logo
1 2 3 41120
أصوات المطارق بسوق النحاسين في دمشق !!
03.03.2019

مثل بقية الحرف التقليدية في أسواق المدن العربية القديمة تعاني حرفة النحاس من اندثار يهددها بعد أن هجرها أصحابها إلى أعمال أخرى، وذلك لقلة مردودها بعد انتشار الأواني من معادن أخرى ومن البلاستيك أقل سعرا من الأواني النحاسية المعجونة بالصبر، كما ساهم تراجع عدد السياح في ركود السلع التي بقيت معلقة في المحلات، ورغم ذلك لا تزال قلة من الشباب تحاول النهوض بهذه الحرفة العريقة من خلال إبداع منتجات وتحف نحاسية أخرى صالحة لأن تكون هدايا وديكورات.
دمشق - ما إن تقترب من سوق النحاسين بجانب سوق المناخلية في شارع الملك فيصل بدمشق، حتى تلفت مسامعك أصوات يختلف ضجيجها عن سواها تنفرد بها يد حرفية طرقت فأبدعت أدواتا وأواني نحاسية دلت على المهنة العريقة.
دقات النحاس التي تتناغم حينا وتختلف أحيانا في سوق الدقاقين، هكذا يسميه البعض نسبة إلى طرق النحاس، بدأت تخفت، وصارت قليلة بسبب عدة عوامل منها دخول الأواني الجديدة إلى البيوت السورية ودخول الآلات الحديثة على المهنة وقلة إقبال السياح على البلاد منذ سنوات.
وبقيت دلال القهوة ومناقل ومباخر وسيوف ولوحات وفوانيس وأدوات متنوعة تراها تزين رفوف المحلات في السوق الذي لم يعد فيه سوى عدد قليل من الحرفيين الذين حرصوا على تعليم حرفتهم لأبنائهم.
*عراقيل وإصرار
يؤكد الحرفيون أن حرفة طرق النحاس ونقشه وزخرفته ظلت صامدة المئات من السنين، حتى وقعت في منافسة شديدة مع المنتجات الأخرى المشابهة مثل الألمنيوم والبلاستيك والملومين، وبدأت بالتراجع، وأصبح عشقها مقتصرا على السائحين وبعض المغرمين بالديكور، فلم تعد تدر أرباحا مادية كما في السابق، ما دفع معظم الحرفيين للتحول إلى مهن أخرى، ولم يبق فيها إلا بعض كبار السن وأبنائهم الذين توارثوا المهنة أبا عن جد رافضين بيع أو تأجير محلاتهم أو استبدال مهنتهم بمهن أخرى.
يقول سليم الطباع أحد الحرفيين الشباب الذي ورث المهنة عن والده وجده “تعتبر حرفة النحاس قديمة جدا، وكانت محصورة منذ مئة عام في صناعة الأواني المنزلية، ثم بدأت تنحسر بعد ظهور الأواني الحديثة مثل الستانلس والتيفال، فهجرت السيدات الأواني النحاسية واتجهن نحو الأواني الحديثة، وكان ذلك في الثمانينات”.
زخرفة النحاس ونقشه حرفة لا تختلف كثيرا عن الدقة المطلوبة لحرفة الصياغة إلا بضخامة الأواني
هذا التراجع بدأ عندما بدأت أوروبا أواخر القرن الماضي تصدر إلى سوريا أواني الألمنيوم للطهي والغسيل والأدوات المنزلية، أو من الحديد المصفح (التنك)، ثم ظهرت في الأسواق بعد ذلك أنواع مختلفة من الأكواب والأطباق من المواد الصلبة غير القابلة للكسر، كما انتشرت صناعة البلاستيك، فأربكت حرفة النحاس، وضيقت سبل الرزق على أربابها وحدت من عدد محترفيها.
ومع ذلك يتفق عدد من الحرفيين الشبان الذين تعلموا المهنة بالوراثة، على حبهم لها ويرغبون في الاستمرار والحفاظ عليها لأنها مهنة الآباء والأجداد والأولاد لاحقا، فهي مهنة من التراث، تنشر الهوية الدمشقية والسورية بصفة عامة في سائر أنحاء العالم.
