أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
المغربية نعيمة الحمداوي وصداقة الشعر في «عش الخاوة»!!
بقلم : محمد الديهاجي* ... 06.06.2022

في تسعينيات القرن الماضي، وأنا أتابع المشهد الشعري المغربي المعاصر، اشتغالا وانشغالا، لفت انتباهي رافد شعري، بدأ يكتسح القاعات الثقافية بقوة، خلال الأمسيات الشعرية التي دأب الكثير من الجمعيات الثقافية والطلابية على تنظيمها. كانت القصيدة الزجلية الحداثية، ما تزال تبحث لوجودها عن موطئ قدم في مملكة الشعر، لما بدأت أسماء بعض الشعراء الجدد تبرز بقوة.. أسماء مثقلة بمشروع شعري مختلف يطارد أحقيته وجدارته. أذكر جيدا هذه الأسماء التي كنا نتداولها في ما بيننا، نحن الطلاب، مثلما نتداول المحاضرات والكتب والأغاني الثورية عبر وسيط الكاسيت: عبد الله الودان، أحمد المسيح، ورضوان أفندي…
لم أكن أتوقع، حينها، أن القصيدة الزجلية الحداثية في المغرب، ماضية في حفر أخاديدها، في أرض الشعر المغربي المستباحة، بخطى واثقة ووثيقة، لكن بعد اطلاعي، بوعي القارئ المتخصص هذه المرة، على أعمال كل من الشاعرين أحمد المسيح وإدريس المسناوي، تأكد لي بالملموس، أن القصيدة الزجلية، بإمكانها أن تصبح قصيدة عرفانية، أو مختبرا للبحث والتجريب، وبإمكانها، عطفا على ذلك، أن تعبر عن الوجدان الإنساني، في أبعاده الكونية، بفنية راقية جدا، تماما مثل اختها الفصيحة.
لكن ما لم يدر في خلدي، هو أن تقتحم المرأة المغربية، هذا المجال الصعب بندية نادرة، وبسرعة فائقة، علما أن هذا المجال ظل قرونا طويلة حكرا على الرجال، اعتقادا منهم بفحولة طبيعته. لقد فاجأتني أولا، المرحومة فاطمة شبشوب بإضمامتها البهية الموسومة بـ»طبيق الورد» وكذلك الشاعرة نعيمة الحمداوي، بديوانها المائز والماتع «عش الخاوة» الحاصل على الجائزة الوطنية للزجل، وبذلك كانت الشاعرة نعيمة الحمداوي أول امرأة مغربية تفوز بهذه الجائزة؛ ثم ظهرت مباشرة بعد ذلك، أسماء نسوية جديدة، لن أفشي سرا إن أذعت بعضها، كنهاد بنعكيدة، وزهور زرييق، ودليلة فخري، ولطيفة الأزرق. والحق إن تجربة الشاعرة نعيمة الحمداوي، في بداياتها الأولى، تندرج، باعتراف جل النقاد، في إطار ما يعرف بالنص الزجلي الغنائي، متأثرة بفن «الهيت» إلا أنها سرعان أصغت السمع لنداءات الحداثة الشعرية الزجلية، مستثمرة في ذلك، وبطريقة ذكية، كل ذخيرتها التراثية. ويبقى ديوان «عش الخاوة» هو نقطة تحول هذه الشاعرة، من النمط الشفوي التقليدي إلى مضمار الوعي بالكتابة، كأحد أهم اشتراطات الحداثة الشعرية.
لقد استطاعت نعيمة الحمداوي، أن تصغي جيدا لتحولات القصيدة الزجلية، خصوصا في قصيدتها «عش الخاوة» التي أنجزتها «بطريقة مبتكرة وجريئة، وجمعت فيها أهم عناوين المجموعات الشعرية الزجلية لزملائها وبعض زميلاتها، في شبه احتفاء بصداقة الشعر، في شبه رغبة لإعادة تشكيل قبيلتها، قبيلة الكلمات هذه المرة» كما يقول الباحث حسن نجمي في تقديمه لهذا الديوان. فماذا عن «الخاوة»/ الصداقة، في ثنيات الديوان؟
قال أبو حيان التوحيدي عن الصداقة والصديق ما يلي: «الصديق أنت. إلا أنه بالشخص غيرك». الصداقة بهذا المعنى، إذن، اختلاف ومغايرة؛ وإن الاختلاف هو نوع من المسافة والبعد، حيث تتحقق الصداقة كما يقول موريس بلانشو. ليس الاختلاف، سوى محاولة لنسف ما يمكن تسميته بـ«إمبريالية النموذج» وكذا رطانة الشبيه المنمط/ المحنط. لم يكن الاختلاف، في يوم من الأيام، دعوة للتقوقع والعدوانية، بل على العكس، كان دائما سبيلا لتأسيس صداقة/ صداقات متوازنة.
