logo
أين أصبح «مؤتمر باريس» العربي 1913؟!

بقلم : د.خالد الحروب ... 10.06.2013

أين أصبحت القومية العربية والفكر القومي العربي بعد مرور مائة عام على انعقاد «المؤتمر العربي» في سان جيرمان باريس في يونيو 1913؟ هذا السؤال الكبير هو ما تناوله نحو أربعين مثقفاً قبل أيام في باريس. التأمت ندوة «مائة عام على القومية العربية: رؤى نقدية وآفاق مستقبلية»، وبجهد تنظيمي وإداري مبهر من قبل الأكاديمية الفلسطينية نهى خلف التي كانت وراء فكرة عقد الندوة، ليحاول من اجتمع فيها استدعاء روح فكرة كانت مليئة بالحيوية والنشاط والأمل، ومثلت حلم العرب للتحرر من قبضة الاستبداد التركي، ولمجابهة الاحتلال الكولونيالي الذي كان يقف على الحدود منتظراً لحظة الانهيار الأخير لدولة الأستانة وليرث أراضيها والبلدان التي سيطرت عليها. «مؤتمر باريس» الذي انعقد في مناخ سياسي اتسم بالاضطراب الإمبراطوري الهائل، وصراع القوى الكبرى على أرض العرب، حضره 23 مندوباً من بلدان المشرق، سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، ومراقبون من مصر وأقاليم أخرى، ودوماً يُشار إلى الخمسة الذين كانوا المنظمين الفعليين للمؤتمر وأصحاب فكرته وقادته، وجلهم كانوا من الطلبة العرب في فرنسا، وهم: عبد الغني العريسي ومحمد المحمصاني وتوفيق الفايد من بيروت، وعوني عبد الهادي من نابلس، وجميل مردم بيك من دمشق. كان أولئك الرياديون مهجوسين بصعود تيار الاتحاديين القومي التركي الذي تبنى خط التتريك ودأب على احتقار العرب، وتغول على نخبتهم كما فعل جمال باشا الذي ساق عشرات المثقفين والمفكرين إلى مقاصل الإعدام، ومنهم من الذين شاركوا وقادوا مؤتمر باريس.
وضع المؤتمر أربع قضايا رئيسية على أجندته: الاحتلال الأجنبي والنضال الوطني، حقوق العرب في الإمبرطورية العثمانية، ضرورة الإصلاح والحكم الذاتي، والهجرة من وإلى سوريا (الكبرى).
وفي تلك الحقبة الحساسة والحاسمة كانت تتبلور أفكار متعددة إزاء تشكيل مستقبل العرب والعلاقة مع ما تبقى من الدولة العثمانية، والتحسب لشرور الأطماع الأوروبية. كان ثمة تيار الانفصال عن الدولة التركية والتحرر الكلي منها وتشكيل دولة موحدة المشرق العربي، وكان ثمة تيار اللامركزية الذي لم يذهب إلى حد المطالبة بالانفصال لكنه طالب بنوع من الاستقلال والحكم الذاتي في الإطار الفضفاض للعثمانية. ويمكن موضعة «مؤتمر باريس» في إطار تيار اللامركزية، ذلك أن المؤتمرين كانوا يريدون الحفاظ على توازن دقيق بحيث لا يُنظر لهم على أنهم دعاة انفصال عن الدولة العثمانية وبالتالي يساعدون في انهيارها الذي يلوح في الأفق، وفي نفس الوقت لا يريدون استفزاز ولفت انتباه الدول الغربية عبر دعوات إقامة دولة عربية واحدة، لاسيما أن جيوش تلك الدول الطامعة تلوح في الأفق أيضاً. لكن لا يعني ذلك أن روح المؤتمر كانت مهادنة أو غير نقدية، بل هاجمت السياسة التركية وطالبت الأستانة باحترام العرب ومنحهم التمثيل السياسي اللائق في الدولة والحكم. ونرى ذلك في اقتباسات من كلمة