logo
مدرسة التجديد الإسلامي: تكليف المرأة في ضوء خلق الإنسان!!
بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 18.03.2015

هذه سلسلة مقالات حول المرأة، وقد بدأت مقالاتي ببحث عن خلق الإنسان، وفي ضوء ما ورد في مسألة الخلق أتابع مسألة تكليف المرأة، ثم سأتابع حول المرأة في ضوء التكليف والخلق.
يثور جدل في الأوساط الإسلامية حول ما إذا كانت المرأة مكلفة كما الرجل أم لا. وتختلف الاجتهادات بـاختلاف المجتهدين وتتعدد بتعدد وجهات النظر التي تختلف في مشاربها والمصادر التي تستند عليها. يشتد هذا الجدل عند البحث في مسألة خروج المرأة إلى العمل العام أو إلى العمـل بهدف كسب العيش. هناك من يرى أن مكان المرأة هو البيت، بينما يرى آخرون أن في هذا إجحافاً وقهراً للمرأة وكبتاً لحريتها وقدراتها. وبين هذين الموقفين هناك من يـرى ضرورة تحديد المجالات التي يمكن للمرأة أن تنشط فيها والأعمال التي يمكن أن يسمح لها بمزاولتها.
حسب الفصل السابق، من السهل جداً الوصول إلى نتيجة حول تكليف المرأة ومجالات نشاطاتها. بما أن المرأة والرجل من نفس واحدة، وبما أنهما يملكان الطاقـات البشرية والإنسانية بتكوينهما الطبيعي المادي والمعنوي، فإنهما بالتأكيد مكلفان بالقدر الذي تسمح به هذه الطاقات. أي أن التكليف ضمن حدود الطاقات ولا يتجاوزها لأن طلب التجاوز يخرج عن الإمكانية الطبيعية. فالإنسان بتكوينه الطبيعي لا يستطيع أن يطير كما الطائر، لكن قدراته وإمكاناته تأذن له بصنع طائرة، وربما تسمح له أن يطير كفرد بجهاز خاص به وذلك تبعاً للتطورات العلميـة والتقنية. الرجل مسؤول أمام الله والمرأة كذلك، وهو مسؤول عن استغلال طاقاته وهي مسؤولة أيضا. ولم تشر أي من الآيات الخلقية التي وردت في سياق البحث إلى عجز أحدهما ونـزع المسؤولية عنه، ولم تشر إلى أي إعاقة لدى أي طرف دون الآخر.
لكن هذا الاستنتاج المستند إلى التكوين الطبيعي للإنسان ذكره وأنثاه لا ينسجم مع آراء بعض المسلمين. حتى أن بعض المسلمين يرون مجالات طبيعية لكل من الرجل والمرأة ولا يجوز لأي منهما أن يتجاوزه. يصر عدد من الكتاب المسلمين على أن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت. فمثلاً يجادل عدة مؤلفين حول حق المرأة المسلمة في العمل خارج البيت والتجارة ويقولون أن الإسلام " لم يمنع المرأة من العمل ، بل أكد العمل الذي خلقت له ". وبعد هذه الجملة يفسرون عملها على أنه العمل البيتي، وبه تهيء البيت للحياة الزوجية، وهي بذلك تكون مربية الأولاد وقائمة على عمل متنوع واقتصادي داخله1.
وفي هذا المجال نجد كاتبا مسلما يقع في تناقض مع نفسه فيقول بأن الشريعة لم تكلف المرأة بخدمة زوجها ولا بخدمة أولادها ولا حتى نفسها. ولم يكلفها بإرضاع أولادها أو حضانتهم وعلى الزوج أن يوفر لها من يخدمها، وإن لم يكن قادراً فعليه أن يخدمها بنفسه2. لكنه بعد عدة صفحات يقول أن المنزل لم يخلق إلا للمرأة. فهي التي تدير الشؤون وتدير الأمور وتجهز الفراش وتحضر الطعام للرجل. وعليها رعاية المنزل والعناية بالزوج والاهتمام بمطالب الأبناء وشؤونهم وتربيتهم تربية تؤهلهم لما ينتظره الغد منهم3.