وفي الواقع إن الشاعرة نعيمة الحمداوي في أضمومتها «عش الخاوة» سعت جاهدة، لتأسيس صداقات جديدة مع شعراء وشاعرات، وإن بنوع من المسافة الأنطولوجية. الصداقة، ها هنا، تعلو على كل ما هو عابر، أو فيزيقي حتى.. إنها صداقة رمزية/ إبستمولوجية، جانحة إلى المطلق الإنساني. ففي قصيدة « عش الخاوة» التي تعتبر قطب الرحى في الديوان ككل، ذكرت الشاعرة مجموعة من الشعراء والشاعرات، بكثير من الحياد الشخصاني، مكتفية فقط، بظلال كل اسم، كتجربة ليس إلا، في أفق تأسيس عش للأخوة/ الصداقة، الذي لن يكون سوى وطن القصيدة: عبد الحق أبو حفص، إدريس المسناوي، حسن الوزاني، محمد الراشق، عزيز بن سعد، نهاد بنعكيدة، محمد اجنياح، رضوان أفندي، محمد مثنى، إدريس بلعطار، أحمد الداحي، محمد الزروالي، إدريس الزاوي، محمد المسناوي، أحمد المسيح، المهدي الودغيري، مراد القادري، خليل الإدريسي القضيوي، فاطمة شبشوب، حسن أميلي، العربي باطمة.
الملاحظ هو أن جميع هذه الأسماء، تنتمي إلى سلالة الزجالين المغاربة المعاصرين، باختلاف حساسياتهم الشعرية، وكذا اختياراتهم الجمالية، الشيء الذي يفضح نية الشاعرة في انفتاحها على صداقات، ديدنها الاختلاف والتعدد.
وجدير بالإشارة إلى أن ذكر أسماء هؤلاء الشعراء والشاعرات، لم يتم إلا في الهوامش والإحالات. أما في تضاعيف النص، فقد اكتفت الشاعرة فقط، بالإشارة إلى عناوين دواوين هذه الثلة من الزجالين والزجالات، ما يؤكد انشغال الشاعر بصداقة الشعراء في شواغلها الفنية لا غير، أي كاختيارات جمالية فقط. بالمناسبة، فإن مدونة هؤلاء الشعراء، تنتمي إلى الحساسية الجديدة في الزجل المغربي المعاصر، ما يرشح مصداقية الاستنتاج أعلاه، بخصوص الميول الحداثية لدى هذه الشاعرة. وسنكتفي بالوقوف عند بعض النماذج الشعرية، على سبيل المثال لا الحصر، لمكاشفة الرؤيا في قصيدة «عش الخاوة» الشبيهة بأنطولوجيا زجلية مغربية معاصرة، مطمورة بديالوغية، وبوليفونية واضحتين، بالمعنى الباختيني للمصطلحين. فالشاعر الذي لا يستثمر مصادره، حسب الناقد الألمعي، جمال الدين بن الشيخ، «يرتكب بإهماله أو عجزه اعتداء على القصيدة، لأنه يختزن كنزا عليه أن يستثمره». والشاعرة نعيمة الحمداوي، واحدة من الشعراء القلائل، الذين يستثمرون ذخيرتهم الثقافية، ومصادرهم الفنية، بعيدا عن أي تكرار أو تقليد. ففي هذه القصيدة مثلا، نلفي الشاعرة وهي تلج عالمها الشعري البطليموسي، ذا النفس الملحمي، تضع نفسها في مواجهة أصدقائها ومصادرها الشعرية، بكثير من الاختلاف والأخوة في الوقت ذاته.تقول الشاعرة، في رؤيا شبه كارثية، مناقضة بذلك، رؤيا صديقتها الشاعرة نهاد بنعكيدة في ديوانها «علاش حرشت لحزن»:
وهات هات…
هات من صابة المحنة
عبار بلا وزن
ولا تكول
« علاش حرشت لحزن».
ولئن كانت الشاعرة نعيمة الحمداوي، لا تجاري نهاد بنعكيدة، في رؤيتها المتبرمة من الأحزان، فإنها بالمقابل، تتماهى مع رؤية الزجال حسن الوزاني في ديوانه «رياض العشاق»:
سيح سيح وصيح…
ومن نخلتك لا تطيح
واغرف الحكمة
من « رياض العشاق»
زرعها معاني
فـ الخاطر إلى ضاق.
وسنختم أمثلتنا هذه، بهذا المقطع الشعري، الذي يختزل رؤية الشاعرة، الجانحة إلى الكتابة الحداثية الناضجة، كما تجلت في تجربة الشاعر الزجال الحداثي إدريس المسناوي. تقول فيه:
تمنيت «شمس الليل»
تغلب الظلام النابت
فـ كف الغفلة
و«قوس النص»
و«كناش المعاش»
يحلّيوْا عروكْ الدفلة
و«الواو».
للإشارة، فإن عبارات «قوس النص» و» كناش المعاش» و»الواو» هي عناوين لدواوين الشاعر إدريس المسناوي، الذي أعتبره، شخصيا، الأب الروحي لهذه الشاعرة، خصوصا في تجرتها «عش الخاوة» وما تلاها.
خلاصة القول، إن الشاعرة نعيمة الحمداوي، من خلال هذه القصيدة الطويلة / الملحمة، بنت عشا حقيقيا لأخوة/ صداقات جديدة، أواصرها محبة الشعر، باختلاف جمالياته وحساسياته..

*شاعر وناقد مغربي..**المصدر : القدس العربي
1