logo
زيارة البطريرك الراعي لفلسطين ولقاء الغفران مع عملاء لحد!!
بقلم : سليم البيك ... 03.06.2014

انتظرت لأرى ما ستصل إليه زيارة بطريرك أنطاكية الماروني بشارة الراعي إلى فلسطين المحتلة، كُتبت وبُثّت العديد من المقالات والتقارير التي يسهل تصنيفها بين إما مؤيدة لهذه الزيارة وإما رافضة لها، وهذا حال الاستقطاب الحاد والحاضر في كل المسائل السياسية في لبنان، واليوم تُعدّ المسألة السورية الأكثر تأثيراً في تشكيل هذه الاستقطابات، بالتالي بات موقف أي طرف من الثورة أو النظام السوريين المحدِّد والملحّ والمؤسِّس والسابق لأي موقف لأي مسألة سياسية أخرى. فنرى وسائل الإعلام هناك كما نرى الكثير من الأفراد المتأثرين بهذه الوسائل وحتى العاملين بها، منقسمة بالشكل الأوتوماتيكي والمسبق الذي تعوّدوا عليه، بين مؤيد متحمّس لها قبل أن تكون، وبين معارض متحمّس لها قبل أن تكون، وذلك حسب اصطفافات سابقة. فدافع معارضو الأسد وإعلامهم عنها وعارضها مؤيدو الأسد وإعلامهم.
*مقاطعة الفلسطينيين والنضال عن بعد
لا أريد إذن لهذه الأسطر أن تُشمل ضمن ما كُتب ضد هذه الزيارة، ولا أريد لرأيي أن تتم إزاحته ليناسب هذا الموقف أو ذاك، لأني أختلف مع معظم رافضي هذه الزيارة من حيث المبدأ، كونهم في مجملهم يرفضون أي زيارة لأي عربي (سياسي مثقف فنان رجل دين الخ) إلى فلسطين واضعينها ضمن خانة التطبيع مع العدو الإسرائيلي كون الزيارة تشكّل اعترافاً به ولا تصبّ في مصلحة المقاطعة لهذا الكيان.
أما رأيي الشخصي فهو أن إسرائيل موجودة اعترفنا بها أم لم نعترف، هذا من الناحية المادية، أما مسألة الاعتراف بشرعيّتها فهي حجّة تعميمية لفظية لا أساس علمي أو دليل يفسّر ويربط بين زيارة تضامنية لأرض وشعب محتلّين وبين الاعتراف بشرعية الاحتلال، خاصة وإن كانت الزيارة موجّهة للشعب الفلسطيني مساندة إياه وآتية في سياق وطني.
مسألة الاعتراف بالشرعية من خلال الزيارة هي شعار يُرمى في الهواء، وهو شعار محمي بمواقف تبدو وطنيّة، للمفردات المستخدمة فيه وللنبرة أحياناً التي تُقال بها، وأساساً لاستسهال التخوين كحالة هجومية على الرأي المخالف. إلا أني أعيد وأسأل: هل لقائليها أي تفسيرات علمية لها، تسعى لإقناعنا بدل تهديدنا بالمفردات والنبرة المفتعلة؟
أنا مع أن يدخل أي عربي إلى فلسطين، أن يقف إلى جانب الفلسطينيين ويعيش ما يستطيع من يومياتهم بما فيها من تفاصيل أجبر الاحتلالُ الفلسطينيين على التعايش معها كالقمع والاعتقال والعنصرية والجدار والمستوطنين، وبما فيها من بطولات فعلية لهذا الشعب في مقاومته الاحتلال والتشبث بأرضه، ذلك أفضل برأيي من الصراخ الوطني الكسول والجبان عبر الإعلام وبعيداً عن واقع الفلسطينيين، وأكثر مصداقية من أساليب الصراخ و»النضال عن بعد» كافة ، وأفضل من بيع الوطنيّات على من اختار أن يأتي إلى الفلسطينيين ويقف إلى جانبهم ويشاركهم فعالياتهم الأدبية والفنية والثقافية، خاصة وأن الاحتلال يسعى منذ نشوئه على أرضنا لعزل الفلسطينيين عن عمقهم العربي ومازال الكثير من العرب يساعده بذلك، من حيث يدرون أو لا يدرون.
بالحديث عن رجال الدين العرب، والزيارات الرسميّة إلى فلسطين والمصاحبة لبابا الفاتيكان أو المستقبلة له في فلسطين، تحديداً بالحديث عن زيارة البطريرك، لو توقّفت زيارته على دعم المسيحيين في فلسطين ومشاركتهم معاناتهم ونضالاتهم، مؤكّداً لهم (ما يعرفونه مسبقاً دون الحاجة لمن يؤكد) أهمية البقاء في هذه البلد التي تسعى إسرائيل لتفريغها من مسيحييها، لما عارضتُها، لكني منذ البداية تشكّكت بأنها ستتوقف عند ذلك، وانتظرت لنرى ما الذي سنشاهده ونسمعه من البطريرك بعد الانتهاء من زيارته للأرض المقدّسة.
*التقاء البطريرك بعملاء لحد
