أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
لاعب النرد والكلمات!!
بقلم : نمر سعدي ... 28.12.2020

محمود درويش شاعر مذهل بحق متمرِّس أحد أجمل الشعراء الكونيين الممسوسين بإيقاع اللغة وجماليات الشعر الصافي.. يصعب توصيفه والالمام بجوانب عبقريته وايقاع قصيدته وفرادته الشعرية.. عاش قديس شعر ومات قديس شعر.. كان الشعر يجري في مجرى نفسه وفي دورته الدموية.. مَن مِن شعراء اليوم يخلص للشعر مثلما أخلص له درويش.. من يجعل من القصيدة رسالة حياة؟ أهمية درويش تكمن في معايير كثيرة.. منها غنى قاموسه اللفظي.. تجدد لغته المزهرة وانقلاباتها على نفسها.. وتنويعهِ العروضي الفخم في وقت نجدُ فيه الأغلبية الساحقة من الشعراء العرب مفتونين بقصيدة النثر التي لا أحاربها ولا أتخذ موقفاً منها فأنا حاولت أن أجرِّب كتابتها في أكثر من قصيدة وديوان.. ولكنني أعتقد أنها أفقدت الشعر العربي الكثير من سحرهِ.. من يتقن من الشعراء الشباب العروض اليوم؟ شعراء التيك أوي والنثريات الضحلة والفيسبوك والطنين الفارغ والحراثة في البحر، لن يأتوا بمحمود درويش آخر لأن الشعر لا يشكل لهم رسالة حياة وأنا أراهن على هذا الشيء لأن الشاعر الحقيقي الموهوب دائم البحث عن المعادلة الصعبة في كتابة القصيدة.. عن سماوات جديدة للتحليق بعيداً عن السرب.. وعن أرض جديدة لم تحرث.. وكل ذلك من دون التخلِّي عن الموروث وجمالياته وتجديد الايقاع الشعري للبحور العربية الذي أعتقد أن أهمية محمود درويش يكمن شيءٌ منها في هذا التجديد.. بالإضافة الى لغتهِ المنتقاة وأساليب تعبيره الملفتة والجديدة.. كيف نريد من شاعر لا يعرف البحور ولا الأوزان ولا الموروث الإيقاعي للشعر العربي أن يكون محمودا آخر.. هل كانَ محمود السور العالي الأخير أمام تسونامي تقريرية الشعر النثري التي تجتاحنا الآن؟ كان مثل موجة أو غيمة ترقص في الأعالي وتحثنا على الطيران في سماء الشعر بينما نحن كنا نريد ملاصقة الأرض العذراء.
تفوَّق محمود درويش في حياته على كثير من شعراء جيله إن لم يكن على أغلبهم.. وها هو بعد رحيله يتفوَّق بصمته البليغ على شعراء وروائيين كانوا يُحسبون ضمن دائرةِ أصدقائه المقرَّبين المؤتمنين على سرِّهِ.. شعراء وروائيون من مختلف المشارب كان يحترم تجاربهم الابداعية ويحفظ لهم حبل الورد.. ولكن يبدو أن دلالات توَّهج إسم محمود درويش ورسوخ بصمته وقيمته الجماليَّة في الشعرية العربية والعالمية قد خلخلت المعايير السائدة وأرَّقت بشكل أو بآخر الكثيرين من أصدقاء الأمس فراحوا يفشون بعض أسرار حياته في ظلِّ غيابهِ.. وكأن مسألة نبش ماضي الكبار وأسرارهم الذاتية بعد رحيلهم بسنوات أصبحت ظاهرة شائعة.. على ما فيها من ريبة وإثارة للجدل، وهي بكلِّ الأحوال لا تُختصر بابنة من امرأة متزوجة.. ولا في إفشاء سر صديق قديم.. فليس هذا ما يعنينا في حياة الشعراء وهم ليسوا ملائكة، لكي نحاسبهم أخلاقيا بمعزل عن إبداعهم وعن رغباتهم البشريَّة، ومغامراتهم العاطفية.. بل ما ينضح من كل هذا الموضوع وما يطفو من زبد المنافسة الشعرية الغريبة والمبطَّنة حتى حدود الخصام الخفيِّ الذي بدأ يظهر جهارا من طرف بعض أصدقاء الأمس، نتيجة استمرارية صداه الإبداعي وتوهج تجربته الشعرية والانتشار الواسع لقصائدهِ.. ليس عربيَّا فحسب بل على مستوى العالم.. ولغايات في نفس يعقوب.. لا أظن أن المقالات المكتوبة كلها قادرة أن تمسَّ ولو بخدش صغير تمثال درويش الشامخ في الأبدية، قدرتها على إصابةِ أذواقنا نحن القرَّاء بالدوار وخيبة الأمل.

1