logo
الرئيس والمقاول !!
بقلم : حسن نافعة  ... 19.09.2019

اسمان يتصدران المشهد السياسي الراهن في مصر: عبد الفتاح السيسي الرئيس، ومحمد علي المقاول. الأول: يدير الدولة المصرية بقبضة من حديد ويهيمن من خلال أجهزته الأمنية على كافة مفاصل السلطة فيها، وقام مؤخرا بتعديل الدستور كي يضمن لنفسه البقاء على قمة هرم السلطة حتى عام 2030.
والثاني: مقاول شاب ظهر فجأة على مسرح السياسة، بعد أن قرر الهرب إلى إسبانيا والبوح من هناك بما يدعي معرفته عن فساد النظام، الذي ترعرع في أحضانه، عبر سلسلة من الفيديوهات التي راح يبثها تباعا، متقمصا دور البطل الشعبي، القادر على ملء فراغ تعاني منه الحياة السياسية المصرية بشدة في المرحلة الراهنة. ولأن الرئيس قرر أن يرد بنفسه على اتهامات المقاول، فقد انكشف ستار المسرح السياسي في مصر عن مشهد يكاد من فرط عبثيته أن يتحول إلى لغز في حد ذاته. فكيف يمكن أن نفهم ما يجري؟
يرى البعض أنه نتاج طبيعي للدور الذي تقوم به المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية المصرية، وإصرار هذه المؤسسة على استمرار سيطرتها على مقاليد السلطة، منذ أن استولت عليها عام 1952 إلى الحد الذي دفعها للتدخل لإجهاض ثورة يناير، التي كانت في حقيقتها ثورة على «حكم العسكر» وليس فقط على شخص أو نظام مبارك. غير أن هذه الرؤية تفترض أن دورها هو امتداد للدور الذي تقوم به منذ 1952، وهو افتراض غير صحيح. فما يجري في مصر اليوم لا علاقة له في الواقع لا بالمشروع الوطني لثورة يوليو ولا بنظامها السياسي. ربما يقول قائل إن السيسي وصل إلى السلطة بالطريقة التي وصل بها جمال عبد الناصر، أي عبر انقلاب عسكري أطاح بحكم مدني ديمقراطي، وأنه يؤسس لمشروع جديد للنهضة يشبه مشروع عبد الناصر، ومن قبله محمد علي (الوالي)، وهذا غير صحيح. فلم يصل السيسي إلى السلطة عبر تنظيم سري التقى أعضاؤه حول مشروع وطني يريدون تحقيقه، مثلما فعل عبد الناصر، أو من خلال «آلية توريث بالاختيار»، كما حدث للسادات ومن بعده مبارك، وإنما وصل في ظروف وملابسات مختلفة تماما، وبجهد شخصي يعكس طموحات رجل وضعته الظروف والملابسات في موقع مكنه من استغلال تناقضات ثورة يناير، من ناحية، وأخطاء جماعة الإخوان، من ناحية أخرى. ومن المفارقات أن يكون الدكتور مرسي هو نفسه من أتاح للسيسي هذه الفرصة، ليس لأنه عينه وزيرا للدفاع، وإنما لأنه، حين فعل، قام بكسر قواعد الأقدمية التي تحظى باحترام كبير داخل المؤسسة العسكرية، محدثا بذلك ثغرة خطيرة مكنت السيسي لاحقا من إحكام قبضته على هذه المؤسسة، وتسخيرها لخدمة طموحاته الخاصة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن أخطاء جماعة الإخوان، خاصة تلك التي ارتكبتها عقب وصول مرسي إلى موقع الرئاسة، هي التي مهدت الطريق لاندلاع مظاهرات 30 يونيو، التي استغلها السيسي، وليس من المستبعد أن يكون قد شجع على قيامها أيضا، لتبرير ما قام به من خطوات بعد ذلك، تؤكد أنه كان يخطط للوصول للسلطة منذ أمد بعيد، وأن خريطة الطريق التي أعلنها بنفسه يوم 3 يوليو 2013 لم تكن بالنسبة