في تناقضه هذا جعل الكاتب المرأة عند إعفائها من كل تكليف مجرد موضوع جنسي ولا تخدم سوى غرض المعاشرة الجنسية. وفي هذا ما يناقض فكرة السكن والحياة الأسرية، علما أن الغرض الجنسي وحده يحول الإنسان إلى مجرد حيوان شهواني لا يعرف الحياة الأسرية.
ذات المشكلة تظهر لدى كاتب آخر بقوله أن على الزوج أن ينفق على زوجته ويؤمن لها مسكنها وملبسها وزينتها، الخ. لكن المرأة لا تجبر على إرضاع أو طبخ أو غسل إلا بإرادتها. وفي ذات الصفحة يضيف بأنه للرجل على المرأة السمع والطاعة لقاء ما ينفقه عليها4. في الشق الأول يتعامل مع المرأة على أنها بضاعة جنسية وفي الثاني يتعامل معها على أنها أجير أو جارية. لم ينصفها أو يقدر إنسانيتها لا أولا ولا ثانياً.
يتفق محمد الخشت مع القول أن المرأة لا تتحمل أعباء الحياة بقوله " أعفى الإسلام المرأة من جميع أعباء الحياة المعيشية، وكلف الرجل بأن يتكفل بذلك كله5 ". وجاء كاتب آخر ليؤيد عمل المرأة داخل البيت وقال بأن الإسلام لم يتطلب من المرأة أن تعمل خارج البيت وقد أوجد لها الكثير من الأعمال التي تستهلك وقتها داخل البيت. واعتبر خروجها من البيت كارثة6. ويذهب بعض الكتاب إلى حد إلحاق إهانات مباشرة بالمرأة والحط من قدرها الإنساني، فيقول أحدهم أن المرأة كثيرة النسيان وجانبها العاطفي يسيطر عليها أكثر مما يسيطر على الرجل جانبه العاطفي. ويمضي قائلاً بأن نسيان المرأة سبب مشاكل متجددة في حياة الأسرة. فهي إذا أصابتها من زوجها إساءة نسيت حسناته الماضية جملة وجحدت ما كان7". ومن ثم يصفها على أنها " عاطفية، مرهفة الإحساس، دقيقة الجسم، رقيقة الشعر، يسيطر وجدانها على عقلها ….8".
لا يذكر هؤلاء الكتاب الأسس الخلقية أو العلمية التي يستندون عليها في نتائجهم هذه، ولا يذكرون المحاسن الاجتماعية والفوائد التي يمكن أن تجنيها الأمة من هذا التحليل. وكم بودي أن اعرف من أي منهم كيف يمكن خدمة الأمة الإسلامية ونساؤها لا تقوم بأي عمل سوى إطفاء الشهوة الجنسية للرجال، وكيف يمكن أن يواجهوا الأمم الأخرى والحضارات بمثل هذا المنطق.
وهناك من بين الكتاب من يحاول تحديد ما يجب أن تتعلمه المرأة، فمثلاً يقول أحد الكتاب:
أما إذا لم تكن ضرورات تفرض على الأمة إعداد النساء لثقافة معينه فإن المسلمة تعرف أن ثقافتها يجب أن تتجه إلى ما يخدم وظيفتها الطبيعية وهي رعاية البيت: طهي وحياكة وحضانة وعلم التغذية.. ومبادئ الصحة العامة والوقائية.. ودراسة علم نفس الطفل. وقسط من الفنون يساعد على التذوق الفني ويعين على تنسيق البيت9.
