أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
«هاتف الرياح» وأنفاس الشجن!!
بقلم : أمير تاج السر ... 18.04.2021

في روايتها الجديدة «هاتف الرياح» الصادرة عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، تواصل الكاتبة اللبنانية مريم مشتاوي ما بدأت به في روايات سابقة مثل «عشق» و»جسور الحب»، و»تريزا أكاديا»، من الكتابة بحبر شجني خاص، فيه عواطف كثيرة، وأحاسيس إنسانية مدهشة، ورؤى وأحلام وكوابيس، وتفاعلات مع الجمال حتى في الكائنات الصلدة، وأيضا مع الأسطورة، من دون إغفال لهموم الوطن، وأنه الذراع التي يستخدمها الكاتب حين يكتب، والمتكأ الذي يتكئ عليه، حتى لو كتب عن أشيائه الخاصة جدا.
ودائما ما يمثل الوطن لدى الكتاب المغتربين خاصة عن أوطانهم، ظلا من الحنين، يتمنون لو جلسوا عليه ساعة.
على أن «هاتف الرياح» تبدو مهمومة بمواضيع عدة، أولها الحب طبعا، ويأتي الحب مضاعفا لأن هناك معلما راحلا تحبه البطلة كمعلم حقيقي، استنارت بأبوته، وتعاليمه، ورجلا آخر، التقته في خضم الحياة الهادرة، وأحبته وأحبها، وتركها لأسباب أسرية كما عرفنا، لكنها لا تستطيع تركه، وتسرع باحثة عنه حين تعلم بمرضه النفسي الخطير. وحب آخر، هو حبها لتلك المرأة، العجوز الغامضة التي ظهرت أمامها فجأة، كأنها أو بالفعل خرجت من حلم ما أو كابوس ما، وكان لها حيز كبير في الرواية، حيث أنها مفتاح مهم للوصول إلى ما كان يخبئه المعلم الراحل، صادق كما كانت تناديه ماريانا البطلة، وتتبع خطى ماضيه بتتبعها لخطى المرأة العجوز، التي لم يخبرنا النص صراحة أي كابوس من تلك الكوابيس العديدة، لدى البطلة يليق بها؟
هي تلميحات عن دروب سار فيها أحد ما، وحيوات عاشها أحد ما أيضا، ولا شيء غير مفتاح يدور في قفل الزمن، ليفتح كوة قد تكون كوة حقيقية، وقد تكون محض صدى بعيد. كنا نلهث خلف خطى العجوز أيضا، ونعثر مع البطلة على تلك المعطيات التي تتركها خلفها، ونحاول تفسيرها كما تفعل البطلة.
الرواية من البداية اقترحت الشجن، وسارت عليه، المناجاة الرقيقة التي تناجي بها البطلة معلمها الراحل، شجن أشبه بالقصيدة الطويلة، أو المناحة المعروفة في الفقد، التي تتضفر بأصوات النواح. هناك ماض مشترك بين ماريانا وصادق، كان هو المرجع الأساس في حياتها والآن بدت لها الحياة تتهاوى.
شيئا فشيئا، تتكشف حياة البطلة التي عاشتها قبل رحيل المعلم، والتي عاشتها صحبة بطلها الخاص، حبيبها الذي كان حاضرا وغاب فجأة، لأن الزواج غير ممكن، حياتها كإعلامية غارقة في العمل الصحافي، وتتابع الأحداث بدقة ووعي، حتى وهي في قمة الأسى.
ثم بعد ذلك حين تسافر من لندن التي كانت تجري فيها الأحداث إلى بيروت، في أيام المظاهرات، والاحتجاجات الشعبية، وهنا تنقل لنا مشاهد حية لما شهدناه ونشهده باستمرار في ثورات الشعوب ضد الظلم والفساد. كأن الكاتبة أرادت إيقاظنا بمتناقضات كثيرة، تحتم أن توجد في عمل واحد. وأظن مشاهد المظاهرات كانت أكثر الفقرات في الرواية التصاقا بالواقع.
قد نسأل: عن ماذا كانت تبحث البطلة، طوال رحلتها في الشوارع، والمستشفيات، والأحلام والكوابيس؟ أي طوال طوافها في الشجن؟
أعتقد أنه مأزق الهوية، الحب الأول، الهوية الأولى التي يعلق بها الإنسان، وتبقى هويته. صحيح أن الحبيب غادر، لكن الحب لم يغادر، وأي طعم أو رائحة آتية من أي شيء، قد تحمل شيئا من عناق ماضي، أو لحن أغنية عاشقة في ما مضى. كان البحث عن الهوية، وأيضا السير في خطى العجوز، مسارين حتميين للرواية، ونصل إلى تلك اللحظات العنيفة من الموت الكثيف، في مظاهرة هادرة، محتجة، وذلك الوجه الذي يشبه وجه الحبيب، الذي بزغ في المشهد فجأة، وانطفأ.
هل ضاعت الهوية إذن؟ أم هو غياب مؤقت قد تصححه الثورة؟
أظن أن مريم مشتاوي قدمت لنا هذه المرة، وبروح الشجن، وجبة روائية دسمة، احتوت على الشعر، والفلسفة في استحضار فيلسوف معروف هو أنطونان أرتو، وبعض مواقفه، وقصة حبه هو الآخر، وأيضا الأحلام التي قد تظنها حقيقة تارة، وتظنها وهما تارة أخرى.
أيضا مع وجود بعض الشخصيات المساندة، التي تتحمل عبء كثير من الحوادث والمشاهد المهمة، نستكمل ما قد يكون غامضا. مثلا شخصية الشاب زياد صديق البطل الذي يروي أحداثا خيالية، ويستطيع الإمساك بلهفة ماريانا حين يحدثها عن صديق له، يرقد في مستشفى ما، فوجئت بأنه يحمل إسم بطلها ومواصفاته، وبالتالي سعت للتحقق. أيضا وظفت الكاتبة ذلك الشاب في الإمساك بفنتازيا وغرائبية، أنا أعتبرها من مشهيات القراءة، خاصة حكايات جدته وطيورها، وحكايات الأسماء في ضيعته، وغير ذلك.
نجد أيضا شخصية الصديقة التي كانت تتأرجح بين القرب والبعد في علاقتها بالبطلة، ومع ذلك تثير الانتباه بحكايات أيضا فيها خيال كثير.
ومن الأشياء التي أعجبتني وصف المعاناة، أي معاناة. إنه وصف حقيقي، ومحسوس، ويمكن أن نحسه في معاناتنا الشخصية، ودائما ما أردد أن الكاتبة المرأة أقدر على وصف الدواخل، ذلك أنها تتبع إحساسا مرهفا في الغالب.
رواية ناعمة، جريئة إلى حد ما، وتجربة جديرة بالتأمل. وتضاف إلى رصيد الكاتبة بعد روايات أخرى تحدثت فيها عن الهجرة، واللجوء ومعاناة السوريين، والموت في عرض البحر، وكل تلك الأحلام المجهضة في كل مكان.

* كاتب من السودان..*المصدر : القدس العربي
1