أحدث الأخبار
الجمعة 26 نيسان/أبريل 2024
الألفة الصامتة!!
بقلم : بدر الشيدي ... 20.12.2020

ما فحوى تلك العلاقة التي تنشأ بين اثنين، وتتجاوز مداها، وتألف لها النفس وتأخذ مكانها في القلب وتختلط بالعاطفة. وهي علاقة كيميائية وغالبا ما تكون صعبة المراس، لا يمكن التحكم فيها، هي عاطفة جياشة وعاصفة من الحنين قد تقتلع كل ما يصادفها. ما نوع علاقة لا تعترف إلا بتلك اللسعة الأولى التي تنغرس في القلب. تنشئ هذه العلاقة من تفاعل كيميائي في النفوس.
الألفة كما قيل هي خروج الذات من ذاتها، من عتمتها، من جحيم عزلتها، من جنونها والشيء من دائرته، من صمته الأبدي، من عجمته للالتقاء في فضاء الحميمية». من منا لم يكتو بتلك العلاقة ويألف الآخر، الآخر هنا ليس بالضرورة الإنسان، وإنما قد يكون الشيء الكائن الحي وهو الآخر، وقد يكون الجامد أو الأشياء التي تدور حوله وتشاركه فضاء الكون، نألف، بل نتمادى في تلك العلاقة، ما يولد نوعا من الحميمية، وبمرور الوقت تتحول الألفة إلى حنين لا تحتمل الفراق والابتعاد عن ذلك الآخر الذي ألفناه.
وتتنوع الألفة وتتشعب، يمكن أن تكون علاقة مع أشخاص أو مكان، بيت أو مدينة أو شارع معين، أو كتاب أو حيوان أو أغنية، إلخ، هذه العلاقة يلعب فيها الشعور الباطن لعبته فتتداعى له كل الجوانب.
وقيل الكثير عن أسباب الألفة، ولعل أكثرها يكمن في الصفات التي تنعكس على تصرفات الإنسان. وورد في «التيسير بشرح الجامع الصغير» للمناوي، من أسباب الألفة، خفض الجناح ولين الكلمة وترك الإغلاظ، واجتماع الكلمة وانتظام الأمر. ولهذا قيل: من لانت كلمته وجبت محبته وحسنت أحدوثته، وظمئت القلوب إلى لقائه، وتنافست في مودته. أما الأرواح فهي موطن الألفة، فإذا أتلفت تحابت وانسجمت وتلبست ببعضها، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. كما جاء في الحديث الشريف. إذن الألفة سيماء خاصة تحملها الوجوه ويعبر عنها الجسد وفي الآية القرآنية «سيماهم في وجوههم من أثر السجود» سورة الفتح الآية 29.
ولعلها أقوى رابطة تأتي هكذا وكأن شيئا يطبع على القلوب ويربط بين الأرواح بوشائج يصعب الانفلات منها، كما لو كانت قوة خفية لامرئية سحرية تطبع على القلوب وتربط الأرواح، لذلك لا يستطيع الإنسان مهما فعل إلا ويقع في سرمد تلك الألفة ويذوب في بحورها وتسكنه بسحرها الأثير. في ذلك يقول الله تعالى «لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم» سورة الأنفال الآية 63. فالإنسان بطبعة ألوف محب لغيره سرعان ما تألفه نفسه، خلقنا اجتماعيين نألف الأشياء، وترتاح لها أرواحنا، كما قال أبو الطيب المتنبي:
خلقت ألوفا لو رددت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجة القلب باكيا
نألف الآخر المتمثل في المكان كالبحار والسهول والجبال والشوارع والمدن، بعضنا يألف العتمة والظلام والصمت، والبعض الآخر يألف الضياء والأصوات، نألف الأشخاص الذي يشيعون فينا الفرح والسعادة. نألف لممثل أو لشخصية ويحدث بيننا اتصال باطني لا يظهر. كلنا يتذكر الممثل البريطاني شارلي شابلن، ببساطته المميزة المتمثلة في زيه المميز وقبعته وعصاه والشارب والحذاء وتلك المشية اللافتة، كذلك الأمريكي باستر كيتون، وما بثاه من ألفة في نفوس الناس بحركاتهما الصامتة ذات الدلالات المفعمة بروح السعادة والفرح. تلك هي علاقة الألفة التي يكون فيها البوح والحكي والحديث هو وسيلة التواصل بين الطرفين. رغم أن في دراسة للعالم الأمريكي البريت ميهرباين، بيّن فيها أن التواصل بين البشر يتم بـ 7٪ فقط بالكلمات و38٪ بنبرات الصوت و 55٪ يتم عن