيوس) الخروج من بيروت في رحلته إلى ألمانيا عبر قبرص. اعتزل العمل السياسيّ إلى الدرس، فالعمل في تركيب المعامل، حيث سيقرّر هويّة جديدة. بعدها يلتقي بـ(حياة) ليمثّلا معاً جيلاً يحاول أن يداري أزمة الهويّة بمكابداتها السابقة، عبر الانخراط في مجتمع جديد، يصبح الوطن فيه دبكة شعبيّة على أغاني فرقة العاشقين.
تخالف أحداث النصّ ما يمكن توقّعه من أنّ المقاوم سيصاب بعجز جنسيّ، معادلاً لعجز المقاومة عن الانتصار، فقد كان إياد قادراً و(حياة) هي العاجزة! تعيد كلّ من الحياة الأوروبيّة ومشاهد الحرب، وتجربة الموت ترتيب المنظومة القيميّة، عبر محاولات الهجنة الثقافيّة أو الإزاحة والاستبدال، إذ سنكتشف في لحظات القسوة أنّ القيم النسقيّة أو الأخلاق العرفيّة، إنّما هي قناع جماليّ نتستّر به على جرائم النسق. سيتقبّل إياد جسد (حياة) بجراحه، وسيخضعها إلى معالجَة نفسيّة، تعيدنا إلى العلاقة بين الشرق والغرب عبر الدكتورة كلوديا الألمانيّة، التي تمثّل الغرب الراعي والآمن والمعالج . ستنجح كلوديا في مساعدة شروق وإياد في علاج (حياة)، وخلال ذلك يغيب إياد بحجة عمل في شتوتغارت لنعرف فيما بعد أنه ذهب إلى فلسطين الداخل للمرة الأولى، إلى الوطن الذي دافع عنه من غير أن يراه، لينتقم ليس من جدّ (حياة)، أو من قريتها، أو من العادات والزيف، والظلم والاستبداد، بل لينتقم من تاريخه الشخصيّ، من تهافت المقاومة حيث اكتشف الجميع في لحظة انّ الرفاق الذين ماتوا، قضوا من أجل بضعة كيلو مترات ومصافحة سمّيت أوسلو، وبذلك سيتماثل هو الآخر للشفاء.
تقف حكاية شروق الدكتورة في جامعة برلين، السوريّة المسيحيّة اللاذقانيّة، في وجه محظور آخر دينيّ، وبذلك تخرج عن تنميط حضور اللاجئات السوريّات في برلين، فحكايتها ليست حكاية هروب من الحرب أو الاستبداد، إذ كانت تعيش سعيدة مستقرّة في بلدها. تستلقي في صيف ما مع زوجها دكتور الجامعة على شاطئ البحر، يغفوان وطفلهما بينهما، وحينما يصحوان لا يجدانه! يغرق في الماء، ليبدأ عتابها مع الربّ، ثمّ خروجها على الدين بهدوء، بلا ادّعاء، مثل فضّ شراكة بين جهتين في غاية الاحترام، أو بين حبيبين أوجع أحدهما الآخر فأشار: لا أريد أن أكون معك لأنك لم تكن رفيقاً بي فحسب.
هكذا يكون النصّ قد واجه التابوهات الثلاثة بلا صراخ، بل قدّم سرداً روائيّاً ناقداً لعقد المجتمع العربيّ التي استفحلت فصارت لعنات.
لو كان قلم سامح خضر بيد كاتب كهل أو لنقل بيد كاتب من الجيل القديم، لما ترك إياد يذهب إلى القرية ويفاتح أعمام (حياة) بموضوع الجد (أبيهم) الذي اعتدى على حفيدته (ابنة أخيهم)، فذلك يخالف عرف الناس في تلك البنى الاجتماعيّة، لكنه مناضل يائس وخاسر، وقد عاش في بيروت ورأى جثة أمه، واخته، ورأى أوسلو، وعاش في أوروبا، وقطع حبله مع التقاليد، ويحمل منطق روح شابة متمردة.
لو كان قلم سامح بيدي، لكتبت عن الطبخات التي أعدّها إياد على العشاء لحبيبته (حياة)، ولجعلتها تقضي الوقت في مسح الغبار وتنظيف البيت وتعطيره، وإعداد جسدها الذي سيبقى بكراً رغم الاغتصابات، وهي تنتظر عودته من سفره إلى شتوتغارت، لكنه رجل من جهة، ولم تحدّثه بطلته عن تصرّفاتها السريّة من جهة أخرى، وقد أكتب بقلمه اللقاء الأوّل بين إياد وفلسطين، واللقاء الأوّل بينه وبين أوّل إسرائيلي على تلك الأرض: «أرض البدايات، أرض النهايات». لكنّ الروائيّ يعيش في فلسطين! وعلى كلّ يصعب على أيّ منّا كاتباً أو ناقداً أن يأخذ فرصة النهاية المؤثّرة التي حظي بها هذا الروائيّ، التي أنهى بها النصّ حيث حوّل نموذج (الجميل) ليصير تراجيدياً باستعمال (سناء) الأخت الصغرى التي يفترض أنّها نجت من الاغتصاب والاستبداد: «سناء لقيناها مقتولة عند البر يمّا»…إنّها نهاية صاعقة حقّاً! بدأ الاستبداد بمهد حياة وسيستمر بعد لحد سناء، مع استمرار تغييب قضايا المرأة وذكورة المجتمعات في عقدها الأكثر حساسيّة، من النقد والعرف والقانون. يشكّل الزنا في مجتمعنا ما هو غير أخلاقيّ، فيدفع بالقتل الذي هو غير أخلاقيّ أيضاً، لكنّ المخاتلة النسقيّة الذكوريّة تجعله أخلاقيّاً تحت ما يسمّى غسل العار، أو جرائم الشرف، وسيحوّل زنا المحارم الضحيّة إلى كائن شائه يستحق الازدراء، وستغيّب القضايا الاجتماعيّة لصالح القضايا الوطنيّة والقوميّة والسياسيّة الخاسرة في غالبيّتها. لكن يبدو أنّ جيل الشباب سيستمرّ في الكتابة عن عقابيل الهزّات الأوليّة، ولن يسكت على الابتزاز النسقيّ بحجّة العيب والحرام.

روائية سورية
1