مقابل هؤلاء هناك كتاب يرون أن المرأة والرجل متساويان في التكليف، وأن المرأة مناط بها كل تكليف ورد سواء في العقائد أو العبادات أو المعاملات. يقول أحمد خيرت أن عقل الرجل وعقل المرأة لا يتفاوتان وهما قادران على إدراك أمور العقيدة. في المعاملات لا يؤثر فساد الرجل على صلاح المرأة ولا فساد المرأة على صلاح الرجل10". ويرى كاتب آخر أن المرأة مكلفة كما الرجل إلا في حالات استثنائية. للمرأة ذات الأجر الذي يحصل عليه الرجل على ما تقوم به من عمل صالح، وعليها مثل الوزر الذي على الرجل في حال المعصية11. ويقول بأن للمرأة أن تتعلم كما الرجل وتحصيل العلم عبارة عن تكليف12. ويرى حزب التحرير في دستوره أن:
بل يبقى الرجل مخاطبا بخطاب الشارع كمخاطبة المرأة سواء بسواء لأن الخطاب للإنسان وليس للمرأة ولا للرجل. وبناء على هذا لا يوجد في الإسلام حقوق للمرأة وحقوق للرجل أو واجبات للمرأة وواجبات للرجل، بل الذي في الإسلام هو حقوق وواجبات للإنسان بوصفه إنسانا من غير ملاحظة أنه رجل أو امرأة بل بغض النظر عن كونه رجلاً أو امرأة. فالشريعة جاءت للإنسان في كل أحكامها، واستثنيت منها بعض الأحكام فخوطبت بها المرأة بوصفها امرأة بالنص الخاص واستثنيت منها بعض الأحكام فخوطب بها الرجل بوصفه رجلا بالنص الخاص13.
وقد أشار محمد عمارة بوضوح إلى أن المـرأة مكلفة كما الرجل، وأن المرأة والرجل متساويان في الحقوق والواجبات، وهذا هو الفكر الإسلامي الذي جاء ليحرر المرأة من القيود المختلفة التي أثقلتها عبر الزمن14.
واضح من القرآن الكريم أن المرأة مكلفة، وتكليفها لا ينقص عن تكليف الرجل على الرغم من القوامة التي اختص الله بها الرجال والمحافظة النهائية على النوع والتي اختصت بها النساء. فمثلاً تقول آية: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا" ( النساء، 1). وتقول أخرى: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " ( البقرة، 21 ). وتنص أخريات " ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما نزل إليك وما أنزل من قبل وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون * " (البقرة، 1-5).
هذه آيات، ومثلها كثير، توجه الخطاب للناس وللذين يرغبون في الهداية رجالا ونساء دون تمييز من أي نوع كان. لا تمييز بين ذكر وأنثى أو بين أسود وأبيض أو بين عربي أو غير عربي. وهو خطاب متجانس الفكرة وموجه إلى ذوي قدرة على الاستيعاب والفهم. لم تختلف لغته أو تتنوع لتناسب اختلاف العقول أو تنوعها، وإنما تؤكد توجهها نحو طاقات إنسانية قادرة على الاستيعاب والفهم وحمل الرسالة تطبيقا وإيصالا. المرأة قادرة على فهم الخطاب كما الرجل، وهي على ذات المستوى مع الرجل في مؤهلها لاستلام البلاغ. وفي هذا الخطاب رد واضح على الذين يظنون أن المرأة قاصرة عقلا ولا ترتقي إلى مستوى الرجل. لو كان ظنهم صحيحا لكان من الضروري الطلب من الرجال البحث عن سبل شرح البلاغ للنساء أو لكان من المهم وجـود كتاب آخر ميسر حتى تفهمه النساء.
هذا ما أكدته الآيات: " ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها *" ( الشمس، 7-10 ) إنها نفس مؤهلة لأن تتبع طريـق الهداية أو الطريق المعاكسة، ولهذا يعامل الرجال كما النساء عند الحساب فيقول تعالى: " من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلـون الجنـة يرزقون فيهـا بغير حساب " ( غافر، 40 ). ويقول: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " * ( الزلزلة، 7-8 ).