ويقول الحرفي ياسر ياغي، وهو حرفي شاب في العشرينات من العمر، “هي حرفة صعبة جدا، بدأت تعلمها حين كنت أنزل إلى السوق لمساعدة والدي، ثم أغرمت بها وبأسرارها، وأصبحت اليوم مصدر رزقي”. ويضيف “على الرغم من قلة عدد الحرفيين اليوم، إلا أنها مازالت تظهر مهارة الحرفي الدمشقي وإبداعه”.
حرفة عرفها الدمشقيون منذ القرن الثالث عشر، حسب أحمد النوري صاحب أقدم محلات السوق، الذي أشار إلى أن “السوق قديما كان في منطقة السنجقدار، وتم نقله إلى داخل سور قلعة دمشق مقابل سوق المناخلية قبل نحو 300 سنة حيث كانت أصوات الطرق على النحاس تصل إلى ساحة المرجة”.
وأشار إلى أن عدد الورشات في السوق بلغ سابقا نحو 400 ورشة، في حين لا يتجاوز 4 ورشات اليوم.
ولحمايتها من الاندثار يحاول بعض الحرفيين حمايتها، فأدخلوا عليها أفكارا لتنتقل من صناعة الأواني إلى أثاث المنزل والديكورات وغيرها.
ويقول سليم طباع لوكالة الأنباء السورية “نحن كحرفيين خشينا على حرفتنا من الانقراض، فأدخلنا النحاسيات إلى ديكورات المنزل مثل المغاسل النحاسية والصنابير التي أخذت شكلا قديما، ونحاسيات أخرى مزركشة بأجمل الرسومات والنقوش التي تعبر عن الروح الثقافية الشرقية والإسلامية فيها”. ويضيف أنه يعمل بهذه الحرفة منذ أكثر من عشرين عاما وقد تعلمها من والده نقلا عن جده، وأضاف عليها جديده، ليحافظ على هذه الحرفة التي هجرها الكثير من حرفييها لقلة الطلب عليها وضعف مردودها.
ويؤكد أن الحرفي الناجح يخشى دائما على حرفته ويحاول تطويرها وابتكار الجديد منها لأن الزمن يتغير باستمرار والأجيال تتوالى وهناك الكثير من المهن التي انقرضت تقريبا أو انحسرت بشكل ملحوظ، وأنه من هذا المنطلق قد طور حرفته من خلال الأدوات النحاسية التي يصنعها ومنها مصب القهوة النحاسي الذي استبدله الكثيرون بمصب حديث من الستانلس الذي راج كثيرا، فابتكر مصبا نحاسيا جديدا يجمع الماضي والحاضر فهو نحاسي قديم ومزركش بنقش ليزري أعطاه مسحة جمالية رائعة غدا من خلالها تحفة فنية نالت إعجاب الجيل الحديث قبل القديم.
*تقسيم العمل
يؤكد الحرفي الشاب أحمد أبوتاجا أن معدن النحاس نوعان؛ الأول، الأحمر الذي يستعمل لصنع الأواني التي تستخدم للطبخ وحفظ الماء والزيت، لأن هذا النوع من النحاس لا يصدأ بفعل الرطوبة والسوائل، كما تصنع منه التحف التي تعطي بريقا جذابا للناظر إليها، أما النوع الثاني فهو النحاس الأصفر واستعماله كثير في صناعة أدوات الزينة المختلفة، كتزيين رأس الفرس من أجراس تعطي نغما موسيقيا جميلا، كما تصنع منه مطاحن البن أو ما يسمى بـ(الجرن) والشمعدانات وملاقط النار وغيرها.
وحرفة النحاس موزعة إلى اختصاصات على أفراد الورشة الواحدة أو على عدد من الورشات، وغالبا ما يقتصر عمل الحرفي على التخطيط والرسم، وآخر على تنزيل الذهب والفضة، وآخر على التجويف، وآخر على النقش وهكذا، ونادرا ما تجتمع هذه الخبرات كلها لدى حرفي واحد. وهناك أيضا أرباب صناعة الصب والسكب، أي صهر النحاس وسكبه في قوالب تأخذ أشكالا مختلفة.
