أحدث الأخبار
الجمعة 26 نيسان/أبريل 2024
ولا بد للقمامة أن تنجلي!!
بقلم : سهيل كيوان ... 27.08.2015

لعِبَت القمامة دورا يكاد يكون حاسما في تاريخ الانتخابات البلدية في بلدتي، إذ تنافس المرشحون لرئاسة المجلس البلدي على أصوات المقاول الذي سيجمعها، أولا من منطلق أن جمعها هو باب رزق لعدد من المعيلين في البلدة، والأهم هو كسب أصوات المقاول ومن يمون عليهم، وقد تكون هذه الأصوات في بلدة صغيرة يبلغ عدد سكانها أربعة عشر ألف نسمة هي كفة الميزان التي تقرر الفائز. يتنافس المتنافسون قبيل الانتخابات على استرضائه ووعده بأن مناقصة جمع القمامة ستكون من نصيبه، ولهذا قبيل كل انتخابات محلية تتكثف زيارات المرشحين للمقاول، ويصبح اسمه على كل لسان، مرة أنه انقلب إلى جانب فلان، ومرة إلى جانب علان.
أما المرشح الذي يعلن أن الأمر سيتم بمناقصة نزيهة والأرخص هي التي ستفوز ولا يعد بشيء، فيقولون له «سلّم على نزيهة»، ويصبح مصيره الانتخابي على حافة الحاوية.
بعد الانتخابات تجري المناقصة الودّية المحسومة سلفا، وينتهي الأمر، ولا يكترث المواطن كيف تدار الأمور، فالمهم بالنسبة له هو جمع القمامة من أمام بيته.
المشكلة أن طريقة مناقصة القمامة نفسها انتقلت إلى المجالات الأخرى، حتى تعفن مجلسنا، والنتيجة أنه لم يجد ما يدفع به للمقاولين والعمال والموظفين، وأول ما انتبه له الناس هو قمامتهم.
«لماذا لم يجمع المقاول القمامة»! يبدو أنه لم يتلق مستحقاته»! والأهم أنه بكل بساطة يَمنع دخول مقاول آخر للقيام بهذا العمل، سواء بالقانون الذي يقف إلى جانبه في هذه الحالة أم بالعصا!
ويضطر المواطنون أن ينتظروا الفرج، أو أن يغامروا بأنفسهم للتخلص من قمامتهم، وهي ليست عملية سهلة، من ناحية لوجستية أولا، ثم أنها قد تنتهي في قاعة المحكمة، وغرامة مالية باهظة من قبل دوريات حماية البيئة من المستوطنات المجاورة أو ما يسمى «الحدائق الوطنية»، وحتى من قِبَل موظفي المجلس المفلس نفسه.
حُلّت مشكلة المقاول مؤقتا، بأن أخذ رئيس المجلس قرضا من البنك ودفع له، ولكن المشكلة أنه ليس الوحيد، فأمثاله كثيرون، ولهذا وفي مرحلة ما، امتنعت البنوك عن منح القروض لمجلسنا الموقر وعلّمته بالأحمر، فلجأ إلى قروض من السوق السوداء، ورؤوس أموال محلية وبفوائد خيالية، وشروط هي نهب وسرقة (عينك عينك)، وهي أيضا تدخل في خانة «رد الجميل» لبعض المؤيدين، وتضاعفت الديون وتوجّه أصحاب الحقوق إلى المحاكم، والمدهش وقتها أن مجلسنا الكريم جدا، لم يحضر الجلسات للدفاع عن نفسه، وذلك أيضا باتفاق مع أصحاب الدعاوى ومع محاميهم فربحوا القضايا مضاعفة وبسهولة، وهكذا استفادت فئة المحامين المؤيدين بأرباح خيالية، حتى أن أحد القضاة في محكمة العمل أشفق علينا ورفض التحكيم وقال في الجلسة:» أليس للمال العام من يدافع عنه»!.