بالخلق أوجد الله سبحانه في النفس الطاقة لاختيار طريق الخير والفلاح أو طريق الشر والخيبة. إنه تكوين طبيعي بحرية اختيار طبيعية لا تخضع للتغيير أو التبديل أو التكيف. هكذا هي المسألة بالنسبة للذكر والأنثى على حد سواء. أي أن المسالة تتعدى مسألة التشريع وتسبقها. الإنسان قادر على اتباع الطريق القويمة وقادر على اتباع الطريق الشريرة بما أهل فيه الله من قوى وطاقات. لقد ألهمت النفس هذه الطاقة على الاختيار كنتيجة حاصلة عند التسوية. وبما أن الأمر كذلك، فإن التكليف( بمعنى القدرة ) خلقي أولا ومغروس في الذات الإنسانية حتى لو لم تنزل على الرسل شرائع وتعاليم وكتب. بهذا الإلهام يسير المرء ذكرا كان أم أنثى حياته، وحسب هذا التيسير تصطبغ حياته وتعرف سيرته. ومن السهل أن نلاحظ تاريخيا وحاضرا أناسا كانوا خيرين أوهم بالفعل أصحاب خير وعمل صالح دون أن تصلهم رسالات سماوية أو دون أن تستقر في قلوبهم، وأناسا كانوا شريرين أو هم بالفعل شريرين دون أن تعرض عليهم الرسائل والشرائع. بمعنى أن المقدرة على تفسير الخطأ من الصواب متأصلة خلقاً في الإنسان.
جاءت الشريعة الإسلامية لتؤكد هذا التكليف ولتنظمه، ووضعت له الضوابط والمعايير وذلك من خلال البينات والثواب والعقاب. بينت الشريعة أوامر الله ونواهيه، وفي أغلبها بصيغة المذكر التي تنسحب على الذكر والأنثى إلا إذا كان هناك تخصيص، وعليها قال سبحانه: " من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " ( النساء، 24 ). وأكد بالقول: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " ( النحل، 97 ). وقال: " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى …. " ( آل عمران، 195 ). تقر هذه الآيات أن هناك أعمالاً يقوم بها الذكور وتقوم بها الإناث، وتقرن هذه الأعمال بالإيمان حتى يكون هناك جزاء حسنا في الدنيا والآخرة. ولا أجد أن العمل الصالح قد تم حصره في البيت أو خارج البيت، في سبيل المصلحة الخاصة أو العامة، لأمة المسلمين أو للإنسان ككل. فما دام عملاً صالحاً قائماً على الإيمان فهو يستحق الثواب. ولا أعتقد أن التأكيد في هذه الآيات على الذكر والأنثى جاء عفوا أو صدفة. لا توجد عفوية أو مصادفة في القرآن الكريم، واعتقد أن التأكيد جاء لصد إجحاف قد يلحق بالذكر أو بالأنثى من قبل الأمة أو الأفراد أو الجماعات لأسباب لا علاقة لها بالتشريع الإسلامي. وهذه أسباب قد تكون ناجمة عن عادات أو تقاليد أو ممارسات سياسية ظالمة أو توجهات اقتصادية تستغل الإنسان وتقلل من قيمته. وترك العمل الصالح مفتوحاً بدون محددات أو تقييدات وتم التأكيد على أنه يعمل من قبل الذكر ومن قبل الأنثى. وفي هذا تأكيد على أن العمل الصالح، مهما كان نوعه، مفتوح أمام الذكور والإناث، وبالإزاحة، نستنتج من هذا الآيات أن العمل الشرير مغلق أمام الطرفين، الشيء الذي تؤكده آيات أخرى.
ومثلما ورد الجزاء الحسن، ورد أيضاً العقاب لكل من الذكر والأنثى. قال تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله " ( المائدة، 38 ). وقال: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " ( النور، 2 ). لم يخفف الله العقاب على الأنثى لأنها، حسب ما يرى البعض، أقل عقلا أو أكثر شهوة أو أقل دينا، ولم يثقله على الرجل.