طريق لغة الجسد. يقودنا هذا للحديث عن نوع آخر من الألفة، وهي تلك العلاقة التي تنشأ بين طرفين صامتين، لا يعبران عن تلك العلاقة ولا يتبادلان ما يجيش في داخليهما إلا بالنظرات والإشارات، وتظل تلك الألفة العلاقة بينهما صامتة. لا يتبادلان الحكي إلا بالإشارة، أو بالنظرات السريعة أو بتحريك الرأس، تستبدل فيها لغة الحكي بلغة الإيماء، أو الإشارة، وقد تنتج هذه العلاقة من مشاهدة يومية ولقاء بالنظرات وتلويح بالإشارات وتتكرر، وقد تحدث في لقاء خاطف عابر، يبقى محفورا في الباطن، ليس هذا وحسب، بل قد تكون تلك العلاقة سببا في تعاون مثمر ودفاع ومنجاة من أمر ما، أو درأ لمصيبة، أو قد يكون تعاونا في شيء ما. وتلعب لغة الجسد دورا كبيرا في هذا النوع من العلاقة، ويقوم الجسد الذي يعتبر لغة مشتركة بين البشر بتبليغ رسائل خاصة، مستخدما في ذلك تمويهات وتلويحات وإشارات خاصة، تصدرها الأعضاء كالعين واليد والابتسامة وبعض الحركات التي يصدرها الجسم، تبلغ ذروتها، وتصيب الروح فيبادل الطرف الآخر بإشارات مماثلة تعبر عن القبول والرضى، ومن ذلك ما قاله الرسول الكريم «وما أخفى أمرؤ شيئا إلا وظهر على فلتات لسانه، أو قسمات وجهه».
يسمي محمد عابد الجابري تلك الألفة بالألفة الصامتة، ويسهب في سرد لتلك العلاقة التي نشأت بينه وبين رجال الشرطة المكلفين بمراقبته، قبل الاعتقال. ففي إحدى القصص التي يرويها، يذكر كيف استطاع الإفلات من الاعتقال عدة مرات، وذلك بفضل علاقة صامتة، تحولت إلى ألفة نشأت بينه وبين بعض الضباط المكلفين بمراقبته، في مقر جريدة «التحرير» التي أسسها مع عبد الرحمن اليوسفي. يقول عن تلك العلاقة نشأت بينهم عن الضباط الذين يراقبونه، بأنهم يعرفون أسماءنا وتكرار عمليات المراقبة والمناوبة يوميا هتك كل الأقنعة، فتطور الأمر بيننا إلى علاقة من نوع آخر نتبادل فيها التحية، ولو بحركة الرأس، وقد زاد احترامهم لي عندما لاحظوا تفهمي لمهمتهم، وعدم اكتراثي لهم أو استفزازهم، وإذا كنت ترى الشخص صباح مساء، ومع طول الوقت يصعب عليك أن تسيء إليه، بل مع مرور المدة تتصرف معه وكأنه صديقك، هذا النوع من العلاقة/ الألفة هو الذي مكنني من الإفلات من كثير مما تعرض له بعض الأخوة المناضلين. انتهى كلام الجابري.
يبقى المكان أكثر الأشياء مدعاة للألفة، وهو أكثر الأشياء ألفة للكائن الحي. فالحيوان هو الآخر يألف مكانه ولا يبرحه، ولا يبتعد عنه، وكما يقال في المثل الشعبي (آلف من حمام مكة). وتتجلى علاقة الإنسان بالمكان بمزيد من الألفة والود، خصوصا المكان الذي ينشأ فيه، كالبيوت والحواري والأزقة، ومكان العمل اليومي. وكلما تقدم بنا العمر نحنّ أكثر إلى تلك المرابع التي احتضنت طفولتنا وشبابنا وربيع عمرنا. كلنا نلاحظ آباءنا وأمهاتنا كيف لا يستطيعون مغادرة بيوتهم، وإذا ما غادروا سرعان ما يعودون لها، لا يجدون راحة إلا بالعودة لتلك الأشياء. فهذا العباس بن الأحنف يقول:
أقمـــنا مكرهــــين بها فلـــما
ألفـــناها خرجــــنا مكرهينا
أتذكر الان تلك العجوز التي كانت تسكن على مدخل الحارة. نتعجب ونحن صغار كيف تسكن لوحدها، دون أن يكون معها ونيس. لكن تبدد ذلك عندما سمعتها يوما وكأنها تتحدث مع أحد وتعلو ضحكاتها بين الحين والآخر. عرفت بعدها، طبعا لما كبرت بأنها تألف بيتها وكأنه كائن حي تتحدث معه وتناجيه، وتجد في الأشياء التي تشاركها السكن ما تألف معها وما تبدد وحشتها. ترى في القطط والماعز وأثاث البيت خير جليس ووليف لها. هي ألفت المكان وساكنيه واعتبرتهم عائلة واحدة، وإذا ما غادرت البيت سرعان ما تعود إليه بلهفة وشوق غريبين.