التقى البطريرك بفلسطينيين في بيت لحم وعكا والناصرة وغيرها، وهذا طبيعي وواجبه، لكنه لم يكتف بذلك، بل التقى عملاء جيش لحد في بلدة عسفيا في الجليل وقال ما قاله. هنا لم يعد من الممكن اعتبار هذه الزيارة وقوفاً إلى جانب الفلسطينيين ومقاومة العزل المفروض عليهم من قبل الاحتلال، لأن التقاء عملاء لحد وإعلان الانحياز لهم لن يصبّ أبداً في صالح القضية والشعب الفلسطيني، ولن يصبّ في صالح لبنان وطناً وشعباً بطبيعة الحال. هنا أعطى البطريرك لزيارته بعداً سياسياً لا بلقائه العملاء فحسب، بل بما قاله في حضورهم، وعليه أن يسمع آراء سياسية في ذلك.
في لقاء جماعي مع عملاء إسرائيل قال إنهم: «يحبون لبنان أكثر من أي مقيم هناك»، فعملاء إسرائيل الذين اقترفوا بحق لبنانيين وفلسطينيين من البشاعات ما تذكّرنا بها بشاعات جنود الأسد وشبيحته الآن (وإن كره الممانعون) فيما يقترفونه بحق سوريين وفلسطينيين. هم الفئة الأكثر حباً لوطنهم بحسب البطريرك، لا اللبنانيين في لبنان وفيهم من ضحّى واعتُقل وقدّم شهداء دفاعاً عن لبنان وحريّته من الجيشين الإسرائيلي والسوري.
يضيف البطريرك مانحاً صكّ براءة لهؤلاء العملاء (ألم يسألهم عن أساليب التعذيب التي مارسوها في معتقلات كالخيام؟)، يضيف: «الأبرياء دائماً يدفعون ثم غلطات وشرور الكبار». يؤكّد موقفه ثانية: «أشعر بأني في قلب لبنان الحقيقي، لا لبنان المزيف»، مهما كان لبنان بلداً مزيفاً بأفرقائه السياسيين الطائفيين المزيفين، لكني لا أعتقد بأن لبنان الحقيقي سيكون فعلاً لبنانَ هؤلاء العملاء!
بعد عودته نقلت أكثر من قناة لبنانية هذه التصريحات في تقاريرها الإخبارية، ومجرّد نقلها يشكّل إدانة سياسية للبطريرك الذي لا بدّ أن تتم مساءلته إعلامياً إن لم تستطع الدولة فعله قانونياً، لضعفها ولخضوعها لموازين قوى قد تحول دون هذه المساءلة. يبقى للإعلام والصحافة السلطة الأقوى والأجرأ في مسائل كهذه.
في التقارير ذاتها نشاهد البطريرك في بلدة عسفيا وفي لقاء جماعي آخر بعملاء لحد، نشاهده يقول: «حارَبوا ضد لبنان وضد الدولة اللبنانية، هؤلاء نسميهم متعاملين وخونة! أنا أرفض هذا الكلام رفضا تاماً»، هنا يذهب غبطته في مواقفه أبعد من مجرّد تبرئة العملاء ومنحهم الغفران، ليصل إلى الرفض التام (قالها صراخاً!) لتوصيفهم أصلاً بأنهم عملاء أو أن تعاملهم مع إسرائيل كان ضدّ لبنان.
ماذا نسمّي ذلك؟ زيارة لدعم الفلسطينيين في وجه المحتل أم لدعم عملاء لبنانيين لهذا المحتل؟ هل يسير البطريرك على مسلك الممانعين من لبنانيين وسوريين في استغلال قضية فلسطين لغايات سياسية ضيّقة لا خصّ لفلسطين بها، بل تناقض مصالح هذه القضية أصلاً؟
أذكر هنا كيف انسحب متهرّباً من مقابلة على «فرنسا 24» أُجريت قبل الزيارة، لأنه سئل بكل تهذيب وحيادية إن كان سيلتقي بعناصر من ميليشيا لحد، أجاب عدة مرات: «لن ألتقي أي مسؤول مدني أو سياسي» قبل أن ينسحب قائلا: «لست هنا من أجل الإدانات». بغض النظر عما قاله في المقابلة وما فعله وقاله لاحقاً لعملاء لحد، سآتي إلى عقلية الراعي لرجل الدين وتعامله مع الإعلام كأنه أحد رعاياه.
*الإعلام ورجال الدين السياسيون
على رجال الدين إن تدخّلوا في السياسة أن يتقبّلوا النقد والرأي الذي لن يعترف بمعادلة راعٍ/رعيّة، في السياسة يصيرون شخصيات عامة يحكون في ما لا يخصّهم متخطّين حدود المسائل الدينية والغيبيات إلى أمور دنيوية تحتمل آراء متنوّعة ومتناقضة كما تحتمل النقد، وطبعاً، النقض. ليس لرجل الدين في المجال السياسي حصانته التي يتمتع بها في مجاله الديني وبين رعيّته. البطريرك لم يستوعب ذلك، لم يستوعب أن هنالك صحافة ستنتقده كرجل دين سياسي، وزيارته هذه التي يصعب أصلاً تجنيبها مسائل سياسية، أغرقها غبطته في السياسة، وفي اتجاه المنافح بشدّة عن عملاء إسرائيل، من هنا لن يتقبّل الكثير من الكتّاب ما قاله في مؤتمر صحافي قبل زيارته: «غير مسموح أن يكتب أيٌّ كان ما يريد، غير مسموح أن يقول أحدهم بأنه يقبل هذه الزيارة أو لا يقبلها».
هذه العقلية القروسطية الظلامية والتسلّطية التي يتصرّف بها رجال الدين، وكبارهم تحديداً ومن كل الأديان والطوائف، لا تنفع إلا مع مؤمنين يرون في أنفسهم رعيّةً لهذا الراعي، لا تنفع مع صحافة لها آراء لن تعجب رجال الدين إن تطرّقت إلى أساس دينهم.

كاتب فلسطيني

www.deyaralnagab.com