عبدالغني العريسي أحد منظمي المؤتمر حيث يقول: «إن العرب تجمعهم وحدة لغة ووحدة عنصر ووحدة تاريخ ووحدة عادات ووحدة مطمح سياسي. فنحن عرب قبل كل صبغة سياسية. حافظنا على خصائصنا وميزاتنا وذاتنا منذ قرون عديدة، رغماً مما كان ينتابنا من حكومة الأستانة من أنواع الإدارات كالامتصاص السياسي أو التسخير الاستعماري أو الذوبان العنصري... تعودت هذه الحكومة أن تعامل الجنسيات العثمانية معاملة الغالب والمغلوب على قاعدة (حق الفتح). فنحن نصرح على رؤوس الأشهاد بأنه إذا كان في استطاعة الحكومة أن تدعي (حق الفتح) في بلاد البلقان مثلا، فلا تستطيع أن تدعيه لا حقاً ولا حقيقة في البلاد العربية... نحن قاعدة هذه الدولة من قبل ومن بعد لا أسرى مسخرون ... فلا أرض بعد اليوم تُستعمر ولا أمة تُسخر، فإنما نحن الرعاة لا الرعية».
القراءة الاسترجاعية لـ«مؤتمر باريس» تعيد تأكيد فكرة أساسية حول تبلور فكرة الوحدة العربية في سياق تطور النزعات التحررية العربية من السيطرة العثمانية في المرحلة الأولى، ثم من السيطرة الكولونيالية اللاحقة في المرحلة الثانية. وفي قلب اللحظة التحررية الطويلة تطورت فكرة الوحدة العربية كمشروع بديل للسيطرتين التركية والغربية، فلعبت تلك الفكرة دور الحلم الذي جمع القوى العربية المعارضة للسيطرة الأجنبية. أي أن تلك الفكرة كانت نضالية وذات طابع تحشيدي منذ البداية ولم يتم اختبار عمليتها إلا في مراحل لاحقة. وكما هو الحال في كل مقاومة أو ثورة، تتوحد القوى العريضة وراء فكرة متعالية عن بشاعة الواقع، وغالباً ما تكون حالمة، لكنها تمتلك طاقة توحيدية هائلة وإن كانت مؤقتة. وتعمل على إزاحة الخلافات البينية جانباً من ناحية، وعلى تقريب المسافة النظرية بين غائية الحلم وبشاعة الواقع. فالشعور الوحدوي عند شرائح النخب العربية كان ضد العثمانيين ومُستَفزاً بسياساتهم، لكنه لم يكن شعوراً مسنوداً بوقائع تاريخية أو حقائق صلبة على الأرض، بعيداً عن الوجدان والعواطف. الوحدويون العرب بنوا مشروعاً سياسياً يقوم على تجربة العداء المشترك للآخر المتسلط عليهم، وكان ذلك كافياً لتوليد طاقة إيجابية كبيرة في مجال مقاومة عدو مشترك. لكن لم تكن الوقائع على الأرض تؤكد على فعالية تلك الفكرة كي تخلق بديلا يحتل مكان الاستعمار في حال رحيله.
منذ مؤتمر باريس وحتى هذه اللحظة يمكن التمييز بين نوعين من العروبة: العروبة السياسية (السيادية)، والعروبة الثقافية. الأولى مهجوسة بالغاية النهائية أي الوحدة العربية، والثانية عفوية تعكس تفاعل أبناء المنطقة مع بعضهم البعض لغوياً وثقافياً وتجارياً، وإحساسهم بوجدان مشترك وتخليقهم لفضاءات موحدة بحكم الواقع وحركة الأشياء، وهي فضاءات تتداخل مع طموحات سياسية غير واضحة الملامح، لكنها تعيد تأكيد خاصية التأثير المُتبادل بين الجماعات والشعوب العربية كما توضح في ثورات «الربيع العربي» التي أثرت في بعضها البعض. والاختلافات في سيرورتي العروبة السياسية والعروبة الثقافية تحتاج إلى حديث موسع قادم.


www.deyaralnagab.com