له سوى مرحلة يرغب في طي صفحتها بسرعة، بعد أن تستنفد أغراضها، وتحقق الهدف من ورائها، ألا وهو تمهيد الطريق لكي يبدو ترشحه للرئاسة وكأنه جاء بناء على طلب وإلحاح الجماهير، وهو الطعم الذي ابتلعته رموز فكرية وسياسية عديدة، في مقدمتها محمد حسنين هيكل، الذي لعب دورا حيويا في الترويج لمقولة تعتبر السيسي «مرشح الضرورة». فما إن نجح في تثبيت صورة «البطل المنقذ» الذي استدعته الجماهير لتخليص البلاد من حكم الإخوان، حتى راح يضيف إليها رتوشا تضفي عليه مظهر من لا يتردد في التضحية بكل ما يملك من أجل مساعدة مصر على النهوض، وهو ما بدا واضحا حين توجه إلى أحد البنوك مصحوبا بحشد إعلامي ضخم لتقديم إقرار بالتنازل عن نصف ثروته لصالح صندوق «تحيا مصر». وما إن تمكن من تثبيت أقدامه في الحكم حتى بدأ يصدر تصريحات توحي بأنه مبعوث العناية الإلهية، وراح يكثر من ترديد الآية الكريمة «يعطي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء»، ويعتبر نفسه «طبيب الفلاسفة»، ويؤكد أنه لا يتخذ قرارته إلا بعد «استخارة»، ومن ثم فلا حاجة به إلى «دراسات جدوى» وإلا لما استطاع إنجاز أكثر من 20% مما تحقق بالفعل. لذا كان من الطبيعي أن يتسرب إلى نفوس الكثيرين شعور بالقلق وأن تثور تساؤلات حول طبيعة التركيبة النفسية والمزاجية للرئيس السيسي.
محاصرة نشاط الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وهيمنة الدولة على وسائل الإعلام، أدتا لتضخيم ظاهرة محمد علي وأضعفت موقف الرئيس
بالتوازي مع هذا الشعور المتزايد بالقلق، راح الناس في مصر يتابعون نتائج السياسات المعتمدة على مدى السنوات الخمس المنصرمة، ولم تكن بدورها مطمئنة، فرغم الضجيج الإعلامي الهائل حول «منجزات الرئيس» ومشروعاته الكبرى: كتفريعة قناة السويس، والأنفاق التي تصل سيناء بالوادي، والمدن الجديدة، والصوب الزراعية وغيرها، إلا أن المواطن العادي لم يشعر بتحسن يذكر في أحواله المعيشية، باستثناء ما لمسه من تحسن واضح في كفاءة شبكة الطرق، بل على العكس ازدادت أحواله سوءا، وتدنت مستويات المعيشة إلى درجة خطيرة، خاصة بالنسبة للشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة والطبقات الفقيرة. فقد تراكمت الديون على مصر خلال السنوات الخمس المنصرمة بوتيرة غير مسبوقة في تاريخها الحديث (وصلت الديون الخارجية إلى أكثر من 106 مليارات دولار، والداخلية إلى اكثر من 5 ترليونات جنيه بنهاية يونيو الماضي)، وبلغت نسبة من هبطوا إلى تحت خط الفقر في مصر ثلث إجمالي عدد السكان، بزيادة 5 ملايين مواطن، خلال الولاية الأولى للسيسي. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن ذلك كله كان يجري في أجواء تتسم بسيطرة تامة على المجال العام من جانب الأجهزة الأمنية، وأن السجون امتلأت برموز المعارضة من مختلف الاتجاهات. ومع ذلك فإن القشة التي قصمت ظهر البعير، جاءت حين أقدم السيسي على تعديل الدستور، كي يظل محتفظا بالسلطة حتى عام 2030. تلك كانت الأجواء التي ظهر فيها المقاول محمد علي فجأه، ومعه فيديوهاته التي راح يبثها من إسبانيا