ويقول شيخ الكار أحمد النوري “لحرفة الصب والسكب ملحقات متعددة من الحرف الأخرى، إذ تعتبر النواة المحركة لنشاط حرف الخراطة والنشر والثقب والتسوية وصنع القوالب الخشبية والرسم المهني والميكانيكي، إلى غير ذلك من الحرف والحرفيين المتممين لحاجاتها”.
أما أدوات الحرفة، فتقتصر على منضدة خشبية ومطارق حديدية خفيفة ومتنوعة وأقلام الحفر الفولاذية وأزاميل ومنشار أحماض مؤثرة وأقلام رسم، وقد دخلت في السنوات الاخيرة الآلات، لكن تبقى حرفة اليد ذات خصوصية فنية فريدة.
ويقول النوري “نأخذ الصفيحة النحاسية ثم نختار شكل الآنية المطلوب صنعها، ونقوم بإحماء هذه الصفيحة على النار عدة مرات حتى تتطاوع معنا عند طرقها لتأخذ شكل الآنية المطلوب، ثم بعد ذلك تأتي عملية الزخرفة والنقوش حيث ترسم النقوش بأقلام نقش فولاذية خاصة بهذه المهنة وبمساعدة المطرقة والسندان، ثم تمسح القطعة جيدا حتى تعود إلى أصلها الطبيعي، وآخر مرحلة من الصنع تبدأ بحفر النقوش التي رسمناها ونلبسها بالفضة أو الكروم”.
وبحسب النوري، لإعطاء النحاس لونا براقا ولامعا تستخدم الطريقة القديمة “الزنكوغراف” حيث تغطى القطعة بمادة شمعية خليطة بالورنيش والقطران.
*زخرفة ومهارة
كما يقول الحرفيون، الزخرفة على النحاس، كمثيلاتها من الحرف اليدوية الدقيقة تحتاج إلى التحلي بالصبر ودقة الملاحظة، ويتفرع عن هذه الحرفة، الحفر أو النقش والتجويف وتنزيل الفضة والذهب، ثم الكبس فالتخريق.
وتعتمد اعتمادا تاما على الخط والرسم الزخرفي، ويقول الحرفي سليم طباع “النحاسيات بحر من الصناعة الدمشقية العريقة، وأهم ما زينت به القصور الدمشقية التاريخية العريقة والكنائس والمساجد، ثريات وفوانيس نحاسية من أجمل ما صنعته أيدي النحاسين، ونستطيع أن نسميهم النحاتين الرسامين، حيث يعتمد جزء من عملهم على الرسم اليدوي المحترف، مستخدمين فيه أيضا خطوطا يدوية عريقة في تخطيط تلك التحف الفنية”.
وينوه أحمد النوري إلى عناية هذه الحرفة بالنقوش الزخرفية العربية ورسوم الأشخاص والحوادث التاريخية، مؤكدا أن أعمال الزخرفة على النحاس عديدة وواسعة وقديمة، خاصة أن عمل الزخرفي لا يختلف كثيرا في دقته عن الدقة المطلوبة لحرفة الصياغة، إلا بضخامة القطع النحاسية بالنسبة للمصوغات الأخرى.
ومن مراحل هذه الصناعة، الدق والنقش والتنزيل والتخريم، حيث يتم تنزيل أسلاك دقيقة من الذهب أو الفضة بعد تسنين مكان النقش بحيث تبدو فيه القطعة وكأنها من الذهب أو الفضة، وبعد الانتهاء تكشط بقايا الذهب والفضة البارزة ثم تصقل القطعة بكاملها.