تحدث القرآن الكريم بصيغة واضحة حول الموضوع فقال: " إن المسلمين والمسلمات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيماً * وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا" ( الأحزاب، 35-36 ). وقال بخصوص العصاة: "المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون * وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم" ( التوبة، 67-68 ).
وجاء في التعليمات التفصيلية ما يؤكد على أن الخطاب موجه للذكور والإناث على حد سواء بدون تمييز. ورد في القرآن على سبيل المثال: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم … وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن " (النور، 30-31). وورد: " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن " ( الحجرات، 11 ). وأكد المسؤولية الفردية عند الحساب دون تمييز أيضاً، فورد: "كل امرء بما كسب رهين" (الطور، 21). وورد " كل نفس بما كسبت رهينة " ( المدثر، 38 ). وورد: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ( فاطر، 18 ).
ليس هذا فحسب، وإنما يتعاون المؤمنون والمؤمنات في القيام بالتكليف ولا يوجد انتقاص لدور أي منهما في هذا التعاون. فيقول سبحانه: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم " ( التوبة، 71 ). وهذه آية تنسجم تماما مع فكرة التكامل الواردة خلقاً. وقد جاءت تشريعاً معززا للفكرة الخلقية فيبقى المرء معها منسجما داخليا مع ذاته ومع الآخرين ذكورا وإناثا داخل المجتمع. تأمر المرأة بالمعروف وهي مكلفة بذلك، وتنهى عن المنكر وهي مكلفة بذلك أيضا. وقد أكد سبحانه هذا التكليف في أصول البيعة كدليل على أنه جزء لا يتجزأ من حياة المرأة، فقال: " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن إن الله غفور رحيم " ( الممتحنة، 12 ).
هناك من يرى أن المرأة مكلفة بالشعائر كما الرجل لكنها معفية من الإنفاق والكسب. هذا الرأي لا علاقة له بالإسلام لأن المرأة مؤهلة بالخلق للكسب ومطالبة شرعا بالإنفاق والتصدق ودفع الزكاة، الخ. ربط القرآن السعي بالخلق لكل من الذكر والأنثى وهذا أمر لا يغيب عن الفطنة. فهذا المخلوق الذي هو الإنسان فطر على طاقات وحاجات. حاجة الإنسان إلى الطعام طبيعية والسماء لا تمطر عليه طعاما جاهزا، وكذلك الأمر بالنسبة للملابس واتقاء البرد والحر. ومع هذه الحاجة الطبيعية سلحه الله بطاقة السعي. قال تعالى: " وما خلق الذكر والأنثى * إن سعيكم لشتى * فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى" ( الليل، 3-10 ). ربطت الآيات الخلق بالسعي والعطاء والتقوى وحسن الجزاء، وبالمنع والكذب وعسر الجزاء. إنها حلقات مترابطة من الخلق والتشريع والوعد والوعيد. يسعى المرء ويجد ويجتهد، وكل امرء يختار ما يراه مناسباً من طرق السعي فتتعدد السبل وتتكامل الجهود. وجاءت آية أخرى لتؤكد هذا الربط: " إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى" ( طه، 15 ).
فضلاً عن التشريع المرتبط بالتكوين الخلقي، أمرنا الله ذكوراً وإناثا بالسعي بقوله: " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور " ( الملك، 15 ). وبقوله: " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون " (الجمعة، 9-10). وفي سياق وصفه للجنة التي سيجزى بها المؤمنون على ما فعلوه في الحياة الدنيا يؤكد القرآن: " إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا " (الدهر، 22). والسعي هنا بعمومه ويشمل السعي نحو إقامة الشعائر ونحو علاقة المؤمن بالعالم خارج ذاته.
