أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
أمير الشعراء ينسف مقولة: الجمهور عايز كده!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 30.06.2013

من أكثر الأكاذيب التي انطلت على الإنسان العربي مقولة: "الجمهور عايز كده"، فباسم هذه الأكذوبة تم تمرير الكثير من البرامج التلفزيونية والأعمال المسرحية والغنائية لتكريس نمط ثقافي معين في العالم العربي تريده بعض الجهات لأهداف مادية أو حتى ثقافية مغرضة. لا ننسى أن الثقافة العربية الحديثة المزعومة ليست عربية بأي حال من الأحوال، بل فرضتها وتفرضها جهات خارجية بأيد عربية لتغريب الثقافة العربية وإفسادها ونزع هويتها. لا نقول هذا الكلام تعصباً أو بدافع الانغلاق على الثقافة العالمية. لا أبداً، فما أحوجنا للتفاعل مع الثقافات الأخرى في عصر العولمة والسموات المفتوحة، لكن في الوقت نفسه، ما أحوجنا للعمل بمقولة الفيلسوف الهندي الشهير طاغور الذي قال:" سأفتح نوافذ بيتي على كل الجهات، لكنني لن أدع الرياح تجرف منزلي". جميل أن نقتبس برامج من الثقافات الأخرى، لكن من الأجمل أن تكون بعض البرامج نابعة من صميم ثقافتنا العربية كما هو حال برنامج "أمير الشعراء" على قناة أبو ظبي- الإمارات. كم هو جميل أن يتم الالتفات إلى الشعر العربي كموضوع لبرنامج تلفزيوني جماهيري! وكم هو رائع أن يُخصص جزء يسير من ميزانيات التلفزيونات العربية الضخمة للشعر والشعراء الذين تَفاخر بهما العرب على مر الزمان، كأروع ما أنتجته الثقافة العربية! فإذا كانت اللغة الإنجليزية لغة التجارة، والفرنسية لغة الحب والرومانسية، والروسية لغة السياسة، والألمانية لغة الحرب، فإن اللغة العربية هي لغة الشعر بامتياز. لكن انحطاطنا العربي العام أساء لتلك اللغة ومنتجاتها الشعرية العظيمة، كما أساء لحياتنا العربية بشكل عام، وجعل الشعر والشعراء كائنات تثير الشفقة، ولم يعد لها محل من الإعراب حتى في محل مفعول به، أو مجرور في حياتنا العربية البائسة، مع الاحترام لحروف الجر وأدوات النصب.
لم تسئ أمة لشعرها وشعرائها كما أساءت الأمة العربية في العقود الماضية، فبينما يحتفظ الانجليز في مكتباتهم المنزلية بمجلد الأعمال الكاملة لشاعرهم الأول شكسبير إلى جانب الكتاب المقدس، نجد أنه قلما تجد ديوان شعر في الكثير من المكتبات البيتية العربية، هذا إن وجدت المكتبات أصلاً. وكم كنت أشعر بحزن وأسى عميقين وأنا أنظر لكل من حاول أن يقرض شعراً في هذا الزمن العربي! فحسب الشعراء الجدد هذه الأيام أن يمارسوا الشعر لإشباع رغبات شخصية لا أكثر ولا أقل، كما لو أن الشعر كفن جماهيري مهنة قديمة، يجب أن تنتهي برحيل العمالقة.
لكن كي لا نلوم فقط الوضع العربي العام على إهماله لأجمل ما في تراثنا الأدبي، يجب أن ننحي باللائمة على من يمكن أن نسميهم بـ"الموجة الشعرية الهابطة"، تماماً كما هو الحال مع الغناء الهابط الذي فـرض على الإعلام العربي فرضاً، كما فُرض "الشعر" "الأدونيسي" البائس على الساحة الأدبية العربية عنوة، لكن دون جدوى.
ليس صحيحاً أبداً أن الجمهور لا يقبل إلا على البرامج الغنائية والترفيهية الهابطة، فها هو برنامج "أمير الشعراء" أثبت أن كل الذين حاولوا تعهير الشعر العربي تحت مزاعم "أدبية" واهية لا محل لهم في الذائقة ولا المخيال الشعبي العربي، حتى لو مولتهم كل وكالات الاستخبارات العالمية، وحاولت بهم اختراق الذوق العربي الأصيل.
لنفترض أن المتسابقين في برنامج أبو ظبي هم من نوعية الشعراء الذين يعنونون "دواوينهم" بـ "مجافاة السوط" أو "رعيان العزقة" أو "مرتقى الانقراص" أو الذين ينظمون أبياتاً على وزن "قامت شجرة، سقطت سمكة" لما نجح البرنامج، ولما سمع به أحد، ولما انشدت إليه الجماهير العربية بالملايين من المحيط إلى الخليج.
قد يقول البعض: إن العرب شعب يهوى الخطابة، ولا عجب في انجذابه للشعر التقليدي، وتعلقه بالمسابقات الشعرية التلفزيونية الجديدة. ونحن نتساءل: وما العيب في ذلك؟ هل نقولب لكم هذه الملايين العربية التي رضعت ذائقتها من المتنبي لتستلذ بالشعر "الحديث" الذي لا يحمل من العربية إلا اسمها؟ ولا أبالغ إذا شبهت الشعر "الطارئ" بغناء "الواوا" أو "الشخابيط" أو "الأوباح" "وبحبك ياحمار". ولا داعي للحط من قيمة هذا النوع من الشعر، ففقد عرف قيمته إعلامياً بعد ظهور برنامج "أمير الشعراء". ناهيك عن أن أمسية شعرية واحدة لنزار قباني كانت تجتذب أكثر مما تجتذبه أمسيات "بني أدونيس" وشركاه على مدى ألفي عام. فالشعر للناس، وليس للجحور. ولا ضير أبداً في تسخير السموات المفتوحة لـ"شعبنة" الشعر وغيره من صنوف الأدب(نسبة إلى شعب وليس إلى "شعبولا")، وذلك كي لا تبقى العولمة الإعلامية مكباً للإسفاف والسفاسف.
لقد أثبت برنامج "أمير الشعراء" أن المشاهد العربي ليس سخيفاً ولا هابطاً ولا مسفـاً، ولا من جماعة "الجمهور عاوز كده"، بل هو ضحية للمبرمجين في التلفزة العربية، فهو مستعد لأن يصعد إلى الأعلى لو صعد القائمون على التلفزيونات العربية. فقد استقطب برنامج أبو ظبي اهتماماً شعبياً منقطع النظير، رغم أنه أدبي بامتياز. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن الجمهور العربي جمهور ذوّاق، لو توافر للفضائيات العربية بعض الذوق والتذوّق، كما يدل على أن هذا الفضاء التلفزيوني لا يتسع للغث فقط، بل للسمين أيضاً.

1