وهناك صناعة النحاس المغشى بالمينا الزجاجية، حيث ترسم مختلف الزخارف النباتية وغيرها من الكتابات بألوان متناسبة، ثم تملأ بمسحوق المينا الزجاجية كل لون بمفرده، ثم تترك حتى تجف ومن ثم تشوى في الفرن، فتذوب المينا وتعشق بالنحاس ومن ثم تبرد وتنظف بحمض الكبريت وتفرك بالرمل، فيعود للنحاس بريقه من خلال لمعان المينا الملونة.
ويقول الشاب ماجد الطحان البالغ من العمر 35 عاما، إنه يعمل بهذه المهنة منذ أكثر من 20 عاما وهي مهنة متوارثة أبا عن جد في عائلته، مضيفا أنه يقوم وشقيقه أسامة برسم النقوش والأشكال الهندسية والورود والكتابات على الطناجر والأدوات النحاسية القديمة ومن ثم يقومان بحفرها باستخدام الأزاميل الصغيرة والمطارق والمناشير الحديدية، وبعد الانتهاء من النقش يقومان بتعتيقها أو تلميعها حسب طلب الزبون. ويضيف أن معدن النحاس معدن مرن أكثر من الحديد، ولذلك فإنه يستجيب للزخرفة والتشكيل أكثر من باقي المعادن.
ويشرح “إن العمل يتم على مراحل؛ فبعد الانتهاء من مرحلة الرسم والنقش نقوم بتحمية القطعة على النار لإكسابها بعض الطراوة لأن الطرق والزخرفة يفقدان النحاس شيئا من مرونته وطراوته، حيث نقوم بطرقها من الخلف وفوق النقش لينفر إلى الخارج بينما تبقى باقي الأجزاء مستوية ما يعطي للوحة المزيد من الجمال والروعة”.
ويضيف “بعض القطع ننقشها حسب خبرتنا، والبعض الآخر بناء على رغبة الزبون، فبعض الزبائن يرغبون في نقش اسم العائلة، والبعض الآخر يطلب نقش آيات قرانية، وآخرون يطلبون عبارات بالخط العربي”.
ويعمل الحرفيون الشبان على توسيع دائرة نشاطهم من خلال نقش التحف والثريات التي تزين البيوت والفضاءات العامة كالمطاعم والنزل والمقاهي.
ويقول الطباع “عادت الثريات القديمة لتصبح موضة العصر، وتصمم المطاعم الدمشقية على أساس عكس صورة الماضي ودمجها مع الحاضر، لذلك نوفر الثريات النحاسية التي تأخذ شكل الفوانيس التي تنسدل منها خيوط الخرز والسيلان، وهذا ما يزيد من جماليتها، خاصة وأن لون النحاس المعتق يضفي عليها جمالية حيث تأخذ الناظر إليها إلى ذكريات الماضي وجمال العمارة الإسلامية”.
ويتابع الطباع قائلا إن معدن النحاس من أوائل المعادن التي تنقل الحرارة، لذلك لم يستغن عنه طهاة المطاعم الذين مازالوا يستعملون الأواني النحاسية الكبيرة في تحضير الطعام، مضيفا أن الشبان يقبلون على النحاسيات بشكل يوازي أجدادهم، “فقد زاد طلب النحاس الذي يدخل في الأثاث المنزلي، فالكثير من الصالونات يدخل ضمن زركشتها النحاس، فهو يعطيها فخامة، إضافة إلى المتانة ولا ننسى الثريات النحاسية والصواني المزخرفة والأباريق، وهذا كله يدل على أن حرفة الطرق على النحاس حرفة لا تنتهي لأن مهارة حرفييها تصنع منها الجديد باستمرار”.
ويختم الطباع حديثه قائلا “نحن كحرفيي صناعات نحاسية نبتكر الجديد دائما للحفاظ على حرفتنا وتراثنا لأن النحاسيات الشرقية حرفة دمشقية بامتياز، ونحن نعتبرها أمانة بين أيدينا، فنعطيها ما بوسعنا من حرفيتنا وخبراتنا لنقدمها ونورثها بدورنا لأحفادنا الذين سوف يضيفون عليها ما فاتنا من جديد”.


www.deyaralnagab.com