نتحدث هنا عن المكان بوصفه أكثر الأشياء ألفة بكل ما يمثله من حضور طاغ، وحنين متراكم في النفس، وهو الكائن الأثيري الذي تتغنى به الروح وتسعد. وهو أكثر الأشياء مدعاه للألفة، فهو الكائن السيميائي والفضاء المثقل بالدلالات والرموز المكثفة، التي تنمو فيه الألفة وتتمدد، وتتبدد فيه الوحشة، فالمكان بطبيعته موحش تتراكض فيه كائنات الصمت. لكن قد نتسأل عن تلك الأشياء التي تكسر وحشتنا وترفع الكلفة وتدفع الألفة؟ ما هي تلك الأشياء التي تؤثث المكان، على سبيل المثال، وتدجنه وتذيل سطوة الرهبة والتوحش منه ويصبح أكثر أنسنة؟ ما الذي يلجم وحشته ويبدد غموضه، ما الذي يسد فجوات الفراغ فيه؟ طبعا هناك أشياء كثيرة قد تخلق الألفة في المكان وتبدد وحشته، كالأصوات والحيوانات والموسيقى، وحتى الأثاث، والبعض يلجأ إلى إصدار الأصوات كرفع صوت التلفزيون، أو الراديو أو الأغاني، لكن تبقى المرأة بكل تجلياتها الرمزية، سواء الأم أو الحبيبة وما تمثله من حضور أنثوي طاغ في المكان، هي من يزيل كل تلك التلبدات والوحشة عن المكان. ينظر البعض للمرأة هي المكان بذاته، وهي الوطن الذي يختصر كل شيء فيه، محمد الماغوط كان أكثر وضوحا عندما قال « المرأة هي المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها». المرأة هي أكثر الأشياء التي تبعث على الألفة والحميمية، وبوجودها تبدد عتمة الوحشة، وتزيد الألفة تألقا وثراء. فالمكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه. على ما ذكر محيي الدين بن عربي. إنعام كجه جي قالت في ذلك «المرأة هي روح المكان، ذرة الملح التي تمنح الوجود مذاقة».
تتعدد الأشياء التي يألفها الإنسان في المكان وتختلف من شخص لآخر، فليس بالضرورة ما يألفه شخص هو نفس ما يألفه الشخص الآخر، كل ذلك يعود إلى اختلاف الأمزجة والهوى. سيف الرحبي يألف المكان ـ البيت القديم، وقد تأثث بأشياء كثيرة زادت ألفته وحنينه عندما عاد ودخل البيت، تذكر تلك الأشياء المفعمة بالحب الباذخة بالألفة. فما ألفه في المكان هو خيول ضامرة، رائحة أسماك مشوية، رائحة جاز، جراد، قطيع النعاج، السروج والبنادق، الأطفال، عصافير ونساء، أشجار، النخيل وغيرها. يقول في قصيدة بيتنا القديم:
أدخل بيتنا القديم، بيتنا المأهول
بخيول ضامرة يتجول بين صهيلها
شبح الأجداد.
ينفتح المزلاج على الفراغ المهجور
رائحة أسماك مشوية
رائحة جاز منكفئ فوق المدفئة
الفقيرة
الجرار ما تزال بمكانها تستنطق الزوايا
والمياه تغلي في الموقد
إلى أن يقول:
السروج والبنادق معلقة على الجدران
وهناك بقع لشمس نحيله
تحتل المنزل بعصافيره ونسائه
وأشجاره الغابرة وتتخبط مثل
رعاة بين الأنقاض
يبقى أن نذكر بأن الألفة تفتح الباب أمام الحب، وتقفله أمام الصداقة. كما جاء في المثل السويدي. لذلك ليس بالضرورة أن الصداقة تخلق الألفة، فكم من صديق لا تألفه، وغالبا ما تكون العلاقة بينكم علاقة صداقة عابرة قد تفرضها الظروف والمكان. وكم من شخص تراه من بعيد يخلق لك الألفة. يجدر بنا أن نخلق ألفتنا الخاصة ونتناغم مع الأشياء التي تشاركنا هذا الكون. تتجلى في هذا المقام نصيحة محمود درويش الذي شغلته الغربة والحنين وهو يقول: ليس للغريب إلا اختراع ألفة ما، في مكان ما.

٭ كاتب من سلطنة عمان..**المصدر : القدس العربي
1