من الوارد أن يتبع التباين الجسماني بين الذكر والأنثى تباين وظيفي. بل هذا ما هو مؤكد في القرآن الكريم من حيث القوامة وحضانة الأجنة. وقد سبق أن تمت الإشارة إلى التكامل بين الذكر والأنثى، وفي هذا ما يتبعه بالتأكيد تكامل وظيفي. لا يحدد القرآن تفاصيل وظيفية لكل من الذكر والأنثى، وفي هذا ما يتمشى مع الفكرة الإسلامية ككل والتي تضع المبادئ العامة أمام الإنسان، وللمؤمنين بعد ذلك أن يجتهدوا فيما يخدم الحق والأمر بالمعروف، وفيما يمكن أن يبتعد عن ذلك. فضمن الطاقات التي فضل الله بها الذكور والإناث، يستطيع الناس عموما تكييف أشغالهم وأعمالهم حسبها. ولا يوجد من بين هذه الأشغال والأعمال ما هو عصي بصورة مطلقة على ذكر أو أنثى إلا تلك التي تم تحديدها خلقا أو بالطبيعة. ولهذا جاءت الآية الكريمة تؤكد على هذين البعدين، الطبيعي وغير الطبيعي: " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما " ( النساء، 32 ).
هناك مقومات طبيعية لا يمكن للذكر أو الأنثى أن يتجاوزاها، لكنهما عدا ذلك يستطيعان شق طريقيهما والاكتساب بما يراه كل واحد منهما ضمن طاقاته.
ضمن هذا التكليف الذي على المرأة ولها أن تفي أو تقوم به، هل هي مكلفة بالجهاد؟ يقول عبد الأمير الجمري أن الإسلام أعفاها من الجهاد وأسقطه عنها15. هذا الرأي يخالف بالتأكيد فكرة تكليف الإنسان بالطبيعة والمؤمن بالشريعة، ولا يوجد ما يستند عليه. فمثلا قال تعالى مخاطباً المسلمين: " انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " ( التوبة، 41 ). وقال: " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير " ( التوبة، 38-39 ). والآيات التي تدعو المسلمين إلى الجهاد كثيرة، وهي لا تخص الذكور دون الإناث.
إذا رأى المسلمون تحت ظروف معينه ألا تنفر النساء، أو ألا ينفر كل الرجال فهذا شأنهم وهو خاضع لتقديراتهم لظروف جهادهم في حينه. وإذا رأوا أن نفير النساء جزئيا ضروري لسبب أو لآخر، فلهم ذلك. أما القول بأن المرأة غير مطالبة بالجهاد إسلاميا فغير صحيح ولا يرتكز على أي منطق إسلامي. ربما يجد بعض المسلمين أن القتال يحتاج إلى مجهود عضلي لا تقوى عليه النساء مثل حمل السيف أو قيادة دبابة ويستنتجون أن المرأة معفاة من الجهاد. لكن ظروف القتال تتغير باستمرار وهي ليست خاضعة لنمط معين أو لأدوات محددة، ومن المحتمل، بل من المؤكد، أن تتحول المعارك إلى مجرد ضغط على أزرار فتنطلق قذائف الدمار. وبما أن هذه المعارك لا تحتاج إلى جهود عضلية فإنه من المحتمل ان تكون أبطالها نساء.
ولهذا من المهم ألا يصدر المسلمون أحكامهم على الأمور حسب ظروف زمانهم ومكانهم ويعتبرونها صالحة لكل الظروف في كل زمان ومكان. المبدأ يبقى قائما في كل زمان ومكان، لكن تطبيقاته تتباين حسب تباين الظروف والأزمنة والأمكنة. وسأعود لمناقشة هذه الفكرة فيما بعد بتفصيل.
