logo
سميرة الخليل!!
بقلم : ياسين الحاج صالح ... 28.05.2014

بعد 4 سنوات في السجن، 1987-1991، اختارت سميرة المنحدرة من مناطق حمص أن تعيش مستقلة في دمشق. كانت تعمل في تنضيد وإخراج الكتب، عمل يوفر لها بالكاد ما يعادل 100 دولار أمريكي في الشهر حينها.
امرأة عازبة تعيش لوحدها، ليس هذا بالأمر الشائع في سورية. لكن سميرة قررت أن لا يقرر أحد غيرها كيف تسير حياتها.
منذ أواخر عام 2000 ارتبطت خياراتنا معا، وحياتنا أيضا. تزوجنا بعد نحو عامين دون موافقة مسبقة من والديها. ترتب على ذلك انقطاع علاقتها مع والدها لسنوات. كان هذا صعبا على سميرة التي تحب أباها كثيرا، لكنها انحازت لحريتها ولقرار قلبها. بعد سنوات صرنا في بيت أبيها ضيوفا مرحبا بنا.
طوال أكثر من عقد من حياتنا المشتركة، لم نفترق لأكثر من أسبوع أو نحوه حين كان يزور أي منا بمفرده حمص أو حلب أو الرقة أو اللاذقية.
أو بيروت التي زرتها مرات قليلة بين 2003 و2004، قبل أن أمنع من السفر. زارت سميرة أيضا بيروت مرتين أو ثلاثا عام 2006 في إطار مناقشات تمهيدية سبقت إعلان دمشق/ بيروت، الوثيقة التي تناولت العلاقات السورية اللبنانية وصدرت في العام نفسه.
ورغم إلحاحي، امتنعت سميرة عن محاولة استخراج جواز سفر لنفسها. كانت تريد أن نسافر معا، وان نبقى معا. تقول إنها متأكدة أنها لن تستمتع بزيارة أخوتي في بلدان أوروبية إن لم نكن معا.
كانت تعلم أني أستوحش بغيابها، واستعجل عودتها. ولعلمها بخرقي في شؤون الحياة اليومية، كانت تفضل أن نكون معا لتتولى هي تسيير هذه الشؤون الصعبة.
افترقنا إلى أمد غير معلوم لأول مرة حين قصدت الغوطة في أوائل شهر نيسان/ابريل 2013 بغرض أن أكمل دربي نحو الشمال. ظلت سميرة في دمشق بين أصدقاء مشتركين. لكنها صارت ملاحقة من قبل النظام بعد وقت وجيز، وهذا بـ»فضل» تقرير كتبه مخبر، شملني معها ومع أقرباء لنا. يفترض أننا قلنا كلاما سيئا عن النظام في وقت ما قبل الثورة!
مضطرة إلى التواري في دمشق، انتهى تفضيلنا إلى أن تنضم سميرة إليّ في الغوطة الشرقية التي استطال مقامي فيها، وذلك بعض انفصال لشهر ونصف. في 18 أيار/مايو 2013 كانت سميرة بشعرها القصير تصل إلى إحدى بلدات الغوطة خلف شابين ثائرين على دراجة نارية.
كان هذا عالم جديد عليها. كتبت يوميات منه في دفتر خاص، ودوّنت بعض ملاحظاتها على صفحتها على فيسبوك، الصفحة التي جرى إغلاقها إثر اختطافها وتغييبها في 9/12/2013.
قضينا الأسابيع التالية بين المليحة ودوما. في الأخيرة كنا في بيت واحد مع رزان زيتونة، صديقتنا القديمة، الكاتبة والمناضلة والناشطة الحقوقية الشجاعة، التي كانت افتتحت هناك مكتبا لمركز توثيق الانتهاكات الذي تديره. كانت الأوضاع تزداد صعوبة في منطقة تتعرض للقصف اليومي من قبل قوات النظام، ولحصار مشتد، ارتفعت بسببه أسعار الموارد الغذائية والوقود أضعافا كثيرة.
لا تشكو أبدا، سميرة تعيش مثلما يعيش الناس، ولا تتوقع لنفسها وضعا خاصا. أي طعام يكفي، وأية نوعية منه جيدة. من جهتي لم أكن مرتاحا. جئت ترانزيت إلى الغوطة التي لم يكن لي أصدقاء شخصيون فيها، وما دمت غادرت مكاني في دمشق، لا أريد الآن أن أبقى في مكان ثابت.
كأنها خلقت هنا، سميرة هادئة البال، تجد دوما ما تشغل به نفسها، من التحدث إلى مرتادي المركز، إلى المشاركة في تدبير أمورنا اليومية، إلى التواصل مع صديقات وأصدقاء عبر النت الفضائي الذي استطاعت رزان تأمينه بعد وقت قصير من قدومها إلى الغوطة في 25 نيسان/ابريل 2013.
لا أعرف أحدا مثلها في الإصغاء للآخرين. كان هذا يجعل سمور التي لا تؤذي ولم تؤذ أحدا في حياتها في موضع تعلق من تصغي إليهم.
أنا عائلتها وهي عائلتي، كنت منشغل البال براحتها، أن تفعل ما تحب وبين من تحب، ألا تضطر لشيء لا تحبه أو لا ترتاح إليه. كانت سميرة حريصة على وضع مريح لي. شيئا فشيئا بعد زواجنا كنت قد صرت مشروعها، وكانت تريد لهذا المشروع أن يثمر.
على نحو مفاجئ أعلمتُ بعد ظهر يوم 10 تموز/يوليو بأننا سنرحل ليلا نحو الشمال. كنت انتظر الفرصة منذ نحو 100 يوم. تشاورنا سريعا، الرحلة خطرة وغير مضمونة، لكن سمّور كانت تعرف إني أفضل الرحيل. ألحّت بشدة على صديق شاب، كان يريد السفر إلى الشمال بدوره، أن يرافقني في الرحلة نفسها لا في رحلة لاحقة كما كان يخطط. وهو ما كان.
عانقتها مودعا مساء ذلك اليوم. كنت أعلم أن أكثر ما يزعج سمور هو فراقنا، لكن كان الأمل أن نلتئم في وقت قريب.
سمور لم تكن قلقة على نفسها في الغوطة. فقط كانت متوترة الأعصاب من إقامتي في الرقة التي كانت تتحكم بها داعش أكثر وأكثر، وتسمع منها قصصا مقلقة. حين صرتُ في تركيا، اطمأن قلبها. بدأنا التخطيط لانضمامها إلي، لكن سمور لم تكن في عجلة من أمرها. كانت تقوم بواجبها بين الناس هناك، وتجد الرضا في ذلك.
سميرة التي اعتقلها حافظ الأسد 4 سنوات وعذبها جلاوزته في جيل سبق، غابت مع رزان ووائل وناظم قبل أكثر من خمسة شهور ونصف. مختطفوها هم ممثلو صيغة إسلامية لسياسة القسوة التي تفجرت الثورة ضدها في الأصل.
حال سميرة ورفاقها يمثل حال سورية بين نظام هو الوحشية مجسدة وبين إسلاميين هم اللاإنسانية مجسدة، كانت السجون من أول ما حرصوا عليه في مناطق يسيطرون عليها.
مثل سورية، سميرة قضيتي، قضية حرية.

كاتب سوري

www.deyaralnagab.com