كانت هذه أهم أسباب انهيار جمهوريتنا الصغيرة، كان هذا قبل حوالي خمسة عشر عاما، أعلن مجلسنا إفلاسه، وتدخلت وزارة الداخلية التي أغمضت عينيها وأذنيها عن كل هذا الفساد، لأن «البَركة» بموظفيها ومراقبيها وقائمقاميها وغيرهم من مرتشين أو أغبياء، أو ممن لا يعنيهم الأمر من أصله، وعيَّنت رئيسا لمجلسنا المنهار من خارج البلدة لسنتين، كانت ميزته الأهم والأجمل أنه لا يعرف العائلات والمجاملات ولا يُضمر طمعا بأصوات، ولم تكن عنده «لحية ممشطة»، وكان عفيفا لأنه لم يَبقَ في المجلس ما يمكن سرقته، فقد أكلوا البيضة وقشرتها والكعكة وكرتونتها. طبّقَ القانون على الجميع بحذافيره، وعمل على تسوية مع أصحاب الديون والمقاولين والسوق السوداء ومانحي القروض بأن أعاد لهم 40٪ فقط من مستحقاتهم، وأعلن أن البقية تدخل في باب (الاختلاس والسلب والسلبطة)، ومن لا يعجبه فليذهب إلى القضاء! وكُشف الغطاء عن مشاريع وهمية كثيرة، مثلا تم تقديم فواتير من قبل أربعة مقاولين على بناء جدار، تبين أنه هو الجدار نفسه، فأطلقنا عليه في حينه «جدار الحُلفاء»، المقصود حلفاء الرئيس، نظرا لتكاليفه التي فاقت تكاليف رحلة علمية إلى كوكب (كبلر ب 452) الشبيه بالأرض، وعُبّدت ساحات خاصة على حساب الميزانية العامة بِمَكرُمات رئاسية، وتم تكعيب رواتب بعض الموظفين فارتفعت إلى 400٪ من دون أي نضال نقابي ولا مظاهرات ولا إحراق إطارات في الشوارع اللهم إلا جهد التكرّم بتوقيع الاتفاقات الخاصة، فنشأت عندنا طبقة وسطى من حيث لا نحتسب، لم نجد لها توصيفا دقيقا لدى فحول مفكري الاقتصاد لا في الصين ولا في اليونان، حتى أن رواتب بعضهم فاقت راتب الرئيس نفسه بكثير، وللأمانة وللتاريخ (إذا كان هناك من يؤرّخ)، فرئيس المجلس لم يأخذ شيئا لجيبه، كما اتضح، كان كل همه المنصب والوجاهة، والدليل أنه ما زال يعاني اقتصاديا حتى يومنا هذا منذ فترة حكمه الليلكية تلك.
رحل موظف الداخلية المعيّن بعدما أخرج مجلسنا من مأزقه بلا حفلة شكر ولا درع تكريمية، رغم ازدهار صناعة الدروع في الحقبة الليلكية التكعيبية، وعدنا لننتخب رئيسنا بالتصويت الديمقراطي الحر ومن أبناء بلدتنا ومن دون إملاءات خارجية، وأشهد أنه حتى صبيحة يوم أمس جُمعت القمامة بشكل منتظم.
إسأل أي مواطن «كيف وضع مجلسكم؟ وسيجيبك» قل الحمد لله إنهم يجمعون القمامة».
عندما أرى ما يحدث في لبنان بسببها أطمئن وأقول، مهما دق الاستعمار أسافينه بيننا ومزّقنا إربا إربا، نبقى أمة واحدة ذات هموم وقمامة سياسية واحدة، سواء كنا تحت احتلال صهيوني أو عشائري أو طائفي أو مذهبي أو عسكري أو بعضها أو كلها مجتمعة. ومن هنا، من مزبلتنا في فلسطين، نعلن تضامننا مع الثوار في مواجهة القمامة السياسية في وطننا العربي حيثما كانت، ونقول «لا بد للقمامة أن تنجلي». ولكن الحذر الحذر، فهناك من يلوّث التحركات النظيفة من خلال شيطنة المتظاهرين، بالاندساس للتخريب واتخاذ ذرائع للقمع ثم ارتكاب المجازر، كما حدث في بداية الثورة السورية، فهناك محترفون بسرقة الثورات والانتفاضات وحرف مساراتها، لوضع الناس أمام خيارين، التسليم والقبول ببراميل القمامة السياسية القائمة، أو فتح قمقم (بنادورا) وكوارث الحروب الأهلية.

1