خلاصة
من المهم أن يدرك قارئ الإسلام والمسلم أن الإسلام ليس دينا للعرب فقط وإن كان بلسان عربي، إنه للناس كافة عبر الزمان والمكان. وقد جاءت المبادئ الإسلامية لتكون ممكنة التطبيق ضمن حدود الطاقات الإنسانية والبشرية الموجودة خلقا وضمن الزمان والمكان على مر الأجيال والحقب التاريخية لكل شعوب الأرض. ولهذا لا تخضع هذه المبادئ لمفاهيم أناس معينين في ظروف تتميز بعادات وتقاليد خاصة، ويجب إخضاع المفاهيم الاجتماعية لهذه المبادئ إذا كان للمسلم ألا يزيغ ولا يطغى.
يتم التعامل مع المرأة إسلامياً، من زاويتي الخلق والتكليف، على أنها إنسان متكامل قادر على شق حياته في تكامل مع الرجل. المكلف يتحمل مسؤولية، والمرأة مسؤولة أمام الله كما هي مسؤولة أمام الأمة عما كرست جهدها واستغلت طاقاتها. هذا هو الأساس الإسلامي وهذه هي القاعدة النظرية الشرعية التي يجب الاستناد عليها. وهي قاعدة تشكل المرجعية لأي اجتهاد فقهي بخصوص الحلال والحرام. وهي تنفي تبعية المرأة وافتراضات عجزها وضعفها الذي يتميز عن ضعف الإنسان بصورة عامة. فالذي يظنه البعض أنه ضعف في المرأة قد يكون مصدر قوة، وإذا كانت المرأة ضعيفة في زاوية معينه نسبة للرجل فإنها قد تكون قوية في زاوية أخرى.
المهم ألا نلصق بالشرع والخلق الإلهي قيمنا ومفاهيمنا ونجبر الإسلام على تبنيها. علينا قراءة الإسلام كما هو وأن نبني اجتهاداتنا على ما هو قائم. هذا هو المنطق العلمي السليم والذي هو بذاته المنطق الإسلامي. فلا ضرورة لأن يقول قائل، على سبيل المثال، أنه لا يجوز للمرأة إسلاميا أن تعمل في محجر أو أن تصلح الآليات. هذا كلام غير إسلامي ولا علاقة له بالإسلام. المجال مفتوح أمامها لأن تعمل في محجر إن هي أرادت، ولها أن تقيم هي أوضاعها الجسمانية وغير ذلك لتقرر فيما إذا كان مثل هذا العمل مناسبا لها أم لا. وقد أودع
الله في الإنسان قوى وطاقات ساعده بالتأكيد على اتخاذ القرار المناسب. فلا ضرورة لأن أغرق وأغرق غيري في قضايا بديهية وساذجة تستهلك الوقت والجهد بلا فائدة.
*الهوامش
1- إبراهيم زيد الكيلاني وزملاؤه، الفكر العربي الإسلامي، ص 334-335.
2- محمود بن الشريف، القرآن ودنيا المرأة، ص 108.
3- م س، ص 112.
4- أحمد زكي تفاحة، المرأة والإسلام، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1979، ص 44.
5- محمد عثمان الخشت، وليس الذكر كالأنثى، القاهرة، مكتبة القرآن، ص 105.
6- عبد الأمير منصور الجمري، المرأة في ظل الإسلام، ص 185.
7- محمود بن الشريف، م س، ص 46.
8- م س، ص 56.
9- عبد المتعال محمد الجبري، المرأة في التصور الإسلامي، ص 65.
10- أحمد خيرت، مركز المرأة في الإسلام، ط3، القاهرة، دار المعارف، 1983. ص 35-36.
11- خالد مصطفى عادل، المرأة كما يريدها الإسلام، الكويت، دار حواء، 1994.
12- م س، ص 18.
13- حزب التحرير، مقدمة الدستور، 1963، ص 256.
14- محمد عمارة، معالم المنهج الإسلامي، ط2، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، الولايات المتحدة، 1991، ص 153.
15- الجمري، م س، ص 217.


www.deyaralnagab.com