عبر شبكة الإنترنت، فقد تبين من هذه الفيديوهات أن محمد علي يمتلك شركة تعمل في مجال المقاولات منذ خمسة عشر عاما، وأن هذه الشركة قامت بتنفيذ أعمال كثيرة ضمن مشروعات متعددة يشرف الجيش على تنفيذها، ولها مستحقات مالية ضخمة لم تستردها، وأنه (أي محمد علي) قرر فضح كل ما يعرفه عن فساد يراه مستشريا في كل أجهزة الدولة، وقام بذكر معلومات ووقائع محددة يصعب التحقق من صحتها. وقد لا يكون من المفيد أن نتوقف هنا عند مضمون ما قاله المقاول، فهو متاح على شبكة الإنترنت، ولا أن نبحث في حقيقة الأسباب التي دفعت المقاول للقيام بما أقدم عليه، فهي لا تهم كثيرا في هذه المرحلة على الأقل، ولا أن نتحرى عن مدى مصداقية ودقة ما أدلي به من معلومات، فالعبرة هنا لا تتعلق بالدقة أو المصداقية بقدر ما تتعلق بالقابلية للتصديق، وما قد تثيره من ردود أفعال. ولأن ملايين الناس تابعت فيديوهات محمد علي وتفاعلت معها بشدة، إلى الدرجة التي دفعت الرئيس السيسي للرد مباشرة على ما ورد فيها من اتهامات، فمن الطبيعي أن نتوقف عند من النقاط التي تلفت النظر وتحظى بأهمية خاصة في هذا السياق، في مقدمتها: أسباب اهتمام النخبة السياسية، بجناحيها الحكومي والمعارض، بما يقوله أو يبثه مقاول شاب محدود التعليم، وما إذا كانت ردود الرئيس على الاتهامات التي وجهها له قد نجحت في احتواء الأزمة؟ أم أنها مرشحة للتفاعل أكثر وسيكون لها ما بعدها.
عوامل كثيرة أعتقد أنها ساعدت على التفاف الناس حول محمد علي، وتحوله إلى ظاهرة، بعضها يتعلق بمهنة أتاحت فرصة الحصول على معلومات مهمة من مصادرها الأولية، وبعضها الآخر يتعلق بسمات خاصة في شخصيته، وطريقة أدائه، فهو مقاول يتحدث عن معلومات ووقائع مباشرة كان طرفا فيها بنفسه ويمكن التحقق من معظم ما ورد فيها بأساليب ووسائل أخرى متنوعة، وقد تكون لديه دوافع شخصية ونفسية للبوح بهذه المعلومات، كالانتقام ممن أساءوا معاملته أو استولوا على حقوقه، أو طلبا لمزيد من الشهرة، وقد تكون وطنية، كالرغبة في تصحيح أوضاع بدأ يعتقد، ربما بعد صحوة ضمير مفاجئة أنها باتت غير محتملة، وقد يكون تحركه قد تم من تلقاء ولحساب نفسه، أو بتشجيع من آخرين ولحسابهم. لكن المهم أن المعلومات التي أدلى بها هي على درجة كبيرة من الخطورة، وقد تساعد على هدم الصورة الإعلامية التي بذل رئيس الدولة جهدا ووقتا كبيرين لتثبيتها في أذهان الناس، بل ربما تؤدي إلى فقدان الثقة فيه، وهو الجانب الذي دفع الرئيس للرد بنفسه في مؤتمر للشباب عقد خصيصا لهذا الغرض ورتب على عجل. وربما يكون من السابق لأوانه قياس مجمل التأثيرات الإيجابية أو السلبية لهذا الرد، ولا جدال في أن حالة الفراغ السياسي، الناجمة عن محاصرة نشاط الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وهيمنة الدولة على وسائل الإعلام، أدت إلى تضخيم الظاهرة وأضعفت موقف الرئيس، ومع ذلك فمن المؤكد أن هذا التدخل لم يضع نهاية لمسلسل «الرئيس والمقاول»، الذي يبدو أنه سيستمر لبعض الوقت وسيكون له ما بعده.

*كاتب وأكاديمي مصري...المصدر : القدس العربي

www.deyaralnagab.com